تتزايد أعداد الاجئين السوريين الذي يغادرون تركيا باتجاه أوروبا في رحلة لجوء جديدة بحثًا عن الاستقرار وحياة أفضل، لكن المضي في دروب الهجرة لطالما كان مخاطرة قاسية ومروعّة، وبات من يريد اللجوء يترك لأهله وصية لأنه يعلم أن مغامرته قد تودي به، بردًا أو جوعًا أو غرقًا، ولكن هل فعلًا كان الأمر يستحق؟ تساءل أحد ضيوف هذا التقرير الذي نتتبع خلاله قصة شابين اختطفهما الموت وهما على طريق الهجرة.
مات غرقًا
“توفي عمران في طريقه للبحث عن الحياة الكريمة التي يبتغيها كل شاب من تعليم وصحة وعمل واستقرار”، يضيف أخوه “لم يكن يعلم عمران أن نهايته ستكون في نقطة بعيدة عن وطنه وهو خارج إلى أوروبا من تركيا وهو الذي ظل لسنوات ضمن فريق دفن الشهداء في مدينته”، كان الشاب محمد عمران ثائر هدلة في الصف التاسع الإعدادي عندما انطلقت صرخات الحرية في مدينته داريا بريف دمشق.
لم يتوان الشاب اليافع عن الانخراط في الحراك الطلابي السلمي المنادي بالحرية لسوريا وشعبها من نظام الأسد، مرت السنوات ليشهد عمران كل التغيرات التي مرت على سوريا خلال سنوات الثورة، حيث كان شاهدًا على واحدة من أبشع المجازر التي ارتكبها عناصر النظام في مدينته “داريا” وقتلوا أكثر من 700 شخص مدني دون رحمة.
عاش عمران حصارًا قاسيًا مع أهله تحت وطأة القصف والجوع الذي استمر لما يقارب 4 سنوات، ثم كان ضحية عملية تهجير استهدفت جميع سكان المدينة إلى مناطق الشمال السوري، عاش الشاب السوري في الشمال السوري لفترة من الزمن ثم قرر الخروج إلى تركيا وبالفعل عاش بها 5 سنوات، لكن الحياة الاقتصادية المتردية وظروف العمل الصعبة جعلته يقرر الخروج إلى أوروبا.
خلال فترة عمله في تركيا أصيب عمران بانزلاق فقرات في العمود الفقري نتيجة الأعمال الشاقة، إضافة إلى أنه كان متأثرًا بإصابته خلال أيام الحصار بغازات سامة ألقاها نظام الأسد على مدينته وأثرت على حاسة الشم، وفي المشافي التركية أجرى عملية جراحية في أنفه، لكن تبعاتها كانت أسوأ من الفترة التي سبقتها، راجع المشفى ليقولوا إن عليه إجراء عملية أخرى لكنها خطيرة.
في هذه الأثناء قرر عمران الخروج إلى أوروبا عبر طرق التهريب التي يتبعها السوريون عادة، وكما يقول أخوه حسن هدلة في حديثه لـ”نون بوست”: “عمران كان يبحث عن علاج وحياة أفضل ويعرف خطورة الطريق، لكن لم يكن لديه أي خيار آخر”، ويضيف حسن أن أخاه “حاول الخروج عدة مرات لكنه لم ينجح وكان يقبض عليه حرس الحدود اليوناني ويقومون بضربه مع أصدقائه ويرسلونهم عراة إلى تركيا”.
منذ زمن لم ير والديه
يكمل حسن قصة أخيه قائلًا: “كانت أحلام أخي التي لطالما تمنى أن تتحقق هي رؤية أبي وأمي اللذين لم نرهما منذ 5 سنوات، وكان يقول عندما أحصل على إقامة في أوروبا أستطيع الذهاب لأهلي وأراهم، وكان عمران يعتبر الابتعاد عن الأهل أصعب من حياته في المعتقل والحصار والقصف والبراميل التي كان سببها الأسد وميليشياته الإجرامية”.
بدأ عمران بحزم أمتعته مع رفاقه، ودع أخاه وبدأ رحلته، يقول حسن: “ودعني وانقطع اتصاله عني لمدة يومين، بعد ذلك اتصل بي ابن عمي الذي كان قد خرج معهم وقال لي أنا سأعود، حينها علمت أن أخي لن يعود معه، وعندما عاد أخبرني أن الشرطة اليونانية قبضت على الباقي وبينهم أخي، بقيت أربعة أيام لا أعرف خبرًا عن أخي أبدًا وكان أمي وأبي في خوف كبير على مصير أخي”.
أتى اتصال مفاجئ من جوال عمران إلى أخيه، ليصعق بالخبر أن أخاه وجد غريقًا في أحد الأنهر ما بين تركيا واليونان حيث كان يحاول الرجوع إلى تركيا، كان من اتصل هم شباب سوريون وجدوا جثة عمران ودفنوه قريبًا من النهر، وأرسلو موقع القبر وصورته إلى أخيه حسن.
تواصل حسن بحسب ما قال مع السلطات التركية التي بدورها تابعت الأمر ووجدت أن قبر عمران في أراضيها، حيث جلبت جثته وسلمته لأخيه بعد إجراءات استمرت ساعات طويلة.
يقول حسن: “تعرفت على جثمان أخي وكانت لحظات كالصاعقة علينا، وبعد ذلك جاء المدعي العام ليأخذ إفادتي، عندها انهمر المدعي بالبكاء على ما يحدث للشباب الذين قرروا الذهاب مخاطرين بحياتهم من أجل حياة كريمة أو علاج وقال لي في هذا الأسبوع أتى إلينا أكثر من 11 جثةً، بينهم جثة لم يتبق منها إلا 13 كيلوغرامًا من العظام وكلهم مجهولو الهوية”. يضيف حسن “ما زال لديّ ابن عمي مفقود على الطريق لا نعرف عنه أي خبر”.
قصة عمران حصلت وما زالت تحصل مع مئات الشبان السوريين الراغبين بالهجرة إلى أوروبا للحصول على حياة واستقرار بعيدًا عن سوء الأوضاع الأمنية والأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهونها في سوريا وبلاد اللجوء خاصة تركيا.
يذكر أن أوروبا عززت دعمها المقدم إلى أثينا لزيادة حراسة الحدود بالآليات المختلفة، وتشكل منطقة نهر إيفروس الممتدة على مدى 200 كيلومتر الحدود البرية الوحيدة بين تركيا واليونان، تضيق بعض أجزائه إلى مئات الأمتار فيما يبلغ عرض أجزاء أخرى بضع كيلومترات.
غرق جميع أفراد عائلته أمام عينيه
شاب سوري يروي قصته المفجعة خلال محاولته اللجوء إلى #أوروبا
(+18 – يحتوي الفيديو على مشاهد حساسة قد تكون قاسية على البعض )
WARNING: This video contains graphic content and may be upsetting to some people#تلفزيون_سوريا #نيو_ميديا_سوريا pic.twitter.com/uoM8bfGpNd— تلفزيون سوريا (@syr_television) September 16, 2022
تجمّد حتى الموت
بات هذا النهر يسلب حياة الكثير من المهاجرين الذين يعبرونه على متن قوارب صغيرة، ولطالما وُجهت الاتهامات إلى حرس الحدود اليوناني بتعامله العنيف وتنفيذه عمليات صد بحق المهاجرين لإرجاعهم بشكل قسري إلى الضفة التركية، ضمن ممارسات تخالف القانون الدولي وتنتهك حق طالبي اللجوء في الحصول على الحماية، وتعتبر السلطات اليونانية نهر إيفروس منطقة عسكرية بالكامل، ولا تسمح لأحد بالاقتراب من النهر.
الإجراءات اليونانية التعسفية بحق المهاجرين الذين تقبض عليهم يؤكدها حامد أبو زهرة، وهو شاب سوري قرر محاولة الهجرة إلى أوروبا من تركيا السنة الماضية، فقال في حديثه لـ”نون بوست”: “قررنا الخروج من تركيا بسبب قلقنا على مستقبلنا هنا، تكلمنا مع المهرب واتفقنا معه للخروج إلى اليونان عبر نهر إيفروس ومن ثم نكمل مشيًا لنصل إلى منطقة سالونيك”.
يضيف أبو زهرة ابن مدينة حماة أنه كان برفقة أولاد خالته وبعض الشبان السوريين، وباشروا رحلتهم من مدينة أدرنة التركية ومن ثم ركبوا بقارب مطاطي، مضيفًا “ما لبثنا أن دخلنا إلى الطرف اليوناني من النهر، عندها تفاجأنا بإطلاق نار باتجاهنا من طرف الشرطة اليونانية التي حاولت إغراق القارب، لكنهم أرسلوا إلينا قاربًا واعتقلونا وقاموا بإهانتنا”، يشير أبو زهرة إلى أن السلطات اليونانية اقتادتهم إلى “سجن لا يمكن أن يوجد بمثل قذارته في العالم”.
يكمل أبو زهرة قصته قائلًا: “ضربونا ووضعونا في غرفة باردة جدًا ومظلمة ورائحتها كريهة، عدا عن أنهم جردونا من كل ملابسنا ما عدا المايوهات”، يضيف “بقينا أقل من 12 ساعة في السجن لم يقدموا لنا حتى الماء وبعد ذلك أرسلونا إلى الحدود التركية كما نحن دون ثياب أو أي شيء نستر به أنفسنا”، وهنا يخبرنا أبو زهرة عن ابن خالته عادل “24 عامًا” الذي سقط على الأرض بين يديهم عندما وصلوا للحدود التركية.
“كان جسمه أزرق، لم أعرف ماذا حصل به، أصبحنا نمسح عليه بأيدينا من أجل تدفئته، لكننا لم نعلم أنه فقد الحياة نتيجة للبرد والظروف السيئة في السجن اليوناني”، حاول الشباب إيقاظ عادل لكنه لم يستجب حتى استنجدوا بحرس الحدود الأتراك الذين استجابوا وأخذوا عادل. أعدنا جثمانه إلى إسطنبول ودفناه هناك”.
“لم أعد أعرف ماذا أفعل وماذا أقول” يهمهم أبو زهرة، يردف “محرزة أوروبا ليموت من شانها شب متل الوردة؟ والله ما بعرف نحنا بس بدنا نعيش مو أكتر، بس أنا ما بقى استرجي حاول أطلع على أوروبا شو ما كانت حالة الطريق”. يقول أبو زهرة عن عادل إنه كان يبتغي الخروج إلى أوروبا من أجل تأمين عمل كريم يستطيع من خلاله إرسال الأموال إلى أهله في سوريا لأن أوضاعهم سيئة، كذلك كان يريد الاستقرار والزواج من حبيبته التي فجعت عندما علمت بما حصل.
أكبر عدد مهاجرين
عادل ليس الوحيد الذي قضى بردًا على حدود اليونان، فالكثير من الناس يموتون تجمدًا على الحدود اليونانية، خاصة إذا كانوا يحاولون الخروج في فصل الشتاء، وفي الشتاء الماضي توفي 19 مهاجرًا على الأقل تجمدًا من البرد القارس على الحدود التركية مع اليونان وذلك بعدما جردتهم قوات حرس الحدود اليونانية من ملابسهم وأحذيتهم وأجبرتهم على العودة إلى الجانب التركي، حينها اتهم وزير الداخلية التركي سليمان صويلو اليونان بذلك الأمر محملًا الاتحاد الأوروبي مسؤولية ما يجري.
وأظهرت الصور عددًا من المهاجرين وهم يرتدون ملابس داخلية ودون أحذية وقد ماتوا تجمدًا وهم في مناطق زراعية نائية تابعة لولاية أدرنة التركية على الحدود مع اليونان.
وفاة شاب سوري في غابات #اليونان
?توفي الشاب السوري محمد ياسر مهيكل في غابات #اليونان خلال محاولته اللجوء إلى أوروبا وهو من أبناء بلدة #أرمناز في ريف #إدلب وقد نعته عائلته وأقاربه اليوم. #تلفزيون_سوريا pic.twitter.com/FLzxT8l37t— تلفزيون سوريا (@syr_television) September 15, 2022
في بداية العام الحاليّ أعربت الأمم المتحدة عن قلقها من تزايد أعداد الوفيات بين المهاجرين على الحدود بين اليونان وتركيا، وقالت المؤسسة الأممية حينها إن إحصاءاتها تفيد بمقتل 21 شخصًا خلال الشهرين الأوائل من 2022 فيما فُقد في العام الماضي أكثر من 55 شخصًا في هذا الطريق، وفي العموم قالت وكالة الهجرة الأممية، إنه توفي ما يقرب من 3500 شخص، عام 2021، في أثناء محاولتهم دخول الاتحاد الأوروبي عبر الحدود البحرية والبرية، ما يجعله العام الأكثر دموية للمهاجرين في المنطقة منذ عام 2018، وقالت إن هذه الخسائر البشرية لا تُحتمل وتتطلب إجراءات وتعاونًا بشكل عاجل.
إلى ذلك سجلت وكالة الحدود الأوروبية “فرونتكس” 188 ألفًا و200 حالة دخول غير نظامي إلى الاتحاد الأوروبي خلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 2022، وهو أكبر عدد من المهاجرين الوافدين تم تسجيله خلال الفترة من يناير/كانون الثاني إلى أغسطس/آب منذ العام 2016.
ختامًا، على الرغم من أن الخطر الشديد بات معلومًا للجميع، فإن أعداد الشباب الراغبين في الهجرة تتزايد، ما يلفت الانتباه إلى أن أوضاعهم في البلدان التي يعيشون بها باتت لا تطاق على جميع الأصعدة، ويوجب على الدول زيادة إجراءاتها لإعطاء اللاجئين حقوقهم في البلدان التي يعيشون بها كي لا يموتوا في طرقات البر والبحر.