عاد الصراع المتجدد بين أذربيجان وأرمينيا على إقليم ناغورنو كاراباخ، ليتصدّر الاهتمام العالمي من جديد، بعد أن نجحت أذربيجان في وضع نهاية مؤقتة له عام 2020، بعد سيطرتها على أغلب المناطق التابعة للإقليم في حرب استمرت لـ 6 أسابيع.
الاشتباكات المسلحة التي بدأت مطلع الأسبوع الجاري، أشارت إلى أن الجهود الروسية ما زالت متعثّرة في وضع خارطة طريق واضحة لمعادلة الأمن في منطقة القوقاز، بل تلقي مزيدًا من الضغوط العسكرية عليها، إلى جانب الضغوط التي تواجهها على الجبهة الأوكرانية، إذ نجحت القوات الأوكرانية خلال الأيام القليلة الماضية في استعادة أغلب المناطق التي سيطر عليها الجيش الروسي منذ بدء الحرب، وأصبحت المعارك اليوم تدور على تخوم إقليم دونباس المحاذي للحدود الروسية.
رغم نجاح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في التوصُّل إلى هدنة مؤقتة بين أذربيجان وأرمينيا، دخلت حيّز التنفيذ منذ ليلة الأربعاء، إلا أن الاتهامات المتبادَلة بين الطرفين حول بدء الصراع ما زالت مستمرة، حيث أعلنت وزارة الدفاع الأذربيجانية أن المواجهات بدأت بعد أن قامت المدفعية الأرمينية بفتح النار على عدد من الجنود الأذريين المتواجدين على الحدود، وسقط إثر ذلك 50 جنديًّا.
هذه الاتهامات الأذربيجانية، قابلها رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، باتهامات مضادة، حيث أشار في مداخلة له أمام البرلمان الأرميني، إلى أن القوات الأذربيجانية هي من بدأت بالهجوم، وخلّفت نتيجة ذلك مقتل 49 جنديًّا أرمينيًّا، وأنها ما زالت مستمرة في هجماتها.
أذربيجان واستغلال الفرصة
يشير الانفتاح العسكري الأذربيجاني خلال الأيام الماضية إلى تحول مهم في إدراك القيادة السياسية الأذرية، هذا التحول جاء بعد الرفض الروسي للطلب الأرميني في تفعيل معاهدة الدفاع المشترك بين روسيا وأرمينيا الموقّعة عام 1997، وذلك بسبب الخشية الروسية من فتح باب التدخل الخارجي وتوسيع خارطة الصراع، كما حصل عام 2020، وبالتالي بدأت أذربيجان على ما يبدو تدرك أن التعثر الروسي والظرف الدولي الراهن، يمكن أن يخدماها في توسيع سيطرتها على باقي المناطق التابعة للإقليم.
وليس هذا فحسب، فإن عدم التدخل الروسي حتى الآن، يشير بما لا يقبل الشكّ إلى حرص روسيا على عدم استفزاز تركيا، الحليف التقليدي لأذربيجان في هذا الصراع، خصوصًا بعد الدور الذي لعبته تركيا في الأزمة الأوكرانية، إلى جانب انفتاحها الأخير على نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
هذا بالإضافة إلى أن أذربيجان تحاول الاستفادة من التردُّد الإيراني في دعم أرمينيا، ولعلّ الموقف الإيراني الأخير، والمتمثل بعدم تقديم دعم واسع لأرمينيا في الاشتباكات الأخيرة، يأتي بطريقة أو أخرى متماهيًا مع الموقف الروسي، إلى جانب الحفاظ على حالة السلام البارد مع تركيا.
إذ أظهرت الاشتباكات العسكرية التي جرت بين الطرفَين، أن أرمينيا لم تستفد بعد من دروس الحرب السابقة، وما زالت تلقي أهمية كبيرة لسلاح المدفعية والصواريخ، ولعلّ هذا ما سمح للقوات الأذربيجانية بإلحاق خسائر فادحة بها خلال الأيام الماضية، بسبب سيطرتها الجوية على ساحة الحرب، مستعينة بالطائرات المسيَّرة تركية الصنع، فضلًا عن إجبار القوات الأرمينية الانسحاب من بعض المواقع، بسبب غياب التحصينات العسكرية وانكشافها العسكري أمام القوات الأذربيجانية.
إلى جانب ما تقدم، لم تنجح أرمينيا حتى الآن في تفعيل منظمة معاهدة الأمن الجماعي الموقّعة عام 1992، وهي تحالف عسكري حكومي دولي في أوراسيا، يضمّ دول ما بعد الاتحاد السوفيتي، وعوضًا عن ذلك حاولت روسيا التصرف كوسيط في هذا الصراع، ولهذه الغاية أطلع الرئيس بوتين قادة منظمة معاهدة الأمن الجماعي (روسيا، كازاخستان، أرمينيا، قيرغيزستان، طاجيكستان وأوزبكستان) على جهود روسيا المستمرة لتهدئة الصراع، هذا إلى جانب لقائه المرتقب مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خلال الأيام القادمة.
دور أمريكي أوروبي منتظَر
يمكن القول إن أفضل نتيجة للصراع حول إقليم ناغورنو كاراباخ سيكون الحل الدبلوماسي، خصوصًا في ظل الرغبة الروسية بعدم منح فرصة لتوسيع الصراع، ومن المؤكد أن للولايات المتحدة دورًا هامًّا تلعبه في هذا الصراع أيضًا، وهي تقوم بذلك منذ عام 1992 كرئيس مشارك لمنظمة الأمن والتعاون في مجموعة مينسك الأوروبية.
لكن في السنوات الأخيرة، لعبت روسيا وتركيا دورًا أكثر نشاطًا في التفاوض بين أذربيجان وأرمينيا، في الواقع الرئيس بوتين هو من أخذ زمام المبادرة في التفاوض على وقف إطلاق النار لإنهاء حرب 2020، حيث أرسلت روسيا ما يقارب 2000 جندي حفظ سلام إلى الإقليم، وأنشأت أيضًا مركز مراقبة مشترَك مع تركيا، ما أدّى إلى توقف القتال في العام ذاته، ولكن كما تشهد الجولة الأخيرة من الاشتباكات، لا يزال الصراع الأساسي قائمًا.
كما يتوسّط الاتحاد الأوروبي في المناقشات بين أذربيجان وأرمينيا حول تسوية سلمية أكثر شمولًا، ومن المفترض أن تستمرَّ في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، حيث ستكون القضية الرئيسية هي وضع إقليم ناغورنو كاراباخ والأرمن الذين يعيشون هناك، بالنظر إلى استمرار حالة عدم الاستقرار.
ولعلّ هناك أكثر من سبب يدفع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتهدئة الصراع، أبرزها السعي الأوروبي لتوفير مصادر غاز بديلة للغاز الروسي الذي تمَّ إيقافه للدول الأوروبية، والحديث هنا عن أذربيجان، إلى جانب الجهود الأوروبية لتأمين أكبر مساحة من الحلفاء والشركاء، لتوسيع خارطة الضغط على روسيا، وجعلها محاصرة من جميع الاتجاهات.
وفيما يتعلق بموضوع الطاقة، وهو الجانب الأهم وراء الدور الغربي المتوقع، فإن قيمة الاستراتيجية التي تقف وراء خط أنابيب الطاقة باكو-تبليسي-جيهان، تبلغ 1.2 مليون برميل يوميًّا، وزادت الإمدادات الطاقوية عبر هذا الخط منذ مايو/ أيار الماضي بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا، وتخطط أذربيجان اليوم لمضاعفة الصادرات نحو أوروبا إلى 20 مليار متر مكعب بحلول عام 2027.
والأكثر من ذلك، قد تدرك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أن الصراعات المستمرة بين أذربيجان وأرمينيا قد تجعل هذين البلدَين عرضة للتلاعب والضغط من قبل روسيا، حيث أظهر الغزو الروسي لأوكرانيا كيف تستخدم موسكو وتعزز النزاعات الإقليمية لإحداث نتائج كارثية على جيرانها، إذ يعتبر وضع حدّ للصراع بين البلدَين فرصة مهمة ليس فقط لإنهاء العنف المستمر وسفك الدماء، ولكن أيضًا كمحاولة لسحب ورقة مهمة تلوّح بها روسيا بين الحين والآخر ضد الغرب.