طالما كانت العلاقات المغربية التونسية على أحسن حال، حتى إن حصل خلاف بين البلدَين سرعان ما يتمّ حله وترجع المياه إلى مجاريها، إلا أن الأزمة الأخيرة يبدو أنها ستأخذ وقتًا أطول لحلّها، ذلك أنه يوجد طرف ثالث في الأزمة لا يُريد لها أن تعالَج في الوقت الحالي، ويستثمر في تواصلها لجني مكاسب أكثر.
هذا الطرف هو الجزائر، التي يسعى نظامها جاهدًا لتواصل الأزمة الدبلوماسية بين المغرب وتونس خدمة لمصالحه في المنطقة، ذلك أن حل الأزمة في أقرب وقت له أن يسقط بعض حسابات نظام الرئيس عبد المجيد تبون في الماء.
تواصُل الأزمة
قبل 10 أيام، أعلنت جامعة الدول العربية تسوية الخلاف المغربي التونسي، جاء ذلك في تصريحات أدلى بها الأمين العام للجامعة، أحمد أبو الغيط، خلال مؤتمر صحفي بالقاهرة، في ختام اجتماع مجلس الجامعة على مستوى وزراء الخارجية في دورته الـ 158.
قال أبو الغيط في تلك التصريحات إن الخلاف بين تونس والمغرب على خلفية مؤتمر “تيكاد” تمّت تسويته، و”التقى وزير خارجية المغرب، ناصر بوريطة، ونظيره التونسي، عثمان الجرندي، على هامش اجتماع مجلس الجامعة، في إطار اجتماع تشاوري لمدة ساعة ونصف”.
تسوية سرعان ما نفاها وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، حيث أكّد الوزير المغربي أن موقف بلاده من استقبال الرئيس التونسي قيس سعيّد “الجسيم وغير المقبول” لزعيم جبهة البوليساريو، إبراهيم غالي، في قمة تيكاد 8 التي انعقدت بالعاصمة التونسية يومَي 27 و28 أغسطس/ آب الماضي، “لم يتغيّر”.
يُفهم من هنا أن جهود التسوية التي بذلتها الجامعة العربية بقيادة أمينها العام أبو الغيط، لم تحرز سوى القليل من النجاح، وهو ما يؤكد صعوبة المهمة وتعقُّدها، في وقت تشهد فيه التحالفات الجيوسياسية تغيرات كبرى.
الدعم الاقتصادي والسياسي الجزائري للرئيس التونسي، لم يأتِ إلا بعد أن ضمنَ تبون ولاء سعيّد وعمله بمشورته.
تفجّرت الأزمة بين البلدَين على خلفية استقبال الرئيس التونسي، قيس سعيّد، زعيم جبهة البوليساريو، إبراهيم غالي، الذي شارك في النسخة الثامنة لقمة طوكيو الدولية للتنمية في أفريقيا “تيكاد 8″، بوصفه رئيس “الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية” المعلنة من جانب واحد.
الرد المغربي على التصرف التونسي الأول من نوعه جاء سريعًا، إذ استدعت الرباط في اليوم نفسه سفيرها لدى تونس، حسن طارق، للتشاور، معتبرة أن ما حدث “عمل خطير وغير مسبوق”، وهو ما ردّت عليه تونس بالمثل في اليوم التالي، إذ استدعت سفيرها لدى المغرب، محمد بن عياد، للتشاور.
لم يتوقف التوتر هنا، حيث أعلنت الرباط عبر اتحاداتها الرياضية عدة قرارات أخرى، منها عدم مشاركة المنتخب المغربي في بطولة شمال أفريقيا للكاراتيه، التي تنظَّم في تونس العاصمة في سبتمبر/ أيلول الحالي، كما ألغت بعض الفرق الرياضية المغربية مشاركتها في مسابقات رياضية مقامة في تونس.
ليس هذا فحسب، إذ شنّت بعض المواقع الإعلامية والصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي المغربية “حملة تشويه” ضدّ تونس، طالبت فيها بقطع العلاقات وتعليق التعاون الاقتصادي المغربي التونسي، الأمر الذي ندّدت به النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين.
دور جزائري في تغذية الأزمة
من غير المحتمل أن تشهد الأزمة المغربية التونسية حلًّا في القريب العاجل، فبالنظر إلى تطورات الوضع نرى أن الأزمة التي اندلعت يوم 26 أغسطس/ آب الماضي بين تونس والمغرب حول الصحراء الغربية ستدوم أكثر، ذلك أن الطرفَين مصرّان على موقفهما ولا نية لهما بالتراجع ولو قليلًا لتسوية الأمر.
يرى المغرب أن الرئيس التونسي تجاوز الخط الأحمر للياقة الدبلوماسية، من خلال ترحيبه الكبير بزعيم جبهة البوليساريو ومنحه صفة رئيس دولة لا وجود قانوني لها، رغم أن سعيّد يعلم يقينًا حساسية هذه القضية لدى القيادة والشعب المغربيَّين.
تضاعفت صدمة المغرب أكثر عندما جاءت “الإهانة” من دولة صديقة وشقيقة، كانت إلى وقت قريبا تختار “الحياد” في ملف الصحراء الغربية، ودائمًا ما كانت تونس تنأى بنفسها بعيدًا عن الصراع المستمر في المنطقة، بشأن قضية الصحراء المتنازع عليها بين المغرب وجبهة البوليساريو.
#المغرب دخل في أزمة دبلوماسية مع #إسبانيا، فأنتهت الأزمة بدعم إسباني للمقترح المغربي بل ورمى بالأزمة بين إسبانيا #والجزائر، ثم دخل في أزمة دبلوماسية مع #ألمانيا فأنتهت الأزمة بدعم ألماني لمقترح المغرب، ثم دخل في أزمة دبلوماسية مع #تونس، والنهاية واضحة بعد أسابيع. عجيب هذا المغرب.
— الجيوستراتيجيا (@theGeostrategia) August 28, 2022
أما نظام قيس سعيّد فلا يبدو أنه سيتنازل ويتراجع عمّا قام به، ذلك أنه معروف عن سعيّد إصراره على مواصلة طريقه وإن كان مخطئًا، فهو لا يتراجع عن قرار اتخاذه مهما كلفه الأمر، وهذا في تركيب شخصيته الغريبة.
طرف آخر لا يرضى لقيس سعيّد التراجع، وهو الطرف الجزائري الذي يعدّ أبرز حليف لنظام سعيّد في هذه الفترة، في ظل حالة العزلة التي يعيشها سعيّد منذ انقلابه على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية، وقراره جمع كل السلطات تحت يدَيه.
وفي 25 يوليو/ تموز 2021، قرر الرئيس قيس سعيّد تجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وحل الحكومة، ما اُعتبر انقلابًا في تونس، وأعقبه تجميد العمل بالدستور ووضع دستور آخر مكانه، لا يضمن الحقوق والحريات ويؤسِّس لنظام الفرد الواحد.
يمكن لأي أحد أن يرى حادثة مطار تونس قرطاج الدولي بسيطة، فالأمر لم يتجاوز استقبال غالي، وتونس لم تعلن صراحة عن دعمها لجبهة البوليساريو، لكن التقارب التونسي الجزائري في الفترة الأخيرة يؤكد أن في الأمر سرًّا، وأن النظام الجزائري ليس بريئًا ممّا حصل.
منذ الانقلاب، عرفت العلاقات بين نظامَي تبون وسعيّد تقاربًا كبيرًا، خاصة في الأزمة الاقتصادية التي تشهدها تونس، إذ سارع قصر المرادية لتقديم دعم اقتصادي وإن كان بسيطًا لقصر قرطاج، لمعاضدته في أزمته التي لم يجد حلًّا لها.
تريد الجزائر من خلال تواصل هذه الأزمة إضعاف الجانب المغربي، وإظهاره في ثوب العاجز عن مجاراة علاقاته على مستوى المغرب العربي.
الدعم الاقتصادي والسياسي الجزائري للرئيس التونسي، لم يأتِ إلا بعد أن ضمن تبون ولاء سعيّد وعمله بمشورته، حيث حاول سعيّد النأي بنظامه عن الجزائر إلا أنه لم يفلح في ذلك، لعدم تلقّيه أي مساعدات من أي جهة خارجية أخرى.
هذا الأمر دفع نظام قيس سعيّد إلى الارتماء في أحضان القيادة الجزائرية والتنسيق معها في أغلب الملفات، بما في ذلك ملف الصحراء الغربية، رغم أن تونس ليست طرفًا، إن كان مباشرًا أو غير مباشر، في هذه الأزمة التي أثقلت كاهل المغرب العربي.
زاد اهتمام الجزائر بتونس نهاية عام 2020، مع إمضاء المغرب اتفاقية التطبيع مع الكيان الصهيوني، حيث شعرت الجزائر أنها مستهدفة مباشرة من هذا التطبيع، لذلك عليها أن توطّد علاقاتها مع تونس، حتى لا يتمّ محاصرتها من الشرق والغرب أيضًا.
عملت الجزائر بجدٍّ على تحييد النظام التونسي في مرحلة أولى، بعد أن بلغتها معلومات تفيد إمكانية تطبيع تونس مع الكيان الصهيوني والارتماء في حضن الحلف المناهض للجزائر، وفي مرحلة أولى عمل نظام تبون على استمالة نظام سعيّد إلى صفه مقابل تقديم بعض الدعم الدبلوماسي والاقتصادي له، وكان لها ذلك.
يتبيّن هذا الأمر في تكثيف الزيارات الدبلوماسية بين المسؤولين التونسيين والجزائريين في الفترة الأخيرة، في مقابل تراجع الزيارات مع دول الحلف الثاني، وتطابق وجهات النظر بين النظامَين التونسي والجزائري في عدة قضايا إقليمية.
مكاسب كبرى من تواصل التوتر
نفهم من هنا أن الجزائر ساهمت بجدٍّ في تأزيم العلاقات بين المغرب وتونس، ودفعت النظام التونسي للخروج عن مبدأ الحياد الذي اتّسمت به الدبلوماسية التونسية منذ الاستقلال، فيما يخصّ ملف الصحراء الغربية الذي يعتبر المحدد الأبرز للدبلوماسية المغربية.
أهداف الجزائر من هذا التوتر كثيرة، ففي البداية نجحت كما قلنا في تحييد تونس وكسب ودّ النظام التونسي، الذي أصبح خلفية لنظام تبون يعمل بمشورته، وذلك “طمعًا” في بعض المساعدات المالية التي يمكن أن تساهم قليلًا في مواجهة الاحتقان الاجتماعي في تونس.
من مكاسب الجزائر تقوية نفوذها في المنطقة، فالتشتُّت الحاصل والأزمات بين مختلف دول المغرب العربي يخدمان الجانب الجزائري، الذي يركز كل عمله على استقطاب أنظمة المنطقة كما حصل مع موريتانيا وليبيا، دون النظر إلى مشاكل البلاد الخارجية.
الجزائر تضع القوانين والأطر والمغرب على الخطى تسير ليس عيبا أن تتخذوا قرارات تبون منهجا بل العيب أن المليك ولا صناع القرار في المغرب يمكن أن يفكر في أمور سيادية أو إقتصادية فقط تنظرون مافعلت الجزائر أو تونس حتى نقتدي بها.
— Hicham Kacimi (@HichamKacimi6) September 14, 2022
تريد الجزائر من خلال تواصل هذه الأزمة إضعاف الجانب المغربي، وإظهاره في ثوب العاجز عن مجاراة علاقاته على مستوى المغرب العربي، وهو ما يمكّنها من سيادة المنطقة، ويتنزّل ذلك ضمن استراتيجية نظام تبون الساعي إلى إحياء نفوذ الجزائر الإقليمي.
يعمل نظام تبون منذ توليه السلطة نهاية عام 2019 على إحياء نفوذ بلاده، وإعادة بوصلة دبلوماسية الجزائر إلى مكانها المعهود، والخروج من الانطواء والعزلة اللذين عُرفت بهما البلاد في العقود الأخيرة، إلا أن قضية الصحراء وتوتر علاقة الجزائر بالمغرب يكبّلان هذه الجهود.
خيار “الصمت” لم يعد يجدي برأي الجزائر، لذلك تنتهج خيار “الفعل” هذه المرة، فمزيد من الصمت في منطقة متحرِّكة سيكلف النظام الجزائري الكثير، ولهذا بدأت بدول المنطقة ومن ثم التوجُّه إلى دول الساحل والصحراء، ومن بعدها -ربما – أوروبا.