يعاني اللبنانيون منذ أكثر من عامين من أزمة اقتصادية معيشية طاحنة جعلتهم يخسرون جزءًا كبيرًا من قيمة الدخل الشهري ومن قيمة أموالهم بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار أمام الليرة الذي لامس خلال الأيام الأخيرة عتبة 40 ألف ليرة (38500 ليرة) ومرشح ربما خلال الأيام المقبلة إلى مزيد من الارتفاع في ظل انعدام الحلول الاقتصادية وانسداد أفق الحلول السياسية وتفاقم البطالة والتضخم والفقر وما سواه.
إضافة إلى كل ذلك فإن جزءًا كبيرًا من اللبنانيين خسر أيضًا قسمًا كبيرًا من ودائعه المالية التي أودعها في المصارف اللبنانية سواء بالليرة اللبنانية أم بالعملات الأجنبية الأخرى، حيث فرضت المصارف قيودًا صارمةً على عمليات السحب والتحويل سواء بالليرة أم بالعملة الأجنبية وخاصة الدولار.
كما وضعت سقوفًا معينةً لعمليات السحب الشهري بحيث منعت سحب الدولار الأمريكي نهائيًا منذ أكثر من عام ونصف، وحددت سقف السحب بالليرة اللبنانية مع تفاوت بين مصرف وآخر وبحسب قيمة الإيداع المالي، لكن بما لا يتجاوز في الكثير من الأحيان مبلغ 8 ملايين ليرة شهريًا.
لم تُشكل هذه الاقتحامات مفاجأة للوسط السياسي في البلد، فالضغط الكبير الذي يعيش في ظله اللبنانيون كان معروفًا للجميع أنه سيصل إلى هذا اليوم
كل ذلك ترافق مع ارتفاع جنوني في سعر الدولار من ناحية و”دولرة” الأسعار (التسعير بالدولار) من ناحية ثانية، وتفاقم الأزمة الحياتية من ناحية ثالثة، مع ما رافقها من أزمات كهرباء ومياه وطبابة وتعليم وتدفئة ومحروقات ونقل وغيرها، فقد زاد ذلك من حجم الأزمة الإنسانية لا سيما في مسألتي الطبابة والتعليم، فالكثير من اللبنانيين الذين يملكون أموالًا في المصارف لم يعد باستطاعتهم إدخال مرضاهم المستشفيات، ولا أبنائهم إلى المدارس والجامعات بسبب الحجز على أموالهم، وتحول الكثير منهم من الطبقة الوسطى التي كانت تعيش بشيء من “البحبوحة” إلى الطبقة الفقيرة المعدمة التي بلغ مستواها بحسب تقارير للأمم المتحدة نسبة 80% تقريبًا.
وأمام هذه الحالة تنامت في أوساط اللبنانيين، لا سيما المودعين منهم، نزعة نحو الحصول على حقوقهم من المصارف بشكل مباشر وباستخدام القوة والعنف، وبدأت هذه الحالات تبرز منذ أكثر من عام تقريبًا غير أنها كانت محدودة ومرتبطة في أغلب الأحيان بظروف خاصة وإنسانية (حالات استشفاء وتعليم)، ربما لأن اللبنانيين كانوا يعلقون أملًا على حلول لأزماتهم السياسية والاقتصادية.
غير أن تنامي الشعور بينهم بأن أموالهم لن تُعاد إليهم، وأن الأزمة إلى مزيد من الاشتداد والتدهور، وأن البلاد قد تنزلق نحو المجهول، جعل الكثيرين منهم يفكرون بطرق وأساليب خارج إطار القانون والمسموح، ومن بين ذلك اقتحام المصارف والمطالبة بالحصول على الحقوق تحت ضغط التهديد، حتى انفجر الوضع يوم الجمعة الواقع في 16 سبتمبر/أيلول بالتزامن مع انعقاد المجلس النيابي لمناقشة مشروع قانون الموازنة العامة للعام 2022 وأقدم كثير من المودعين ومن دون سابق إنذار على اقتحام عدد من المصارف في بيروت وبعض المناطق اللبنانية في جبل لبنان والجنوب والشمال، مطالبين بالحصول على ودائعهم أو التهديد بالفوضى أو العنف أو الانتحار.
لم تُشكل هذه الاقتحامات مفاجأة للوسط السياسي في البلد، فالضغط الكبير الذي يعيش في ظله اللبنانيون كان معروفًا للجميع أنه سيصل إلى هذا اليوم، غير أن التوقيت بدا لافتًا ومثيرًا لكثير من علامات الاستفهام، فاقتحام عدد من المصارف في العديد من المناطق في وقت واحد بدا كما لو أنه عملية منظمة ومخطط لها من قبل.
من جهته أشار وزير الداخلية والبلديات في حكومة تصريف الأعمال، القاضي بسام مولوي، في مؤتمر صحفي، إلى أن وراء التحرك قد يكون محاولة لنشر الفوضى في البلد خلال الأسابيع الأخيرة من ولاية الرئيس ميشال عون (تنتهي في آخر 31 أكتوبر/تشرين الأول المقبل)، إلا أنه لم يكشف طبيعة هذه الفوضى ولا الجهات التي تقف خلفها ولا استهدافاتها، مع الإِشارة إلى أن الوزير كان قد كشف في حديث صحفي قبل يومين فقط عن تمكن شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي من توقيف عدد كبير من الشبكات المرتبطة إما بمجموعات صنفها “إرهابية” وإما بالمخابرات الإسرائيلية “الموساد”.
اعتبرت جمعيات المودعين أن من حق موديعها القيام بكل ما يلزم من أجل حصولهم على أموالهم وودائعهم، ومن ذلك اقتحام المصارف
كما عمدت قوى الأمن إلى اتخاذ إجراءات أمنية في محيط المصارف، وحذرت من أن أي تجاوز للقوانين وتهديد للسلامة العامة سيتم التعامل معه وفق الإجراءات القانونية والقضائية المعتمدة.
من ناحيتها، استنكرت جمعية المصارف اقتحام البنوك وعدت ذلك اعتدءًا عليها وعلى القانون، وطالبت الجهات الرسمية المعنية بتأمين ظروف العمل الآمن للمصارف تحت طائلة الإقفال النهائي وما يعنيه ذلك من خسارة المودعين لأموالهم بشكل نهائي.
بدورها اعتبرت جمعيات المودعين أن من حق موديعها القيام بكل ما يلزم من أجل حصولهم على أموالهم وودائعهم، ومن ذلك اقتحام المصارف، كما هددت الجمعيات أصحاب المصارف باقتحام بيوتهم ومنازلهم في حال لجأوا إلى إقفال المصارف بشكل نهائي أو عدم دفع الودائع، واستندوا في اللجوء إلى هذا الإجراء والتصرف إلى بعض الفتاوى القانونية التي قالوا إن بعض المحامين أطلقوها وقالوا بقانونية وأحقية لجوء المودعين إلى اقتحام المصارف، واعتبروا ذلك عدم تجاوز للقوانين.
هذه الجدلية في لبنان لن تنتهي إلا بالوصول إلى حلول للأزمة المالية الاقتصادية التي يعيشها لبنان ولا يبدو في الأفق أن الأمور تتجه صوب هذه الحلول في الوقت القريب، خاصة في ظل الفشل حتى الآن في تشكيل حكومة أصيلة رغم مرور أكثر من أربعة أشهر على إجراء الانتخابات النيابية في 15 مايو/أيار المنصرم، وفي ظل فشل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على تمويل لازم لرفد الدورة الاقتصادية اللبنانية، وفي ظل حالة التوتر التي يعيشها البلد في ضوء المفاوضات غير المباشرة التي تجري بخصوص ترسيم الحدود البحرية وتاليًا إمكانية استفادة لبنان من ثرواته الطبيعية.
غير أنه يبقى شيء خطير للغاية أشار إليه وزير الداخلية عندما تخوف من فوضى عارمة تخْلف اقتحام المصارف عنوانها إشغال لبنان في هذه المرحلة بالفوضى وإدخاله في دائرة العنف الموجه الذي يمكن أن يكون جزءًا من مشهد صراع المنطقة ومن ضمنها إعادة تشكيل الكيانات خاصة في ظل الإعلان الرسمي في أكثر من عاصمة عن الوصول إلى حائط مسدود في مفاوضات الملف النووي، وفي ظل التسويف في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية اللبنانية مع دولة الاحتلال.