“أمة واحدة في مواجهة العدوان والاحتلال”.. كان هذا البيان الذي اختارته حركة المقاومة الإسلامية “حماس” لتفصح فيه عن استمرارها في الانفتاح على النظام السوري برئاسة بشار الأسد بعد قطيعة استمرت لأكثر من 10 أعوام.
وحمل البيان الصادر عن الحركة إشارة واضحة للمضي في استئناف العلاقات إلى جانب إدانة العدوان الإسرائيلي الأخير على الأراضي السورية واستهداف مطارات دمشق وحلب، عدا عن التأكيد على ضرورة تجنب الصراعات الداخلية.
لكن هذا البيان لا يعتبر الأول، فقد سبق أن أصدرت الحركة تصريحات مماثلة في شهري يونيو/حزيران ويوليو/تموز 2022، أثارت في حينها ضجة وصخب واسع في صفوف الفلسطينيين والشارع العربي رفضًا لقرار الحركة استئناف علاقتها بنظام الأسد.
ترى هيئة علماء المسلمين التي التقت برئيس الحركة إسماعيل هنية في تركيا قبل أسابيع، أن في هذا القرار مفاسد عظيمة ولا يتفق مع المبادئ والقيم والضوابط الشرعية، وهذا في نظر الحاضرين يقتضي أن تقوم الحركة بمراجعته وإعادة دراسته في ضوء ما ذكره العلماء.
في المقابل ترى المعارضة السورية أن هذا القرار تأكيد على الارتباط بين الحركة وإيران، فيما ذهب البعض الآخر إلى ما هو أبعد من ذلك باتهامها بأنها ذراع طهران في منطقة فلسطين وتنفذ ما تمليه عليها من تعليمات.
هذا الملف لا يزال في بدايته من الجانبين مع وجود وساطات تقوم بها أطراف لعودة العلاقات لسابق عهدها
في حين يعتقد مؤيدو الحركة وكوادرها أن القرار جاء في سياق إعادة التموضع الدائر حاليًّا في المنطقة، في ظل وجود تيار تقوده دول خليجية لتشكيل “ناتو” عربي بعضوية الاحتلال، وهو ما يتطلب التصدي له بمحور موازٍ يضم الأطراف المعارضة للتحالف الأول.
ورغم صدور بعض التسريبات والبيانات، فإن قيادات الحركة الرسمية تمتنع حتى اللحظة عن الحديث بصورة واضحة في هذا الملف، ويتم الاكتفاء بالبيانات الرسمية أو التسريبات التي تنسب على لسان بعض القيادات دون ذكر هويتهم.
ومع البيان الأخير، يتضح أن حماس ماضية في تطبيع علاقتها مع نظام الأسد، غير أن مصادر مطلعة تحدثت لـ”نون بوست” كشفت أن هذا الملف لا يزال في بدايته من الجانبين مع وجود وساطات تقوم بها أطراف لعودة العلاقات لسابق عهدها.
تاريخ العلاقة.. حماس ونظام الأسد
عقب خروج حركة حماس من الأردن عام 1999 استعدت سوريا لاستقبال قيادة الحركة وفتح مكاتب لهم، وشهدت العلاقة تطورًا وتحسنًا واضحًا خاصة في أثناء الحرب الأولى على غزة عند دعوة سوريا وقطر إلى عقد اجتماع طارئ لجامعة الدول العربية فيما سُمي بقمة غزة الطارئة في العاصمة القطرية الدوحة، وحضور مسؤولي الفصائل الفلسطينية القمة على رأسهم خالد مشعل ورمضان شلح.
ومع اندلاع الثورة السورية خرجت حماس من سوريا ونقلت مكاتبها إلى دولة قطر، وقد رفضت حماس في البداية التعليق على الأحداث في سوريا، إلى أن أعلنت الحركة بعد نحو عام من بداية الثورة أنها تقف مع الشعوب في نيل حريتها وكرامتها، حيث قال إسماعيل هنية خلال خطبة الجمعة في الجامع الأزهر بمصر: “أحيي كل شعوب الربيع العربي وأحيي شعب سوريا البطل الذي يسعى نحو الحرية والديمقراطية والإصلاح”.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني عام 2012 أعلنت الحكومة السورية إغلاق مكاتب الحركة بالشمع الأحمر بسبب دعمها للثورة السورية، وفي فبراير/شباط عام 2016 أعلنت حماس موقفها مما يجري في سوريا وغيرها من الدول العربية أنه موقف ثابت مبني على قاعدة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وشددت على أنه لا دور لحماس في الأزمة السورية، وأن موقفها من حق الشعب السوري في تقرير مصيره لم ولن يتبدل.
في 20 أبريل/نيسان 2016 اتهم بشار حركة حماس بأنها تدعم جبهة النصرة في سوريا، ثم عاد في 9 يونيو/حزيران 2019 ليهاجمها من جديد عندما قال: “كنا ندعم حماس ليس لأنهم إخوان، كنا ندعمهم على اعتبار أنهم مقاومة، وثبت في المحصلة أن الإخونجي هو إخونجي في أي مكان يضع نفسه فيه”.
الأسباب والدوافع.. لماذا عادت حماس لنظام الأسد؟
تحفظ عدد من قادة حركة حماس عن الحديث لـ”نون بوست” بعد البيان الأخير دون توضيح أسباب عدم رغبتهم في الرد على التساؤلات المطروحة من القواعد التنظيمية لهم أو حتى أنصارهم في الشارع العربي أو مؤيدي الثورة السورية.
ترى قيادة الحركة أن موقفها نابع من عدم التدخل في شؤون الدول العربية
في المقابل، علم “نون بوست” من مصادر قيادية أن الفترة الأخيرة شهدت عقد سلسلة من اللقاءات على مستوى قطاع غزة بين القيادات والقواعد التنظيمية لإيضاح دوافع القرار وتسويقه بما يخفف من أي انتقاد داخلي، لكن اللافت في الموضوع أن قادة الحركة تحدثوا في هذه اللقاءات عن تفاصيل اتخاذ القرار داخليًا وأنه مر بنقاشات معمقة شملت السجون والمجالس الشورية المحسوبة على حركة، ليتخذ في النهاية القرار بالإجماع، وفقًا لحديث قيادات حماس.
وإلى جانب اللقاءات التنظيمية، فقد عقد قادة حماس لقاءات مع مجموعة من النخب المجتمعية والكتاب والصحفيين في غزة تحديدًا لتسويق القرار والحديث عنه وعن دوافعه والأسباب التي جعلتهم يقدمون على هذه الخطوة.
وبحسب هذه اللقاءات، فإن قادة الحركة يبررون قراراهم بالحاجة لإعادة التموضع في ظل إقدام الكثير من الدول على تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، مرورًا بعدم وجود أسباب آنية تدفعهم لإبقاء حالة القطيعة مستمرة مع النظام، خصوصًا أن غالبية التنظيمات الفلسطينية على علاقة دائمة به بما في ذلك حركة فتح والجهاد الإسلامي.
وإلى جانب هذه الأسباب تبرر الحركة قرارها بالحاجة للوجود في سوريا باعتبارها دولة من دول الطوق المطلة جغرافيًا على فلسطين المحتلة، والحاجة للقيام بدورها تجاه الفلسطينيين في الأراضي السورية بما يخدم مصالح الفلسطينيين هناك.
وترى قيادة الحركة أن موقفها نابع من عدم التدخل في شؤون الدول العربية، لا سيما أنها سبق وأن دفعت ثمن خروجها من دمشق سابقًا بعدما كانت تحظى بدعم سياسي ومالي وعسكري غير مسبوق من نظام الأسد قبل اندلاع الثورة.
وترفض قيادات الحركة وصفها بأنها أداة في يد إيران أو التحالفات التابعة لها، كونها سبق واتخذت قرارات تتعارض بشكل تام مع هذا المحور، بما في ذلك قرار خروجها سابقًا من سوريا حفاظًا على مبادئها بعدم التدخل في شؤون أحد.
وتروج حماس حاليًّا عبر مكتبها السياسي إلى نهج جديد في العمل مع الدول العربية والإسلامية يقوم على سياسة “تصفير المشاكل” عبر محاولة استعادة العلاقات مع السعودية والأردن خلال الفترة المقبلة بما ينهي فترة القطيعة والبرود.
المعارضة السورية.. النظرة الأخرى للقرار
في هذا السياق، يرى الباحث السوري في مركز جسور وائل علوان أن قرار حماس الأخير وخطواتها في تطبيع علاقتها بنظام الأسد جاءت بعد فترة من التردد، لأسباب متعلقة بخلافات داخلية أو عدم وضوح الرؤية بالنسبة لقادة الحركة.
ويقول علوان لـ”نون بوست” إن موقف الحركة الأخير يعكس انتهاء مرحلة التردد في الأوساط القيادية والاتجاه نحو اتخاذ القرار، وبالتالي هم ذهبوا نحو الحلف الذي يضم إيران وحزب الله والحوثيين وبعض الجماعات في العراق.
وبحسب الباحث في مركز جسور فإن الحركة أصبحت جزءًا من الأذرع الإيرانية في المنطقة وهو ما يجعل المعارضة السورية تنظر لها كما تنظر إلى حزب الله أو الحوثيين، وأنها ذراع إيراني في قطاع غزة ومنطقة جنوب فلسطين المحتلة، ويلفت إلى أنه لا توجد أي علاقات سابقة بين قادة حركة حماس أو الحركة ككل وقيادات المعارضة السورية، وإنما قد يقتصر الأمر على بعض اللقاءات الشخصية أو اللقاءات غير الرسمية أو بعض المؤسسات الرسمية، وهو ما قد ينقطع بعد قرار الحركة الأخير.
ويعتقد علوان أن قرار حماس مضر بالقضية الفلسطينية وسيكون له بالغ الأثر على الحركة والقضية وسيؤثر بالسلب على المشهد، كون النظام السوري لا يملك ما يقدمه لها في الفترة المقبلة مقارنة بالسابق.
قرار حماس في السابق بالانسحاب من سوريا كان بسبب اختيار النظام للحل الأمني والعسكري على الحل السلمي
مضيفًا “حماس لم تخرج طواعية من سوريا قبل 11 عامًا وإنما طردها النظام بسبب عدم قدرتها على ضبط مجموعات وأفراد من الانخراط في مواجهة الحل العسكري والأمني للنظام، وثانيًا أن قيادة الحركة لم تتخذ قرارًا صريحًا بدعم النظام وفضلت الحياد واعتبرت ما يجري شأنًا سوريًا لا علاقة بها، وبالتالي هي طردت نتيجة سياسة اللا موقف”.
ما وراء العودة.. رؤية مغايرة
من جانبه، يقول الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني مصطفى الصواف إن قرار حماس في السابق بالانسحاب من سوريا كان بسبب اختيار النظام للحل الأمني والعسكري على الحل السلمي، وفضلت الحركة أن تكون على الحياد.
ووفقًا لإيضاح الصواف في حديثه لـ”نون بوست” فإن ما يجري حاليًّا في سوريا بعيد كل البعد عن مشهد الثورة التي كانت، وتحول الأمر إلى صراع بين دول وأقاليم، لذلك بات هناك تأثير في العودة السورية باعتبارها تشكل أرضية خصبة للمقاومة.
ويرى الكاتب والمحلل السياسي أن ما جرى لم يكن حالة عداء وإنما اختلاف في وجهات النظر وهي تقوم في هذه الفترة بسياسة تصفير المشاكل مع كل الأنظمة العربية، وبالتالي تحاول اليوم استعادة علاقتها بالسعودية والأردن.
ويعتقد الصواف أن أحد أسباب لجوء الحركة لهذه السياسة بالانفتاح على الجميع بما في ذلك النظام السوري هو توجه الدول نحو تطبيع علاقتها بالاحتلال الإسرائيلي، إلى جانب وجود الفلسطينيين في سوريا، فضلًا عن أسباب أخرى متعلقة بالدعم العسكري والإمدادات.
ويتبع بالقول: “حماس لم تبع دماء الشعب السوري، فدماء العرب غالية عندها، وعودتها إلى سوريا مرتبطة بالقضية الفلسطينية وتستهدف حماية الفلسطينيين، خصوصًا في ظل مباحثات تجري بين المعارضة والنظام في الفترة الأخيرة”.
أما عن اعتبار حركة حماس ذراع إيراني، علق الصواف قائلًا: “هذا الاتهام الذي يوجه من المعارضة السورية للحركة يتنافى مع الشواهد المتعلقة بالمشهد السوري، فلو كانت حماس ذراع إيراني لما قررت الخروج طواعية في السابق”.
تعكس المواقف الأولية الصادرة عن كل الأطراف أن ثمة انقسام واضح سيكون في التعامل مع حركة حماس خلال الفترة المقبلة، خصوصًا من السوريين الذين يرون في النظام أنه مجرم وقاتل ولا يجب تطبيع العلاقات معه تحت أي سبب كان.
في الوقت ذاته، تحاول وتسعى حماس بكل السبل أن تقنع جبهتها الداخلية وقواعدها التنظيمية وأنصارها في الشارع العربي بأن قرارها هو قرار المضطر في ظل انسداد الأفق أمامها وانفتاح الدول على التطبيع مع الاحتلال بشكل غير مسبوق.