كل يوم، يحمل موريس مالامبيل عربته المليئة بالحاويات البلاستيكية الفارغة ويدفعها من منزله إلى أقرب صنبور جارٍ الذي يبعد أقل من ميل واحد عن بلدة كوانوبولي بجنوب إفريقيا، رغم طول المسافة، ليس هذا ما يزعجه، فالحصول على المياه لم يعد بنفس رفاهية الماضي لأن عليه حمل 70 لترًا من المياه طوال تلك المسافة وهو كل ما يمكنه الحصول عليه يوميًا.
جفت الصنابير في أجزاء من كوانوبولي في مارس/آذار الماضي، ومنذ ذلك الحين يعتمد آلاف السكان على صنبور مشترك واحد لتزويد منازلهم بمياه الشرب، والمدينة هي إحدى المناطق المتضررة في منطقة خليج نيلسون مانديلا بمدينة جكيبرها – التي كانت تُعرف سابقًا باسم بورت إليزابيث – التي تعتمد على نظام من أربعة سدود جفت بشكل مطّرد بسبب غياب الأمطار التي كانت تملأها.
قبل أسبوع من ذلك، توقف تشغيل أحد السدود نظرًا لانخفاض مستوياته بدرجة لا تسمح باستخراج أي مياه، كانت أنابيبه تمتص الطين فقط بعد انحسار المياه بشكل كبير، وبالفعل معظم أجزاء المدينة بدأت بالعد التنازلي حتى “اليوم صفر”، حين ستجف كل صنابير المدينة بشكل كامل، ما لم يتم إيجاد حل لهذه المعضلة.
العد التنازلي
في عام 2018، عندما أعلنت كيب تاون أنها تقترب من الجفاف الكلي ووقف العالم مرعوبًا ليشاهد بداية كارثة، فقد كانت هذه المرة الأولى في التاريخ الحديث التي تكون فيها مدينة عالمية كبرى دون مياه جارية، وعلى النقيض من ذلك لم تحظ مدينة جكيبرها باهتمام دولي يذكر، فبالنسبة للكثيرين في جنوب إفريقيا، لطالما كان نقص المياه أسلوب حياة، لكن الأمور كانت مختلفة هذه المرة، فمقدمات الكارثة موجودة في العديد من المدن الكبرى حول العالم، فمدن مثل ساو باولو وملبورن وجاكرتا ولندن وبكين وإسطنبول وطوكيو وبنغالور وبرشلونة ومكسيكو، كلهم سيواجهون “اليوم صفر” خلال العقود القليلة القادمة!
البشر لا يستهلكون الماء بالندرة التي هو عليها في الأرض رغم أن حياتهم تتمحور حوله
رغم ما يبدو عليه الحال من أن الأرض تعوم على بحار من الماء، فإن الحقيقة تقول بغير ظاهر الصورة، فأقل من 3% من مياه الأرض هي مياه عذبة، ووفقًا لهيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، لا يمكن الوصول إلى معظمها، لأن أكثر من 68% من المياه العذبة على الأرض موجودة في القطبين المتجمدين والأنهار الجليدية، وما يزيد قليلًا على 30% يوجد في المياه الجوفية، كما يوجد نحو 0.3% فقط من المياه العذبة لدينا في المياه السطحية للبحيرات والأنهار والمستنقعات.
كمحلصة نهائية، من بين كل المياه الموجودة على الأرض أكثر من 99% من مياه الأرض غير صالحة للاستعمال من قبل البشر والعديد من الكائنات الحية الأخرى!
تكمن المشكلة الحقيقة، أن البشر لا يستهلكون الماء بالندرة التي هو عليها في الأرض رغم أن حياتهم تتمحور حوله بوجود 90% من سكان الأرض يعيشون على أو قرب المياه بمسافة تقل عن 10 كيلومترات.
إسراف في الذهب السائل
تتصدر العديد من البلدان ذات التعداد السكاني المرتفع قائمة الدول المستهلكة لكميات كبيرة من المياه، فتستهلك كل من الصين والهند والولايات المتحدة والبرازيل كميات كبيرة، وهي الأولى والثانية والثالثة والخامسة من حيث عدد السكان، ومن الدول الأخرى التي تستخدم كميات كبيرة من المياه روسيا والمكسيك، ومع ذلك، فإن كمية المياه المستخدمة لكل شخص في كل بلد تختلف بشكل كبير.
بالنسبة للفرد، استخدمت الولايات المتحدة أكبر قدر من المياه عند 2842 مترًا مكعبًا سنويًا، ويستخدم الناس في الهند نحو 1089 مترًا مكعبًا، في حين أن المتوسط العالمي هو 1385، وتميل البلدان التي لديها إمدادات مياه وفيرة إلى الاستهلاك أكثر من غيرها.
معظم أجزاء الولايات المتحدة، على سبيل المثال، لديها موارد مؤكدة من المياه العذبة، ومع ذلك، فإن المملكة المتحدة لديها إمدادات أقل بكثير، ما يجعلها تسلك مسلكًا اقتصاديًا في الاستهلاك، ففي بريطانيا، يستخدم الشخص العادي 39 جالونًا يوميًا مقارنة بـ110 جالونات في أمريكا، وفي جميع أنحاء أوروبا، يختلف استخدام المياه على نطاق واسع، إذ تمتلك آيسلندا ومقدونيا واليونان بعضًا من أعلى معدلات استخدام المياه، بينما تستهلك النرويج وهولندا وبلجيكا وسويسرا كميات كبيرة للأغراض الصناعية.
في إفريقيا، تختلف ظروف إمدادات المياه من بلد إلى آخر، فالبعض لديه إمدادات وفيرة، والبعض الآخر لا، حتى في الدول التي لديها مصادر مياه عذبة، فإن التوزيع غير الفعال لتلك المياه يمثل مشكلة، فثلاثة أرباع الناس في إفريقيا لا يتمتعون بإمكانية موثوقة للحصول على المياه النظيفة.
أما في أستراليا، تمثل الصحراء جزءًا كبيرًا من القارة وهي ذات كثافة سكانية منخفضة، لهذا تتفاوت كميات استهلاك المياه هناك، ففي حين أن استهلاك المياه في معظم أنحاء البلاد ضئيل للغاية، يستهلك سكان الساحل المياه بنسبة أكبر حيث يكون عدد السكان أعلى، ومع ذلك، فقد انخفض الاستهلاك، حيث دفعت ظروف الجفاف والضغوط البيئية الأخرى الأستراليين إلى الحفاظ على مواردهم المائية بشكل أفضل.
أين يهدر البشر المياه؟
– الزراعة: ازداد هدر المياه في الزراعة بشكل كبير مع نمو محاصيل مثل القمح والذرة والأرز والقطن وقصب السكر التي تتطلب كميات كبيرة من المياه، فعلى سبيل المثال، يتطلب كيس السكر الذي يبلغ وزنه 2.5 كيلوغرام نحو 333 لترًا من الماء.
لا تتباطأ هذه المحاصيل من حيث النمو أيضًا، لذلك أصبح من الضروري أكثر للزراعة استخدام تقنيات إدارة المياه الأكثر تقدمًا لتحديد وتقليل هدر المياه.
– المشروبات: بالإضافة إلى الهدر في زراعة طعامنا، فإن صنع جميع المشروبات التي نشربها يؤثر سلبًا على إمدادات المياه لدينا، فتتطلب العديد من مشروباتنا الأكثر شيوعًا السكر أو الشعير أو القهوة أو الشيكولاتة أو الليمون أو الفانيليا، لكن زراعة هذه المشروبات تتطلب كميات هائلة من الماء، فلصنع نصف لتر من البيرة، يُستخدم نحو 75 لترًا من الماء، ويمكن أن يتطلب فنجان واحد من القهوة 529 لترًا من الماء.
تكمن المشكلة الرئيسية في هدر المياه، في صعوبة إعادة الحصول عليها
– المنسوجات والملابس: من الغرابة التفكير بأن للمياه علاقة بتصنيع الملابس، لكن صنع الملابس يتطلب بعضًا من أعلى كميات المياه في أي صناعة، فيتطلب زوج واحد من الجينز نحو 10849 لترًا من الماء، ومع ذلك، مع انتشار تأثيرات الموضة السريعة على نطاق واسع، يتطلع تجار التجزئة مثل H&M وLevi’s إلى تقليل استخدام المياه كلما أمكن ذلك، ويوفر الشراء من متاجر البيع عبر الإنترنت فرصًا لشراء الملابس المستعملة وتقليل تأثيرك على إهدار المياه.
– تصنيع السيارات: في صناعة السيارات تشتمل غالبية استخدامات المياه على معالجة السطح والطلاء وأكشاك رش الطلاء والتبريد وأنظمة تكييف الهواء واستخدام الغلايات، في المجمل يتطلب تصنيع سيارة واحدة نحو 147631 لترًا من المياه!
– التعدين: على الرغم من انخفاض تعدين الفحم، فقد نما قطاع تعدين الليثيوم والمواد الأخرى المستخدمة في السيارات الكهربائية والألواح الشمسية ومصادر الطاقة المتجددة الأخرى. يحدث التعدين عادة في المناطق التي يتوافر بها القليل من المياه العذبة، ويؤدي التصنيع إلى استهلاك ما هو قليل من المياه المتاحة، نتيجة لذلك، من الضروري أن تنمو صناعة التعدين في طرق معالجة مياه الصرف الصحي وتقليص استخدام المياه حيثما أمكن ذلك.
بصورة عامة، يعتبر الري للاستخدام الزراعي أكبر سبب لسحب المياه، إذ يمثل 70%، وتمثل الصناعة 20% والاستخدام البلدي 15%، كما تلعب خيارات نمط الحياة أيضًا دورًا في تشكيل البصمة المائية لشخص ما، فجزء من السبب في أن الولايات المتحدة تستخدم الكثير من المياه للفرد هو النظام الغذائي، فاستهلاك اللحوم يمثل 30% من متوسط الاستهلاك للفرد الأمريكي، ويمثل السكر 15%.
تشمل الاستخدامات المنزلية المباشرة للمياه الشرب والطهي والاستحمام وغسل المرحاض، وهو ما يمثل 24% من استخدام المياه في المنزل الأمريكي العادي، ويشكل الاستحمام 20% والاستخدام من الصنبور 19% وغسيل الملابس 17%، وتعتبر التسريبات عاملًا مهمًا آخر، إذ تمثل 12% من استخدام المياه المنزلية في المتوسط.
تكمن المشكلة الرئيسية في هدر المياه، في صعوبة إعادة الحصول عليها، فالنسبة الرئيسية للخزين المائي للأرض تشكل عبر آلاف السنين في الطبقات الجيولوجية الأرضية، ونسبة الاستهلاك الحاليّ لا تسمح بإحلال ما يتم استهلاكه بسرعة، ما يؤدي إلى نقص حاد، وأحد الحلول المقترحة لتقنين استهلاك المياه هو الخصخصة، أي بيع منافذ الماء للشركات الخاصة ورفع سعر قيمته ربما يكون الحل الوحيد لوقف هذا الهدر.
في العام 2018 حين كادت الكارثة أن تحصل في جنوب إفريقيا، كان أمام المستهلكين أسابيع قليلة لتغيير نمط استهلاكهم والحد من الهدر هناك لإعادة الحصول على خزين الأمطار، وبالفعل نجحت الخطة، وأعطت البلاد 4 سنوات إضافية قبل أن تعود المشكلة مجددًا لنفس الأسباب، فهل يتكرر ما حصل في جنوب إفريقيا حول العالم أم أن البشر سيتداركون ذهبهم السائل قبل أن يزول؟