محاولة صنع فيلم فني جيد لا يبتعد بالضرورة عن المعايير التجارية الرائجة، فالإنتاج الضخم والمؤثرات البصرية يمكن أن تخدم أفكارًا ثقيلةً محملةً بالإحالات والاستعارات البصرية والفكرية، ربما يحاول جوردان بيل من خلال مسيرته القصيرة كمخرج، التنسيق بين ما هو جمالي وتجاري، عن طريق إيجاد الخلطة المناسبة لبيع منتج فني غير تقليدي داخل السوق.
لكنه هذه المرة، خلال فيلمه الأخير، بإنتاج يتجاوز الـ60 مليون دولار، يخلق نموذجًا بصريًا أكثر اتساعًا وأعلى كلفةً، ويستعيد تيمة قصصية معروفة، تذكرنا بـ”إشارات – Signs” لم. نايت شيامالان و”الوافد ــ Arrival” لدينيس فيلنوف، لكنه يوظفها في سياق مختلف قليلًا.
يمنح جوردان بيل أفكاره نوعًا من الرمزية، من خلال انفتاحه على نقد المجتمع الأمريكي، فيزيح الفكرة من المنطقة الرائجة ويضفر الموتيفات البصرية ليمنح تيمات الرعب السائدة شكلًا موازيًا يهدم التصور المعهود للمجتمع الأمريكي المثالي.
ينبع تفرد جوردان السينمائي من محاولته للمكاشفة وانحيازه لقضايا بعينها تخص المجتمع الملون، تكسِب أفلامه قيمة مضاعفة على المستويين الفني والإنساني، ومن خلال متابعة مسيرته السينمائية يمكن ملاحظة ميله إلى الامتداد والتوسع النوعي، أي أنه يكسر حدود الجنرا ويمزج أكثر من نوعية، يخرج هذا الميل في شكل اختراق مساحات جديدة من الناحية البصرية، ويزداد من فيلم إلى آخر، وعلى الرغم من ذلك، فإن عمله الأخير “Nope” لا يختلف كثيرًا عن تجاربه الفنية السابقة من حيث الموضوع، بل يحافظ على النسق النقدي متعدد الطبقات والإشكاليات الأقرب للمجتمع الأسود.
يتعرض جوردن خلاله فيلمه الأخير لتيمة الكائنات الفضائية المعهودة، لكنه لا يكتفي بخط سردي واحد، بل يخلق انقطاعات يمرر خلالها خطًا سرديًا مختلفًا يتعاطى مع صناعة السينما والدراما في هوليوود، وكلا الخطين له إسقاطات واضحة على الوضع الراهن للمجتمع الأسود سواء داخل الصناعة أم خارجها.
فالفيلم يدور حول عائلة هايوود، واحدة من أعرق العائلات في تاريخ السينما لارتباطها بالمقطع الفيلمي الأول حين التقطت عدة صور لرجلٍ أسود يركب حصانًا، وتم تمرير الصور لتخلق نمطًا حركيًا سينمائيًا، ومن هذه النقطة التاريخية، تكتسب العائلة قيمتها، فالرجل على الحصان هو الجد الأكبر لعائلة هايوود التي تعمل في تدريب الخيول وتطويعها داخل مزرعتهم للمشاركة في الأفلام السينمائية.
يستهل المخرِج فيلمه باقتباس من سفر ناحوم “وَأَطْرَح عَلَيْكِ أَوْسَاخًا، وَأهِينكِ وَأَجْعَلكِ عِبْرَةً”؛ يؤسس من خلاله للعلاقة بين المنتج البصري والمتلقي، ويمنح مبررًا صوريًا للقسوة الذي يبدأ بها فيلمه، مبررًا لاهوتيًا، غضبًا إلهيًا، ليس له أسباب واضحة لكنه موجود داخل السياق، ويفتتح مشهده الأول بقردٍ يخرج عن السيطرة داخل إستوديو تصوير، ويقتل كل فريق العمل عدا طفل صغير، ثم يقطع ويبدأ في تأسيس خطٍ سردي أساسي، نرى خلاله أجسامًا معدنيةً صغيرةً تسقط من السماء، لتصيب إحداها، عملة معدنية منحوت عليها نحن نثق في الإله، عين الأب أوتس هايوود (الممثل كيث دافيد) وتقتله، ليترك المزرعة والخيول لابنه أو.ج هايوود (الممثل دانيل كالويا) وأخته إيمرالد هايوود (الممثلة كيكي بالمر).
وبعد سلسلة من الأحداث الغرائبية، يؤمن الأخوان بوجود جسم غامض بين الغيوم، وخلال محاولاتهما لرصده وتصويره يرتفع نسق السرد، وترتفع معها جرعات الرعب بطريقة تدريجية، فالجسم ذاته يحمل هيئة شمولية هلامية ضخمة بلا ملامح مميزة إلا الحضور المادي الهائل، والعقدة نفسها تكمن في النظر إلى الجسم ذاته، فعاقبة النظر هي الموت.
يخلق جوردان سردية متعددة الطبقات، يحاول من خلالها قول الكثير من الأشياء، والحق أن رمزية المخرج تقع – أحيانًا – في فخ المباشرة، وهذا لا يعني بالضرورة سوء الفكرة أو رداءة التنفيذ، لكنه يشير إلى العدد الهائل من الإحالات والإسقاطات داخل الفيلم.
فالفيلم مفتوح على التأويل بشكل مبالغ لم نره في فيلم رعب تجاري من قبل، وهذا ما يخلق تفرده، فمنذ البداية يتعاطى الفيلم مع فكرة الخطيئة الدينية من خلال استدعاء منظور لاهوتي، ثم يتعرض لفكرة الهوس بالكشف والتعرية، ويربطها بثمنٍ يتسق مع العالم الرأسمالي، فإذا نجح الأخوان في رصد هذا الكيان الغامض وتصويره، “سيذهبان إلى أوبرا” كما تقول إيمرالد في الفيلم، كاستعارة لبلوغ الثراء والشهرة التي تستحقها العائلة.
بيد أن هوس الابن أو.ج بالمراقبة والرصد ينبع من عدة أسباب، أولها الثأر من قاتل أبيه، والثاني ينجم عن كونه محتلًا ومراقبًا من كيان لا يستطيع التماهي معه وجهًا لوجه، لا يستطيع النظر إليه، إنه مقاربة للرجل الأبيض في مرحلةٍ ما، فالجسم الغامض الكائن في السماء يجرد الحضور المادي للأشخاص في المزرعة ككيانات فاعلة، ويتعرض كخدم مهمشين.
على الجانب الآخر يؤسس بيل لخط مختلف يتماهى مع الخط الرئيسي، يستعرض صورة موازية للحاضر من خلال فلاش باك لما وراء كواليس تصوير مسلسل ترفيهي تليفزيوني، حيث يخرج شمبانزي عن السيطرة ويقتل كل طاقم العمل، يؤسس المشهد لعلاقة ملتبسة وغير مفهومة بين الصبي والقوة الماورائية التي يلمح المخرج بوجودها في إطار ميتافيزيقي من خلال لقطة الحذاء المنتصب، ثم تحول الشمبانزي جوردي من حالة الاضطراب والهيجان إلى حالة الهدوء النسبي لدرجة الاتصال الجسدي بالطفل، ومع اللمسة الأولى بين الاثنين يردى الشمبانزي قتيلًا إثر طلقة نارية تصطدم بجسده، يكبر الفتى الصغير ليحول الصدمة النفسية إلى سلعة يتربح منها.
فكرة الهوس بالفرجة وتحويل الجسد والذكريات والماضي إلى سلعة استهلاكية يظهر بوضوح من خلال علاقة ريكي بارك (الممثل ستيفين يون) بذكرياته وماضيه، بحيث يكتسب قيمته من الفضيحة أو الصدمة النفسية التي حدثت له في طفولته، لقد أزاح الفعل عن إطاره الطبيعي، وطوعه في سياق مادي، فشيد غرفة داخلية تحمل تذكارات وصور تخص الحادثة والبرنامج، يؤجرها لمن يدفع ليقضي بها ليلة.
إذًا فحتى الناس يتعاطون مع الحادث المروع كشيء ترفيهي، ولا يقع في قلوبهم موقع الخوف والريبة، بل يتسق مع وجودهم المادي ونمط حياتهم المتعلق بالمال، إلى جانب ذلك فقد آمن ريكي بشكل غير مباشر بالقوة الدينية كمخلص له من مجزرة الإستوديو، وهذا ما دفع لمحاولة استغلال الكيان الغامض لتربح المال واكتساب القيمة.
انخفاض الإيقاع في فترات متفرقة من الفيلم كان له أثر سلبي على التجربة ككل، فالمشاهد مشتت بين الخطين السرديين، وأحدهما لا يفهمه تقريبًا، ثم يصدم بإيقاع منخفض يثقل من حضور الفيلم أكثر، لكن بيل يتلافى هذه المشكلة بخلق مشاهد قوية بصريًا تحفز المشاهد وتبقيه مترقبًا، خصوصًا في مشاهد تحرك الجسم المجرد وامتصاصه للموجودات، ثم استفراغه للقطع غير الضرورية والمعدنية، بالإضافة لدفعه القصة من خلال شخصية مهمة ظهرت بقوة في الثلث الأخير من الفيلم، وهي شخصية المصور أنتليرز هولست (الممثل مايكل وينكوت)، الذي يظهر في الفيلم بصفته فنانًا حقيقيًا، يمارس حضوره بعنفوان وشجاعة وتهور الفنان الذي يخاطر بحياته من أجل العلاء السينمائي والتقاط الصورة أو الفيلم الذي سيخلد اسمه تاريخيًا.
وهذا نمط آخر من الشخصيات التي ينتقد من خلالها المخرِج الصناعة من الداخل، فهو رغم جرأته وتفرده كفنان، يتبدى متعجرفًا ومختالًا، فلا يرضى تصديق إيمرالد عندما طلبت منه المساعدة رغم أنهما سيتشاركان بعدها نفس الطموح، لأنها بالنسبة له نموذج لإنسان الدرجة الثانية، فيما يمتلك حصانة فنية توفر له مكانًا على رأس الهرم، وعلى هذا الأساس استهان بطلبهم ورفض التصديق إلا عندما وخزه ضميره الفني المتعالي، فهو لا يود المساعدة إلا لأغراض شخصية ستخدمه كفنان وترفع من قيمته اجتماعيًا وفنيًا، وعملية التقاط الصورة المستحيلة تتحدى كبريائه وتضخ الأدرينالين في جسده، خصوصًا مع تحول الكثير من المنتجات البصرية إلى المؤثرات البصرية كتطويع للمستحيل داخل الإستوديو.
إلا أنه كفنان يريد أن يقبض المستحيل بيده، لا عن طريق اختزاله في المؤثرات البصرية والحوائط الخضراء، بل عن طريق التقنية الأولى التي تتماس بشكل مباشر مع الموجودات داخل إطار الكاميرا، فيجلب كاميرا الفيلم خاصته، ويبدأ في محاولة رصد حقيقي، يتعرض للكيان الغامض في مواجهة مباشرة دون خوف، ينظر له في عينيه.
يكثف المخرج الطبقات حول تيمته الأساسية، الكائن الفضائي أو الجسم الغامض المخبأ بين الغيوم، لكنه لا يكشف إلا الجسد المادي الذي لا يقف على تصور بعينه، بل يفتح المزيد من التأويلات، لكنه يلف حول فكرة واحدة يمكن تمييزها بسهولة، هي المراقبة والمعاقبة، النظر في العينين والمكاشفة.
فالكيان الحائم في الهواء، الذي يمتص ويشفط كل ما يجرؤ على النظر، موازاة للحكومات والأنظمة والمؤسسات التي تراقبنا بمئات الطرق، بيد أنها تحمل خصوصية للمجتمع الأسود بالذات، فمعاناتهم ضد العنصرية دامت لسنوات، وباقية حتى الآن، كمواطنين درجة ثانية، لم يكن في مقدرتهم مضارعة المواطن الأبيض ولا الحصول على فرص متكافئة، والبطل كشاب يمثل مجتمع مضطهد، كان عليه المواجهة والنظر.
لكن للأسف انتهت السردية بصورة غريبة وساذجة، مثيرة للسخرية، ربما كان يقصد المخرِج هذا النوع من النهايات، التي تبدو مثيرة للضحك رغم صعوبتها، ليوضح رسالته أن الأشياء الأكثر سخافة وهشاشة، من الممكن أن تكون سببًا في تدمير وإنهاء نظام سلطوي وشمولي مغلق على ذاته.
الجدير بالذكر أن المخرج لا يركز على الجسم المخيف كتهديد كوني أو كارثة عالمية، بل كمشكلة فردية، الأمر أشبه بتصفية الحسابات، فلم نر الجيش الأمريكي يزحف بدباباته وأسلحته الثقيلة، ولم نر بطلًا خارقًا يتدخل لتدمير الكيان الغامض، وهذا ما جعل التجربة أقرب إلى التأويلات والنقد أكثر من التجربة الملحمية والصراع الذي يتخلله الكثير من لقطات الركض والأكشن.