تصاعدت وتيرة حوادث اقتحام البنوك في لبنان من قبل أفراد، فالضائقة المالية والفقر كسرا كاهل اللبنانيين الذين طالبوا مرارًا بتحرير أموالهم أو تقديم تسهيلات، وكسرا هيبة القانون كذلك فيما يبدو، فبين موجة غلاء فاحشة وحالات إنسانية صعبة من جهة، وتعنُّت المصارف عن تقديم تسهيلات من جهة أخرى، لم يجد اللبناني نفسه إلا حاملًا سلاحه لاسترجاع أمواله بالقوة، فلا يكاد يمرّ شهر إلا ونشهد حادثة اقتحام مصرف، خاصة بعد أن انعدمت الحلول ووجد المودع نفسه الخاسر الأكبر.
6 اقتحامات في أسبوع واحد، استطاع من خلالها بعض المودعين تحرير أموالهم المجهول مصيرها، وآخر مسلسلات الاقتحام كانت على يد المودع محمد علي قرقماز، حيث دخل إلى فرع بيبلوس بنك في الغازية واستحصل على مبلغ 19 ألفًا و200 دولار بالقوة، مستخدمًا سلاحًا مزيّفًا، أخذ المبلغ ومن بعدها سلّم نفسه للسطات الأمنية، وقبل يومين اقتحمت شابة فرع بنك بيروت مستخدمة سلاحًا بلاستيكيًّا، وتحت التهديد استطاعت تحرير ما يقارب الـ 30 ألف دولار لعلاج أختها المريضة بالسرطان.
كذلك لم تَسلَمْ مصارف لبنانية في وقت سابق من الاقتحامات، حيث تعرّض كل من مصرف لبنان والمهجر فرع طريق الجديدة، وبلوم بنك فرع كونكورد، وبنك عودة الشهير فرع الشياح، وأخيرًا بنك لبنان والخليج لاقتحامات، حصل فيها المواطنون على أموالهم واستحصلوا ودائعهم بالقوة.
تلقى تلك الاقتحامات تأييدًا وتشجيعًا شعبيَّين، ومن قبل الوسط الفني والإعلامي أيضًا، فالجميع يبحث عن انتصار ولو معنوي على النظام الفاسد، ويشعر أغلب المودعين اليوم باليأس بعد أن انتشرت أخبار ضياع الودائع المصرفية، وأن المصارف سرقَت كل أموال المودعين من دون رجعة.. فهل بات الاقتحام الحل الوحيد لتحرير الأموال؟
أصل أزمة البنوك
تعدّ الأزمة المصرفية من أوجُه الانهيار الاقتصادي الذي صنّفه البنك الدولي من بين الأسوأ عالميًّا منذ عام 1850، وتتصاعد أصوات المودعين لاسترداد ودائعهم المحتجزة.
تعود الأزمة إلى خريف 2019، حين اضطر المصرف المركزي مع المصارف إلى خفض معدلات الفوائد على الودائع بالدولار من نحو 6.5% إلى 0.97%، وعلى ودائع الليرة من نحو 9.5% إلى 2.91%، وذلك مقابل تراجُع كبير في الحسابات الخارجية للقطاع المصرفي وتفاقم العجز بميزان المدفوعات، في المقابل ارتفع الدولار وبدأ انهيار الليرة، وما رافقهما بعد ذلك من انهيار اقتصادي وغلاء معيشي فاحش.
فما كان من البنوك إلا أن فرضت قيودًا صارمة على المودعين، بعد أن أدّى الانهيار المالي إلى شحّ في الدولار، ما دفعَ الأسعار إلى الارتفاع وازدياد الاضطرابات.
من تلك القيود أن منعت البنوك المودعين من السحب من حساباتهم بالدولار، كما منعت التحويلات إلى الخارج، وبموجب منشور للمصرف المركزي صدر عام 2019، كان مسموح للمودعين بالسحب بالعملة المحلية من حساباتهم بالدولار بسعر الصرف الثابت 3900 ليرة للدولار، مع العلم أن سعر صرف السوق السوداء كان يصل إلى حدود 20 ألف ليرة لبنانية حينها، بذلك تكون الأموال المسحوبة من البنك بلا قيمة تقريبًا مقارنة بالغلاء وبسعر سوق السوداء.
وتوصف تلك الشروط بغير القانونية، لأنها قيّدت السحب وتحويل الدولار، بالإضافة إلى احتجاز أموال المودعين قسرًا، فيما خسرت الودائع بالليرة قيمتها بفعل الارتفاع المستمر لسعر صرف الدولار بالسوق السوداء (يبلغ نحو 35 ألف ليرة).
حتى يونيو/ حزيران 2019، بلغت القيمة الإجمالية لودائع غير المقيمين نحو 37 مليار دولار، وشكّلت نحو 20% من إجمالي الودائع في المصارف اللبنانية، وفق الرئيس الأسبق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود.
أما في يونيو/ حزيران 2022، بلغت قيمة ودائع غير المقيمين 20 مليار دولار، مقابل 80 مليار دولار ودائع المقيمين، بحسب حمود الذي يقول إن ودائع غير المقيمين انخفضت إلى هذا المستوى، لأن نسبة من أصحابها أغلقوا حساباتهم أو سحبوا منها باقتطاع قيمتها وفقًا لتعاميم المركزي.
صرخة جمعية حقوق المودعين
ينقسم مودعو نحو 64 مصرفًا لبنانيًّا بعشرات الفروع الممتدة بين الداخل والخارج، إلى فئتَين: المقيمين وغير المقيمين، والحالة الثانية تشمل اللبنانيين غير المقيمين في لبنان، إضافة إلى مودعين عرب وأجانب من أفراد ومؤسسات.
ويعتبر المودعون أنه بعد 3 أعوام على الأزمة، واستمرار البنوك في احتجاز ودائعهم بالدولار الأميركي النقدي، بينما الأسعار تحلّق ومختلف الخدمات باتت تسعَّر بالدولار الأميركي، لم يعد أمامهم إلا تحصيل حقّهم بيدهم، وهو شأن قانوني بالنسبة إليهم في ظلّ تقاعس الأجهزة القضائية أيضًا عن محاسبة المصارف، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
ولقد أُنشئت جمعية تُسمّى “صرخة حقوق المودعين”، وهي جمعية تُعنى بالدفاع عن حقوق المودعين في المصارف اللبنانية، نتيجة الأزمة الحاصلة والظلم الذي تعرض له المودع، حيث تدرك هذه الجمعية حجم الأزمة الاقتصادية التي يمرّ بها لبنان وعدم وجود سيولة مالية لدى البنوك، لذلك تطالب السلطات بإيجاد آلية واضحة للمودعين بشأن استرداد ودائعهم في البنوك.
وقال حسن مغنية، رئيس جمعية المودعين اللبنانيين، لـ”الجزيرة”، إن اقتحام البنوك سيستمر ما لم يتمّ التوصل إلى آلية لتهدئة المودعين، وحذّر من أن لبنان قد يشهد العشرات من عمليات اقتحام البنوك من قبل مودعين للحصول على ودائعهم في البنوك.
وأضاف أن السبب وراء ذلك يعود إلى تعنُّت الأحزاب والمنظومة السياسية الحاكمة من جهة، ومصرف لبنان من جهة ثانية، والمصارف اللبنانية من جهة ثالثة، فالمسؤولون في لبنان لم يقدّموا أية ضمانات للمودعين، أو يعلنوا عن خطط أو آليات لبثّ الطمأنينة بين المودعين، منذ بداية الأزمة عام 2019.
يتنصّل أغلب المسؤولين من المسؤولية، وكما جرت العادة أثناء حدوث أزمات في لبنان، يتراشق السياسيون الاتهامات، وكل جهة تلقي بالمسؤولية على الجهات الأخرى، ويبقى المواطن هو الضحية الغارقة في دوامة الأزمات، إذ يعاني كثير من المواطنين بصمت بين مرض وفقر منذ 3 سنوات، وودائعهم في البنوك محتجزة دون أي ردة فعل من قبل الدولة أو حتى المصارف.
وأوضح مغنية: “عقدنا 4 اجتماعات مع جمعية المصارف للوصول إلى حل أقلّه بالنسبة إلى الحالات الصحية، وإعطاء المريض أمواله، بيد أنها لم تؤدِّ إلى أي نتيجة، من هنا نتوقع المزيد من هذه المشاهد، في الوقت الذي تتاجر فيه المصارف والأحزاب الـ 6 بمنصة “صيرفة” على حساب جنى عمر المودعين”.
وتؤكد الجمعية أن هدفها الرئيسي هو استعادة الودائع كاملة، وليس التقيُّد بتعاميم مجحفة غير قانونية وغير دستورية، ومخالِفة للفقرة “و” والمادة 15 من الدستور اللبناني، التي تنصّ أن “الملكية في حمى القانون فلا يجوز أن ينزع عن أحد ملكه إلا لأسباب المنفعة العامة في الأحوال المنصوص عليها في القانون وبعد تعويضه منه تعويضًا عادلًا”.
تلوم الجمعية عبر صفحاتها على فيسبوك القضاء اللبناني، وتتهمه بعدم النزاهة والتبعية للسياسيين، وتدعوهم إلى مراجعة الدستور والقوانين اللبنانية جيدًا، قبل اتخاذ إجراءات عشوائية تحمي اللصوص وتظلم صاحب الحق.
وقد اتجه في وقت سابق النائب العام التمييزي، القاضي غسان عويدات، إلى إصدار أمر قضائي بملاحقة مرتكبي “عمليات السطو المسلَّح” على البنوك ومحرّضيهم، متجاهلًا أنهم مودعون يطالبون بجنى عمرهم الذي أودعوه في المصارف.
موقف جمعية المصارف
تأسَّست جمعية مصارف لبنان عام 1959، وبحسب النظام الأساسي يحقّ لكل مصرف مدرَج في لائحة المصارف التي يضعها مصرف لبنان، أن ينضمَّ إلى الجمعية كعضو عامل فيها، وذلك بناءً على طلبه، كما يمكن لمكاتب التمثيل التابعة لمصارف أجنبية أن تنضمّ إلى الجمعية كأعضاء منتسبين.
ومن حين إلى آخر يصدر القضاء اللبناني قرارات تقضي بالحجز على أسهم وأصول عائدة لمصرفيين لبنانيين، على خلفية دعاوى ضدّهم من قبل مودعين يطالبون بتسديد كامل أموالهم.
وقد أصدرت في وقت سابق النيابة العامة الاستئنافية في محافظة جبل لبنان قرارًا بمنع سفر رؤساء مجالس إدارة 5 مصارف، على خلفية تحقيقات بدعاوى ضدهم حول تهم “فساد” مقدَّمة من قبل مجموعة محامين.
تعترض جمعية المصارف على تلك الدعاوى، وتصفها بالكيدية وتتهم فيها جهات سياسية محددة، وتردّ عليها بإضرابات متقطّعة، حيث نفّذت عدة إضرابات احتجاجًا على تلك الدعاوى.
تعتبرُ جميعة المصارف أن الاقتحامات واستخدام القوة ليسا هما الحل، بل في تحمُّل الدولة مسؤوليتها بالإسراع في تأمين حل شامل وعادل لجميع المواطنين.
وتحاول جمعية المصارف المحافظة قدر المستطاع على مصالحها، وردًّا على محاولات الاقتحامات الأخيرة، أعرب مجلس إدارة جمعية مصارف لبنان، بعد اجتماعه بحضور كامل أعضائه، عن إدانته بأقصى درجات الشجب والاستنكار “ما تعرّض له الموظفون المعنيون والزبائن المتواجدون معهم.
ولفت في بيان إلى “أنه تأكّد من المصارف المجتمعة، أنها تتعامل بإيجابية مع الحالات الإنسانية الخاصة لبعض المودعين، ويرفض رفضًا باتًّا أن تُنتهك كرامات موظفيه”.
وناشد مجلس الإدارة الدولة بكامل أجهزتها السياسية والأمنية والقضائية، بـ”تحمُّل أدنى مسؤولياتها إزاء تدهور الوضع الأمني، وعدم التخاذل مع المخلّين به، علمًا أن المصارف لن تتأخر بعد اليوم عن ملاحقة المعتدين حتى النهاية”، بحسب ما جاء في بيانه.
وتعتبرُ جميعة المصارف أن الاقتحامات واستخدام القوة ليسا الحل، بل تحمُّل الدولة مسؤوليتها بالإسراع في تأمين حل شامل وعادل لجميع المواطنين.
وبذلك هي ترمي أعباء الأزمة المالية في حضن الدولة اللبنانية المنهارة، فمنذ أشهر لم يتمّ تشكيل حكومة بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، وكما يبدو أن الاستحقاق الرئاسي يسير على النهج نفسه، وبذلك يجد المودع نفسه يدور في حلقة مفرغة لا نهاية لها.