لو لم يكن للموت إلا هذه اللّفحة الباردة الجوفاء ككلّ شيء حقيقي بعد كل هذا الدفئ والركون، لكفاه لُغزيّة وضبابية، كل فكرة منطقيّة تتكسر أمام جبهة الموت، لذلك أعتقد جديًا بأن أي محاولة للملمة ما يعترينا إثرَ فقدان “رضوى” لن يغدو ذو أهمية مجدية الآن، الظل هو العنوان، والأثر هو المضمون، ما الذي يكسب الفكرة معناها إلا الظلال؟ هذا الانسكاب الجلي للارتحالات الذهنية التي تأخذُنا الفكرة إليها كلما غاب حاملها، ما يمنحها باعِثها الدائم ومداها، هذا هو تحديًدا الأثقل من رضوى، وما بقي لنا منها.
لم تكن رضوى اللغة التي ارتحلت فينا في كل الأماكن والهزائم وكل ما لم تُسعِفنا به المحسوسات في التعبير عنه فحسب، بل كانت هذه الحاسة ذاتها، حاسة المكان التي كان باستطاعتها أن تُهوّم النزيف الوئيد في العقل والقلب حتى الثُّمالة، وبذلك انبجست من كل عتمة، فكرة متحررة من الموت والهباء، آخذة أبعد مدى بالصفاء والجمال.
في البدء وكل ما بقي منه لم يكن لنا إلا الكلمة، وأكثرها التباسًا وحقيقية بداخلنا هي هذه الكلمة التي تعرفنا على سرٍّ جديد من أسرار وجودنا الإنساني بكل تعقيداته وضُعفه وقوّته وكل ما لا يفسّر من تصرفاته، عرّتنا رضوى بما يكفي أمام هذه الأسرار وتشكيلاتها اللغوية والحسيّة للأثر المكاني على نفوسنا كالذي خبرناه في قرية “الطنطورة” حين هزمنا المكان طويلاً ونبش فينا كل حُمى غير مفسرة ، فتدفقت عبر أناملها بكل اللغوي المفقود، وكل ما يعْبث بنا أمام مشهد كامل يتشكل ويولد ويموت يوميًا فينا للسقوط وللشهداء وللغربة وللنكبات.
بأعظم ما أوتيت من صدقٍ وتماسك استطاعت رضوى أن تتمكن من الذاكرة دون أن تقتلها، أن تحول كل غرقها إلى دوامات نقطع فيها حقلاً طويلاً في ظل نور خافت لا يمكّن اليأس المرير منا، استطاعت أن تملأنا بما يكفي لكشف ظلال المكان فينا ولنمدّ ذراعًا تفي حق المسافة منا، فنمشي بكل خطانا الخفيفة إلى حيث ترتحل فينا اللغة والصورة حين أملت رضوى إرادة حرفها عليها وروحه دون أن تخدش أقل تفصيل.
هذه رضوى الباعثة لكل ما يحييها، لكل ما يُعلي غيابها الحاضر فينا، ولكل ما يدهشنا، استطاعت أن تنصب البلاغة في وجه المكان المفقود، استطاعت رضوى أن تصنع لنفسها أقدامًا لبقية طريق لم يكن بهذه السهولة المضيّ فيه، فأشعلت له القضية الحيّة والفكرة.
هذه رضوى سكبت ظلها الباقي فينا رغمًا عن كل الغياب، فكانت الأثقل من المكان، كانت سؤاله وجماله وحقيقة بواعثه فينا، وكل ارتحالاته ابتداءً من حرفها وحتى ملاذها الأخير هناك حيث يرقد الصادقون جدًا، الشجعان جدًا، والطيبون جدًا .. بما يكفي للحياة أن تستعجل بسرقتهم.
عليك السلام وعلى روحك التي بقيت لنا نحن المنهكون الذين لم نملك بعد هذا الخيار الأبدي للركون، لنا الطريق والظل الذي خلد فينا من بعدك، سابقتِ الزمن يا رضوى وتمكّنتِ منه حتى عاد وسيعود دومًا حافيًا بك.
“نفتقدك لأنك معنا، وغائبة.. ولأن ألم الغياب بدا كخيط دقيق مضفور بخيط آخر، من الزهو، ربما .. ومن الامتنان لكِ”.