قبل 25 يوليو/تموز 2021، كانت الحكومات التونسية مهما اختلفت توجهاتها تتجنب زيادة أسعار المواد خاصة الأساسية منها، لخشيتها من انعكاسات ذلك على السلم الاجتماعي، فما إن تتم الزيادة وإن كانت بسيطة حتى تشتعل الاحتجاجات والمظاهرات في مناطق عدة من البلاد وتصدر البيانات وتنظم المؤتمرات الصحفية للتنديد بالزيادات وتنصب “المحاكم” في البلاتوهات التليفزيونية والإذاعية.
كثيرًا ما تتزعم أحزاب المعارضة والاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية) تلك الاحتجاجات، فـ”قفة” المواطن خط أحمر عندهم، ولا سبيل للمس بمقدرته الشرائية، لكن هذا الوضع تغير بعد انقلاب قيس سعيد على دستور البلاد ومؤسساته الشرعية قبل نحو سنة وشهرين.
بعد انقلاب سعيد توالت الزيادات الواحدة تلو الأخرى، حتى في نفس البضاعة كما هو الحال في الوقود مثلًا، لكن الغريب أنه ليس هناك صوت معارض، فالمركزية النقابية باركت هذه الزيادات وروجت لها أيضًا، والأحزاب السياسية في سبات يمكن أن يطول أكثر، وأغلبية فئات الشعب تعيش لا مبالاة غريبة وتطبيع أغرب مع هذه الزيادات الرهيبة.
زيادات متواترة
شملت أحدث الزيادات، أسعار المحروقات، فللمرة الرابعة خلال السنة الحاليّة فقط، ترفع الحكومة التونسية أسعار أغلب المواد البترولية، وأرجعت وزارتا الصناعة والمناجم والطاقة والتجارة وتنمية الصادرات التونسيتان، قرار الزيادة إلى “تواصل ارتفاع أسعار المحروقات في السوق العالمية، نتيجة الأزمة الروسية الأوكرانية، وما تشهده أسواق الطاقة من اضطرابات تتعلق بتقلص الإمدادات وارتفاع كلفة المواد البترولية”.
وشمل التعديل، أسعار البنزين الرفيع الخالي من الرصاص والسولار دون كبريت والبنزين العادي بزيادة 70 مليمًا للتر الواحد لكل منها، ليبلغ بذلك سعر لتر البنزين الرفيع الخالي من الرصاص 2.400 دينار (75.2 سنت) للتر الواحد، بينما صعد سعر الغازوال (السولار) دون كبريت إلى 2.080 دينار (65.2 سنت) للتر، ىبينما صعد سعر لتر الغازوال (السولار) العادي إلى 1.860 دينار (58.3 سنت) للتر الواحد.
كما ارتفع سعر أسطوانات غاز الطهي 14%، وقالت وزارة الطاقة إن أسعار غاز الطهي – التي زادت لأول مرة منذ 12 عامًا – سترتفع من 7.75 دينار إلى 8.8 دينار (2.75 دولار)، ومن المنتظر أن تشهد تونس زيادات قادمة في المحروقات في قادم الأشهر، عملًا بتوصيات صندوق النقد الدولي.
اختارت العديد من الأحزاب الصمت خوفًا من محاسبتهم على تهم اقترفوها من قبل بالفعل وتم التغطية عليها أو أن يتم تلفيق تهم جديدة ضدهم
ارتفاع الأسعار لم يتوقف عند المواد البترولية فقط، وإنما امتد للمواد الغذائية، فشهدت أسعار لحم الدواجن ارتفاعًا كبيرًا فاق 10%، كما ارتفعت أسعار البيض والسمك ولحم البقر وأسعار مشتقات الحبوب، فضلًا عن ارتفاع أسعار الياغورت والمياه المعدنية والمشروبات الغازية والزيت النباتي.
كما مس الارتفاع أسعار مواد وخدمات التعليم، خاصة بعد فقدان الأدوات المدرسية المدعمة من الأسواق مع بداية العودة المدرسية والجامعية، وارتفعت أسعار مواد البناء كالحديد والأسمنت، وزادت أسعار السكن من حيث الشراء والكراء، فضلًا عن مواد التنظيف.
وتدرس الحكومة زيادات جديدة، ستمس الحليب ومشتقاته، وأيضًا قطاع المواصلات، ما من شأنه أن يزيد من متاعب التونسيين ويثقل كاهلهم ويزيد عليهم مشقة الحياة في بلد لم يعد نظامه يكترث لمعاناة المواطنين، قدر اهتمامه بمصالحه الضيقة.
إلى جانب هذه الزيادات الكثيرة، سجلت الأسواق التونسية ندرة في مواد عديدة، خاصة الغذائية منها، مثل الدقيق والطحين والزيت النباتي والأرز والسكر والقهوة والحليب والمياه المعدنية والمشروبات الغازية والبسكويت.
تطبيع ولا مبالاة
الغريب في الأمر أن هذه الزيادات المتتالية لم تعقبها احتجاجات حتى عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فبعد رصد قمنا به في الشارع التونسي وفي العديد من الصفحات والحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي لم نلحظ أي استنكار أو رفض لهذه الزيادات.
حتى إن وجد بعض الرفض يكون للتندر فقط، تمضية للوقت، وسرعان ما يتغير الموضوع عند أول موضوع جديد، كما حصل مع موضوع الزيادات في الأجور، فما إن تم إقرار الزيادات حتى رافقها موضوع علاقة شركة سيفاكس للطيران لمالكها محمد فريخة الذي سبق أن شغل خطة نائب في البرلمان عن حركة النهضة، بموضوع تسفير الجهاديين إلى سوريا.
غلب موضوع “التسفير”، مسألة الزيادات، رغم أن الزيادات تمس المواطن مباشرة وهو المتضرر الأول منها، ما يؤكد وجود درجة عالية من “التطبيع” مع أخبار الزيادات ولا مبالاة كبيرة لهذا الموضوع رغم أهميته كما قلنا.
أقرت وزارتا الصناعة والمناجم والطاقة والتجارة وتنمية الصادرات في #تونس زيادة جديدة في أسعار المحروقات. وستكون هذه الزيادة الرابعة خلال سنة 2022 وذلك إلى حد الآن
يتبع
— Neila Hammi | نائلة الحامي (@Neila_Hammi) September 17, 2022
حتى الأحزاب السياسية لم نعد نسمع لها صوتًا، فلا تنديد ولا احتجاجات ولا ندوات ومؤتمرات لـ”فضح” تجاوزات النظام وكشف تلاعبه بقوت التونسيين كما كان عليه الوضع قبل انقلاب قيس سعيد على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية.
الاتحاد العام التونسي للشغل أيضًا، الذي كان يقول إنه أكبر قوة في البلاد والضامن لرفاهية التونسيين والمدافع الأول عن قوت يومهم ومقدرتهم الشرائية، لم يُسمع له صوت وإن كان خافتًا، فأغلب قياداته تواروا عن الأنظار ومن ظهر منهم ظهر للتبرير فقط.
خشية من المحاسبة ورغبة في الامتيازات
يمكن فهمُ لا مبالاة التونسيين بتعبهم من الاحتجاجات والتظاهرات، فجل تلك الاحتجاجات استثمرتها الأحزاب السياسية المعارضة وحتى الأحزاب الحاكمة والماسكة بزمام السلطة في بعض الأحيان.
ومن المدهش صمت الأحزاب السياسية التي دائمًا ما كانت في الصفوف الأولى للتنديد بالزيادات وتعمد الحكومات المس من “قفة التونسي”، لكن يمكن تفسير هذا الصمت بعدم رغبتها باستفزاز سلطات الانقلاب.
يرجع هذا الصمت أيضًا إلى رغبة بعض الأطراف الحزبية، وعددهم كبير، في بعض الامتيازات القادمة ذلك أنهم يظنون أن الصمت على “الجرائم” المقترفة في حق التونسيين يمكن أن يمنحهم بعض الامتيازات، رغم أن سعيد أثبت في أكثر من مرة عدم اكتراثه بالأحزاب.
استغل سعيد إرهاق التونسيين وتعبهم واهتراء المنظومة الحزبية في البلاد، وعدم تجرؤ معظم الأحزاب على معارضته وانتهازية اتحاد الشغل
أما المركزية النقابية ونعني بذلك اتحاد الشغل فصمته راجع – على الأرجح – إلى خشية قيادته من إعادة فتح ملف القضية المرفوعة ضد الاتحاد من عدد من النقابيين لإبطال مؤتمره الاستثنائي غير الانتخابي الذي انعقد بمدينة سوسة الصيف الماضي.
وسبق أن أصدرت المحكمة الابتدائية بتونس في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، حكمًا ابتدائيًا يقضي ببطلان المؤتمر الاستثنائي غير الانتخابي للمركزية النقابية، لكن الاتحاد طعن في الحكم، متمسكًا بشرعية انعقاد مؤتمره طبقًا لنظامه الأساسي وإرادة هياكله وقواعده.
كما تخشى المركزية النقابية من فتح نظام قيس سعيد العديد من الملفات التي يمتلكها والمتعلقة بقضايا فساد تمس اتحاد الشغل وقيادته الحاليّة والسابقة من بينها قضية التهرب من سداد الديون المتخلدة بذمة الاتحاد لصالح الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي المقدرة بـ20 مليار، وحصوله على مبالغ مالية ضخمة من الدولة دون وجه حق.
ماذا لو حصلت هذه الزيادات زمن الحكومات الشرعية؟
السؤال المطروح الآن: ماذا لو حصلت هذه الزيادات زمن الحكومات الشرعية؟ أكيد حينها سنشهد احتجاجات شعبية كبيرة تعم مختلف مناطق البلاد خاصة العاصمة في تونس وذلك بدفع من الأحزاب السياسية واتحاد الشغل.
في يناير/كانون الثاني 2018، تحدثت تقارير عن زيادات حكومية مرتقبة في بعض المواد، سرعان ما تناقلت الأحزاب واتحاد الشغل هذه التقارير وقرروا النزول للشارع بكل قوتهم، فشهدت تونس حينها موجة عاتية من الاحتجاجات العارمة في العديد من المناطق، رافقتها أعمال شغب وتخريب.
تكررت الاحتجاجات في أبريل/نيسان 2019، على خلفية زيادة أسعار المحروقات، وقام محتجون بقطع طرق فرعية وشوارع رئيسية بالعجلات المطاطية والحجارة والأخشاب، ما تسبب في أزمات مرورية ببعض المناطق.
سعر لتر البنزين الخالي من الرصاص قفز إلى 2155 مليما مقابل 1850 مليم للتر ??.. ألا يوجد عاقل واحد يخترع سيارة تشتغل بالمشروبات الغازية؟! ??? #تونس #محروقات #أسعار_النفط
— ihsen turki إحسان ?? (@turkihsen) February 1, 2022
في يونيو/حزيران 2021، قبل شهر من انقلاب قيس سعيد على مؤسسات الدولة الشرعية، شهدت تونس احتجاجات كبيرة تنديدًا بالزيادات في الأسعار، بدعوة من أحزاب المعارضة والنقابات العمالية، فـ”حياة التونسي في خطر”.
نفس الأمر تكرر أكثر من مرة خلال السنوات الفاصلة بين 2011 و2017، فما إن تقرّ الحكومة زيادة ما حتى ينتفض الشارع، وفي العديد من المرات تضطر الحكومة للتراجع عن الزيادة شراءً للسلم الاجتماعي، رغم إصرار صندوق النقد الدولي على رفع الدعم وزيادة أسعار العديد من المواد.
تغير الوضع بعد انقلاب سعيد، ذلك أنه استغل إرهاق التونسيين وتعبهم واهتراء المنظومة الحزبية في البلاد وعدم تجرؤ معظم الأحزاب على معارضته وانتهازية اتحاد الشغل لفرض إملاءات صندوق النقد الدولي في البلاد، حتى يخرج من عزلته الدولية ويحصل على دعم دبلوماسي ومالي يمكّنه من مواصلة فرض برنامجه الاستبدادي.