محاولات عديدة انتهجها الاحتلال الإسرائيلي لضمّ فلسطينيي الداخل المحتل “تحت جناحه” الفكري والسياسي، وهو ما أُطلق عليه اسم “الأسرلة” أي جعلهم “إسرائيليين”، إلا أنه وجد من عجزه وفشله ما وجد، ورأى نفسه يحصي خيباته بظهور قوى فلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1948، وظهور شباب يغني لفلسطين وأرضها المنكوبة، ويحيي تراثه وذكراه في قراه المهجرة.
في سياق ذلك، ضرب الاحتلال إنذار الخطر، وبالتوازي مع محاولاته البائسة لأسرلة المجتمع الفلسطيني في الداخل المحتل، شرع سلاح الرقابة والملاحقة أمام كل من يحاول أن يتحدث بصوت فلسطيني، أو يشعلَ منارةً لفلسطينيي الداخل المحتل تقيهم من الانغماس في مجتمع صهيوني يحيطُ بهم، وليس الأمر عند رفض الأسرلة بمفهومها العام، بل أيضًا أمام دعوات مقاومة الاحتلال.
أسرلة وعزل مستمرّان
بعد نكبة عام 1948، لجأ الاحتلال الإسرائيلي إلى سياسة تهويد الأرض الفلسطينية، وبحسب “بتسيلم” طبّقت “إسرائيل” “سياسة تهويد المكان التي تقوم على تصوُّر يعتبر الأرض موردًا مخصصًا لخدمة احتياجات الجمهور اليهودي بشكل شبه حصري”، في محاولة لعزل فلسطينيي الداخل المحتل ومحاربتهم.
تماشيًا مع ذلك، أقرَّ الكنيست الإسرائيلي عام 2016 قانون “الإقصاء”، الذي يتيح لغالبية أعضائه إقصاء عضو في الكنيست بدواعي “تحريضه على العنصرية”، أو دعمه الكفاح المسلح ضد “إسرائيل”، ويستهدف القانون في الأساس، وفق مراقبين، الأعضاء العرب، في محاولة لمنع وجود أي صوت عربي في مركز صنع القرار، ولاحقًا، عام 2018، بدأت حكومة الاحتلال بشكل رسمي محاولة فرض قانون القومية اليهودية الذي يعتبِر، في المقام الأول، الديانة اليهودية أساسًا لمنح الجنسية والمواطنة في “إسرائيل”.
كما تجمّد “إسرائيل” فعليًّا سجلّ السكان الذي تديره في الأراضي المحتلة، وتستخدم الأمن ذريعة لتحقيق مآرب ديموغرافية أخرى، وتمنع لمّ شمل العائلات الفلسطينية التي تعيش هناك بشكل شبه تام، وبحسب هيومن رايتس ووتش تمنح السلطات الإسرائيلية امتيازًا للمستوطنين على حساب الفلسطينيين، بما في ذلك حرية التنقل، وتخصيص الأراضي والموارد، والحصول على المياه والكهرباء وغيرهما من الخدمات، ومنح تصاريح البناء.
الأمر انتقل أيضًا إلى التعليم، فمنذ عام 2010 دأبت سلطات الاحتلال على الإشارة إلى ما تسميه “التحريض ومعاداة السامية في كتب المنهاج الفلسطيني”، وعليه عمّمت بلدية الاحتلال على المدارس التابعة لها توجيهات بألا تستخدم إلا الكتب التي تأتي عن طريقها، وألا تحصل عليها من المطابع الفلسطينية، وقد واجه التعميم رفضًا من مدراء المدارس، كما أن بعض لجان أولياء الأمور الفلسطينيين، خاصة في بلدتَي الطور والعيساوية، تتحدى “الأمر الواقع” وتوزّع سنويًّا على عاتقها المنهاج الفلسطيني غير المحرَّف مجانًا.
رقابة الفلسطيني في أرضه: جمع المعلومات
لمحاربة الجبهة الداخلية، المكوّنة من فلسطينيين حملوا الوطن في قلوبهم، عمدت سلطات الاحتلال على معلومات استخباراتية وملفات قرى بدأ يجمعها منذ ثلاثينيات القرن الماضي، أي قبل احتلاله الأرض بشكل علني، وشملت تلك المعلومات، التي طالت أكثر من ألف قرية فلسطينية، تفاصيل دقيقة عن الجغرافيا وسكّانها وتوجهاتهم الدينية والسياسية، وتفصيلات أخرى كثيرة، إلا أن متغيّرًا مهمًا كان يُجمع من ضمن هذه المعلومات، وهو مؤشر العداء للصهيونية، وجرى تحديث ملفات هذه القرية مرات كثيرة.
وبعد أن جمعت “إسرائيل” كمًّا كبيرًا من المعلومات حول فلسطينيي الداخل المحتل، استخدمتها لإثارة الانقسامات الداخلية في بنية المجتمع الفلسطيني، وذلك لتسهّل عملية المراقبة والملاحقة، فمثلًا أصدرت قوانين منع العودة وتقييد الحركة للفلسطينيين، منها إصدارها لوحات تسجيل معدنية للمركبات التي يملكها فلسطينيون، تبعها إعطاء أوامر للشرطة بتتبُّع هذه السيارات وتحديد أماكن وقوفها.
قانون فيسبوك: مراقبة الصوت الفلسطيني
لم يقف الأمر عند هذه الأدوات التي هدفت حكومة الاحتلال فيها إلى مراقبة حركة فلسطينيي الداخل المحتل، في إجراء يمتاز بالعنصري، ويؤكّد على خوفها الذاتي من وجود أي جذور فلسطينية في المنطقة، بل أصدرت قوانين خاصة تهدف فيها إلى ملاحقة الصوت الفلسطيني، وأي كلمات أو عبارات فلسطينية لا تتوافق مع الفكر الاستعماري.
مع بداية عام 2017، صادق كنيست الاحتلال بالقراءة الأولى على مشروع قانون فيسبوك، الذي اقترحه وزير الأمن الداخلي لدى الاحتلال، جلعاد أردان، ووزيرة القضاء حينها، إيليت شاكيد، ويقضي بإعطاء صلاحيات بإزالة محتويات “تحرّض على الإرهاب”، حسب نص مشروع القانون.
بحسب مؤسسة الضمير التي تُعنى برعاية الأسرى، والتي صنّفها الاحتلال كمؤسسة إرهابية من ضمن 6 مؤسسات حقوقية تعمل في الأراضي الفلسطينية، فإن الاحتلال يستند عند إدانته سكان القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1948، إلى المادة 144 من قانون العقوبات للعام 1977 “التحريض على العنف والإرهاب”.
حيث تنصّ المادة على أنه “من يقوم بنشر منشورات لارتكاب عمل من أعمال العنف أو الإرهاب، أو الأمور التي يتخللها تعاطف أو تشجيع لعمل من أعمال العنف أو الإرهاب، أو يقوم بإظهار الدعم أو التعاطف مع مثل هذه الأعمال (في هذا البند – منشور تحريضي) ووفقًا لمحتويات المنشور والظروف المصاحبة لنشره، بأن هناك إمكانية فعلية بأن يؤدي هذا المنشور إلى ارتكاب أعمال عنف أو إرهاب، عقوبته تصل إلى حبس لمدة 5 سنوات”.
فعليًّا، ووفقًا للضمير، فإن ملاحقة الفلسطينيين على خلفية منشورات كتبوها وبتهم التحريض، بدأت منذ عام 2014 بدواعي الحجج الأمنية الملحّة، حيث بدأت المحاكم بإصدار أحكام عالية تتراوح ما بين 6 و24 شهرًا سجنًا فعليًّا، إضافة إلى غرامات عالية، وفي الغالب كانت المحكمة تعتبر أن المنشور الواحد يشكّل مخالفة؛ فعلى سبيل المثال، إذا ما قام المتهم بكتابة 6 منشورات على صفحته الخاصة على فيسبوك، يعتبر وكأنه ارتكب 6 مخالفات، وتأخذ المحكمة بعين الاعتبار، عند إصدار الأحكام، عدد الأصدقاء وعدد الإعجابات على المنشور، وعدد التعليقات، وعدد المشاركات للمنشور نفسه.
وخلال النصف الأول من العام الجاري 2022، كشف مركز فلسطين لدراسات الأسرى أن الاحتلال اعتقل 146 فلسطينيًّا بسبب آرائهم ونشاطهم على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصًا فيسبوك، ووجّه لهم تهم التحريض، وبحسب المركز فإن العدد الأكبر من المعتقلين على تلك التهمة من سكان القدس المحتلة، حيث أنشأت سلطات الاحتلال مؤخرًا وحدة جديدة تحت مسمى “وحدة الوعي”، مهمتها مراقبة حسابات المقدسيين على مواقع التواصل وتقديم توصيات للجهات الأمنية باعتقالهم، بحجّة أن آراءهم ومنشوراتهم تدعو إلى التحريض والعنف.
محاولة فصل عن الواقع
كمحتلٍّ منطلق من الفكر الاستعماري، ليس غريبًا عليه أن يسوق الحجج لاعتقال الفلسطيني، خاصة بعد خيباته من فشل مشروع “الأسرلة”، فبات يرى، على الأقل في ظل الوضع الراهن، أنه يستطيع أن يفصل فلسطينيي الداخل المحتل عن بقية الأراضي المحتلة والهمّ الجمعي الفلسطيني، إلا أن الصفعة أتته سريعًا مع أحداث مايو/أيار 2021، حين اشتعل الداخل الفلسطيني جنبًا إلى جنب مع الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات، وأضربوا في “إضراب الكرامة”، ليكون ردًّا مدويًا على أي محاولة فصل.
وكما لم يخضع الفلسطينيون لخطط الاستعمار، لم تيأس “إسرائيل” من محاولات التهريب والملاحقة لفرض هذه الخطط، بينما نكتبُ هذا التقرير تواصل سلطات الاحتلال فرض الحبس المنزلي على الطالبة الجامعية من النقب، مريم أبو قويدر، بعد أن قدّمت نيابة الاحتلال لائحة اتهام بحقها تتهمها بالتحريض على العنف والإرهاب، وذلك في أعقاب نشرها صور ومقاطع فيديو تظهر اعتداءات شرطة الاحتلال على بدو النقب مطلع العام الجاري.
في الوقت ذاته، يستمر الاحتلال باعتقال شيخ المسجد الكبير في مدينة اللد المحتلة، يوسف الباز، متهمًا إياه بـ”التحريض على العنف والإخلال بالنظام”، وذلك بسبب منشورات على موقع فيسبوك خلال اقتحام المسجد الأقصى وهجمات نفّذها مستوطنون إسرائيليون على بعض المدن العربية في الداخل خلال عام 2021.
وبحسب محاميه خالد زبارقة، فإن “الشيخ يلاحَق على خلفية تصريحاته في ندوة سياسية أقيمت بالمدينة خلال هبّة مايو/ أيار 2021 (هبة الكرامة)، حيث وصف من يتصدى لاقتحامات المستوطنين واعتداءات الشرطة الإسرائيلية على المصلين بالأقصى والفلسطينيين بالقدس بـ”الأبطال”، وأنهم ليسوا “زعرانًا” كما وصفتهم سلطات الاحتلال”.
إذًا، ليس الميدان الجغرافي وحده الذي تدور فيه جولات الصراع بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، وليست الأسلحة العسكرية فقط ما تشهرها “إسرائيل” ككيان محتل في وجه أصحاب الأرض، إنما تدير معاركها في أي ميدان تصطدم فيه مع الفلسطينيين، أو يحاول فيه الفلسطينيون صناعة أدوات مناعة جديدة تصبّ في رصيد مقاومتهم للمحتل، ومنها الميدان الرقمي.