في الوقت الذي ينتظر فيه غالبية الشعب التونسي تحرُّك رئيس البلاد قيس سعيّد لإنقاذهم من أزماتهم الاجتماعية والاقتصادية، وفق ما أكّد لهم حين انقلابه على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية، انكبَّ نظام سعيّد على “خلق” ملفات قضائية بهدف “محاسبة” حركة النهضة – الحزب الأول في تونس -.
محاسبة النهضة ليس على فساد ارتكبه قياديوها زمن حكمهم أو بعده، أو بسبب تقصير في الحكم، إنما بسبب قضايا قديمة تمَّ الفصل فيها والحكم على المذنبين من سنوات، ما يُفهم منه وجود إرادة من سعيّد وحاشيته للتنكيل بالنهضة وقيادات الصف الأول وإذلالهم، لغايات نتعرّف إليها في هذا التقرير.
النهضة تواجه آلة سعيّد القمعية
في وقت مبكّر، فجر اليوم الثلاثاء، قررت النيابة العمومية في تونس التحفظ على علي العريّض، نائب رئيس حركة النهضة، حتى الأربعاء على ذمة التحقيق، فيما سُمّي إعلاميًّا بقضية “التسفير إلى بؤر التوتر”، بينما قررت النيابة إرجاء الاستماع لرئيس الحركة، راشد الغنوشي، إلى بعد ظهر اليوم.
قرار التحفُّظ على العريض – وهو رئيس وزراء أسبق ووزير داخلية – جاء بعد جلسة استجواب دامت نحو 14 ساعة، في البداية لم يُسمح للمحامين بالدخول معه وتمَّ التنكيل ببعضهم، ما دفعهم إلى التنديد بما حصل، وفق ما رصدناه.
بدوره، وصف المحامي سمير ديلو – عضو هيئة الدفاع – القضية بـ”المهزلة”، وأكّد أن ملف القضية فارغ، واستغرب ديلو قرار التحفظ على العريض، خاصة أنه لا يوجد ملف من أصله يتمّ بمقتضاه التحقيق مع نائب رئيس النهضة.
ممارسة التنكيل لم تتوقف عند علي العريض بل امتدّت إلى رئيس الحركة ورئيس البرلمان راشد الغنوشي، حيث بقيَ الغنوشي ينتظر أكثر من 14 ساعة دوره للاستجواب، ورفضت النيابة طلب هيئة الدفاع السماح للغنوشي بالعودة إلى منزله إلى حين بدء استجوابه، مراعاة لسنّه وحالته الصحية.
منذ الانقلاب، تصدرت حركة النهضة وقادتها فعاليات مناهضة حكم قيس سعيّد الديكتاتوري، وقادت المظاهرات والتحركات الشعبية الرافضة لحكمه
في ساعة مبكرة من فجر اليوم، سُمح للغنوشي بالعودة إلى بيته إلى حين استجوابه اليوم، ومن المتوقع أن يتمَّ الاحتفاظ به هو الآخر إلى حين عرضه على قاضي التحقيق، للتحقيق معه في القضية التي تتعلق “بشبكات التسفير إلى بؤر التوتر”.
يُفهم ممّا حصل أمس مع العريض والغنوشي، وجود سياسة ممنهجة للتنكيل وإذلال حركة النهضة وقادتها، خاصة إن علمنا أن القضية التي أُحيل من أجلها تمَّ النظر فيها في يناير/كانون الثاني، وأصدرت المحكمة حينها أحكامًا تتراوح بين 5 سنوات و74 سنة.
يُذكر أن علي العريض كان ضد ظاهرة التسفير إلى بؤر التوتر وقد اتخذ إجراءات للحدّ منها، كما أنه هو من صنَّف تنظيم أنصار الشريعة منظمة إرهابية، وأعلن حربًا ضد الجماعات الإرهابية المسلحة، وصدرت ضده فتوى تقضي بقتله هو والغنوشي.
يُحاكَم في هذه القضية أيضًا نائبان عن النهضة، هما الحبيب اللوز ورجل الأعمال محمد فريخة مدير شركة “سيفاكس” الخاصة للطيران، ومن المنتظر أن يتمَّ الإفراج عنهما في أقرب وقت لغياب الأدلة الكافية لإدانتهما، لكن لا بدَّ من إذلالهما وإن تطلّبَ الأمر إفلاس إحدى أبرز شركات الطيران في البلاد.
تلفيق تُهم
تتدعّم هذه الفرضية إذا ما نظرنا إلى القضايا التي تمَّ تلفيقها لقادة آخرين في النهضة، مثل القيادي حمادي الجبالي الذي سبق أن شغل منصب رئيس حكومة وأيضًا الأمين العام للنهضة، وتمَّ اعتقاله مرتَين، مرة لعدم حيازته بطاقة تعريف وطنية، مُنع من الحصول عليها عندما تقدّم لتجديدها مع جواز السفر منذ أشهر عديدة، ومرة لتشغيله أفارقة في ورشته التي يعمل فيها، وقد تمَّ الإفراج عنه بعد التنكيل به وعائلته.
الأمر نفسه بالنسبة إلى القيادي نور الدين البحيري الذي سبق أن شغل منصب وزير عدل، حيث تمَّ اعتقاله واقتياده إلى وجهة غير معلومة، وتبيّن فيما بعد أنها مكان احتجاز غير قانوني، وبقيَ هناك لأسابيع، وقال وزير الداخلية حينها إن البحيري متهم بقضايا إرهابية تصل عقوبتها للإعدام، لكن تمَّ الإفراج عنه فيما بعد كون الملف فارغًا.
كما سبق أن تمَّ استجواب الشيخ راشد الغنوشي بتهمة التحريض على الأمنيين والإساءة لهم وإلى أجهزة الدولة بعد وصفهم بـ”الطاغوت”، وذلك على خلفية تأبين عضو مجلس الشورى في حركة النهضة فرحات لعبار، وقوله كلمة “طاغوت” في كلمة التأبين، وقبلها تمَّ استجوابه في قضية ترتبط بجمعية خيرية يقول نظام قيس سعيّد إنها تحصّلت على أموال من الخارج، ولم يجد المحققون ما يستدعي إيقاف الغنوشي، لذلك تمَّ الإبقاء عليه طليقًا.
توجُّه نظام سعيّد نحو إثارة هذه الملفات الفارغة، جاء بعد عجزه عن إيجاد ملفات حقيقية يمكن محاكمة قادة النهضة بناءً عليها، فبعد بحث طويل لجأ فيه سعيّد وجماعته إلى تسخير كل مؤسسات الدولة لإنجاحه، لم يتمكّنا من إيجاد أي ملف يُدين النهضة.
ودائمًا ما كان سعيّد يؤكد معرفته التامّة بالفاسدين والمفسدين ومن يصفهم بالسرّاقين والخونة، لكن يبدو أن القائمة التي يمتلكها لا تحتوي على أي اسم تابع لحركة النهضة حتى إن كان من الصف الثاني أو الثالث، فإن وجد لما كان سيتردّد في إذلاله، وهو ما يفسر لجوئه إلى هذه الملفات المحسومة.
أهداف كثيرة
إذلال حركة النهضة والتنكيل بقياداتها، الهدف منهما التغطية على فشل قيس سعيّد ونظامه في الاستجابة لمطالب التونسيين واحتياجاتهم، أو لنقُل عدم سعيهم للاستجابة لهذه المطالب، فكل همّ سعيّد وجماعته تنزيل برنامج “الزعيم” القمعي أرض الواقع.
يذكَر أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي في تونس – التي كانت مهد الثورات العربية – قد ازداد سوءًا بعد انقلاب قيس سعيّد في 25 يوليو/تموز 2021، وسيطرته على مفاصل الدولة وتطويع كل مؤسساتها خدمة له، فرغم السلطات الواسعة التي يمتلكها لم يتمكن من إيجاد حلول لأزمات البلاد بل زاد تعقيدها.
كما يُفهم من هذه التحركات، وجود إرادة من سعيّد لضرب النهضة وقسم ظهرها، ذلك أن النهضة هي الحزب الوحيد القادر على معارضته والتصدّي لبرنامجه الاستبدادي القائم على حكم الفرد الواحد، وفي ذلك رسالة أيضًا لباقي أطياف المعارضة من أجل الكفّ عن معارضة سعيّد، وإن لم تفعل سيكون مصيرها كالنهضة.
يحاول قيس سعيد ومن ورائه جاهدين القضاء على النهضة أو حتى التخفيف من قوتها وضرب رمزيتها لدى التونسيين
منذ الانقلاب، تصدّرت حركة النهضة وقادتها فعاليات مناهضة حكم قيس سعيّد الديكتاتوري، وقادت المظاهرات والتحركات الشعبية الرافضة لحكم سعيّد والمندِّدة بالإجراءات القمعية الممارَسة ضد فئات كثيرة من التونسيين.
كما أن ضرب النهضة وإضعافها يعدّان هدفًا مباشرًا للعديد من القوى الأجنبية المتدخلة في الشأن التونسي، التي يبتغي سعيّد التقرب منها من خلال إضعاف الحزب الأول في تونس، الذي يمثل خطرًا على مستقبل مشروع الأنظمة الاستبدادية.
وتعتبر حركة النهضة الحزب الأول والأكثر تنظيمًا في تونس، إذ تضمّ هياكل واضحة ومنسَّقة في جميع أنحاء البلاد، عكس باقي الأحزاب التي يفوق عددها الـ200، ولا ترى النور إلا في المناسبات.
النهضة ومواجهة آلة الاستبداد
بيّنا فيما سبق أن الرئيس قيس سعيدّ يسعى لضرب حركة النهضة قصد إضعافها والحد من قوتها، حتى لا يكون لها أي وزن سياسي ولا اجتماعي في قادم الأيام، ويعبِّد بذلك الطريق أمامه لإرساء قواعد حكمه التي تهدد تماسك المجتمع التونسي والسلم الاجتماعي للبلاد.
كذلك فعل نظام الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، وبعده نظام المخلوع زين العابدين بن علي، حيث كانت حركة النهضة من أشد المناهضين لحكمَي بورقيبة وبن علي، فقد عارضت النهضة عهدَي الاستبداد.
وقد اعتقلت الأنظمة المتعاقبة عشرات الآلاف من قيادات النهضة وأنصارها وزجت بهم في السجون، فيما قُتل عدد كبير منهم في مراكز الاعتقال وفي الكليات وأمام مرأى من عائلاتهم، ولجأ الآلاف منهم خارج البلاد خوفًا على حياتهم وحياة ذويهم.
مُورست ضدهم أنواع عديدة من التعذيب والتنكيل، حتى أن أحد قيادات الحركة، يُدعى كمال المطماطي، قُتل ودُفن في خرسانة في إحدى شوارع العاصمة تونس، مع ذلك بقيت حركة النهضة ورحل بورقيبة وبن علي.
رغم كل هذه الممارسات القمعية ضدهم، رجعت النهضة، التي تأسست سنة 1972، بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011، أكثر قوةً، حيث ربحت أغلب المحطات الانتخابية التي عرفتها تونس، وأصبحت أكبر حزب في تونس والأكثر تنظيمًا.
يحاول قيس سعيّد ومن معه جاهدين القضاء على النهضة أو حتى التخفيف من قوتها وضرب رمزيتها لدى التونسيين، قد يتمكّنون من ذلك حاليًّا لكن من الصعب جدًّا أن يطول الأمر، خاصة أن النهضة خبرت مواجهة الأنظمة الاستبدادية.