لسنوات عديدة، كيلت لحركة النهضة التونسية التهم تلو التهم، تصل عقوبة بعضها إلى حل الحزب وإعدام قادته، نُصبت المحاكم في البلاتوهات التليفزيونية والإذاعية وتمت المحاكمة وأُصدرت الأحكام، دون أن يُعطى للحركة حق الدفاع عن نفسها، أو لنقل فشلت في “افتكاك” حقها، فالأسهم موجهة إليها من كل صوب.
فشلت النهضة، لكن جاء من يؤدي المهمة على أحسن وجه دون أن تكون له نية ذلك، بالعكس فقد كانت نيته توريط الحزب الأول في البلاد وضربه جماهيريًا، نعني هنا الرئيس قيس سعيد الذي نجح فيما فشلت فيه النهضة من حيث لا يدري فقد أكد براءتها من جميع الاتهامات التي تلاحقها منذ قرابة العقد.
تهم كثيرة
تتهم بعض الأوساط التونسية المعروفة بتوجهها المعادي للإسلام السياسي والموالي لتيار الثورة المضادة، حركة النهضة التونسية بالعديد من التهم الخطيرة، التي سنورد بعضها في هذا التقرير الذي بين أيدينا، أخطر هذه التهم اغتيال السياسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي.
عرفت تونس في 6 فبراير/شباط 2013، اغتيال السياسي اليساري شكري بلعيد بالتزامن مع مناقشة قانون العزل السياسي في المجلس التأسيسي، وفي 25 يوليو/تموز من نفس السنة تم اغتيال النائب في البرلمان عن التيار القومي محمد البراهمي.
يتهم قادة اليسار والتيار القومي وبعض القوى المساندة لهما حركة النهضة باغتيال بلعيد والبراهمي، ويتهمون الحركة كذلك باستغلال وجودها في السلطة طيلة السنوات التي أعقبت الثورة للتغطية على عمليات الاغتيالات السياسية.
كما تتهم النهضة بتأسيس “جهاز سرّي” يجمع بين جناحين مدني وآخر عسكري، مكن الحركة من اختراق أجهزة الدولة، والقيام بعمليات تجسس واسعة وملاحقة خصوم النهضة السياسيين، وتم تقديم قضية ضد النهضة في الغرض.
سلسلة التهم لا تتوقف هنا، إذ تتهم قيادات حركة النهضة الإسلامية بتبيض الأموال وتمويل الإرهاب، والإشراف على جمعيات خيرية وثقافية يُشتبه في طبيعة نشاطها، واستعمالها كغطاء للتغطية عن نشاطات مالية مخالفة للقانون.
تم تقديم العديد من القضايا للمحاكم التونسية ضد النهضة، لكن تم حفظ أغلبها، ذلك أنها لا ترتقي أن تكون ملفات متكاملة
إلى جانب ذلك، وجهت للنهضة اتهامات بتسفير مئات التونسيين نحو بؤر التوتر خاصة سوريا، في أثناء توليها الحكم بعد الثورة مباشرة، ورغم نفي النهضة ذلك بقيت هذه التهم تلاحقها حتى كتابة هذه الأسطر.
ليس هذا فحسب، فقد وصلت الاتهامات إلى نهب المال العام وسرقة مقدرات البلاد، ودائمًا ما تردد أطراف سياسية في تونس أن النهضة “فقّرت” البلاد وساهمت في تنامي أزمتها الاقتصادية، ذلك أن عائلة الغنوشي – وفق قولهم – سيطرت على الاقتصاد وكبرى الشركات.
يتهم قادة النهضة على غرار الغنوشي وحماد الجبالي ونور الدين البحيري وسمير ديلو وعلي العريض بامتلاك مليارات الدولارات وعشرات المصانع والمعامل والفضاءات التجارية الكبرى والمنتجعات السياحية واليخوت والقصور.
تتهم النهضة أيضًا باستغلال الفترة التي حكمت فيها بالشراكة مع أحزاب أخرى، لتشغيل أبنائها وإقصاء المناوئين لها من مناصب عديدة، وتم اتهامها أيضًا بتعويض مناضليها عن سنوات معارضة نظامي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.
فشل النهضة في إثبات البراءة
اتهامات دون دليل، مع ذلك عجزت النهضة عن حسم براءتها طيلة السنوات الماضية، ما ساهم في تدهور صورتها وتراجع مكانتها بين التونسيين، وتجلى ذلك في عدد الأصوات التي حظيت بها في الانتخابات التشريعية في أكتوبر/تشرين الأول 2019، فرغم فوزها في الانتخابات، فإن عدد المصوتين لها تراجع مقارنة بانتخابات سنتي 2014 و2019.
لم تنجح النهضة في إثبات براءتها، نظرًا للقصف الكثيف الذي وُجّه إليها من جهات عدة، فالعديد من الوسائل الإعلامية خصصت وقتًا طويلًا لكيل الاتهامات للنهضة، سواء تلك المؤسسات الحزبية أم تلك التي تدعي الاستقلالية والحياد، فيما لم تركز النهضة على الجانب الإعلامي ولم تؤسس لإعلام بديل عن ذلك الذي يعاديها ويتقرب للمناوئين إليها عبر محاكمتها إعلاميًا.
قيس سعيّد اراد توسيخ عناصر النهضة … فزادهم نظافة على نظافتهم .
فعلا الغباء يضر صاحبه
— درة السيد (@DorraEssayed) September 21, 2022
العديد من الأحزاب أيضًا بنت سرديتها على اتهام النهضة وتشويهها، وقد استغلت في ذلك نقمة التونسيين على الوضع العام وحاجاتهم للتغير في ظل فشل الحكومات التي تعاقبت على حكم البلاد بعد الثورة في الاستجابة لأبسط مطالبهم.
هذا الفشل زاد من عزلة النهضة شعبيًا، فلم تعد لقياداتها المصداقية القديمة التي كانت تحظى بها، ولم يعد لديها القدرة الكبيرة على تحريك الشارع، وظهر هذا عقب الانقلاب، صحيح خرجت مظاهرات مناوئة لانقلاب قيس سعيد بتنظيم من النهضة إلا أنها لم تكن بالعدد المطلوب ولم تكن كسابقاتها من المظاهرات، فالتشويه والتهم الكثيرة أثرت في النهضة.
إعادة فتح الملفات بعد الانقلاب
كما قلنا اتهمت النهضة باستغلال مؤسسات الدولة للتغطية على التهم التي تلاحقها، ورغم نفي الحركة ذلك وتأكيدها على استقلالية القضاء وعدم تدخلها في عمله واستعدادها للمثول أمامه لحسم هذه الملفات، ظلت تيارات وأحزاب وشخصيات عديدة تردد هذا الكلام.
تم تقديم العديد من القضايا أمام المحاكم التونسية ضد النهضة، لكن تم حفظ أغلبها، ذلك أنها لا ترقى لأن تكون ملفات متكاملة، فأغلبها مجرد كلام واتهامات لا دليل لها، وهدفها تشويه الحركة فقط داخليًا وخارجيًا، وبالفعل تمكنوا من ذلك.
بعد انقلاب قيس سعيد على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية وسيطرته على جميع مفاصل الدولة بما في ذلك القضاء والأمن، أعيد فتح ملفات عديدة في حق حركة النهضة بهدف ضربها وإضعافها سياسيًا وحزبيًا، وإشغالها من مواجهة الانقلاب.
فُتحت الملفات، لكن لم تتم إدانة النهضة رغم أن كل السلطات بيد الرئيس بما في ذلك القضاء والأمن
أعيد فتح ملفات الإرهاب والتسفير والفساد وغيرها، لكن رغم مرور أكثر من سنة من البحث عن ملفات تدين النهضة فعليًا، لم نشاهد أي أحكام تصدر في حقها، شاهدنا فقط محاولات تنكيل بقادة الحركة وإذلالهم بعد تأكد النظام من براءة النهضة.
بحثوا عن ملفات فساد ولم يجدوا، والدليل أن قادة النهضة إلى الآن خارج السجن، فإن كان هناك أي ملف وإن كان ضعيفًا ضدهم لتم إيداع البعض منهم في السجن حتى من باب التوقيف فقط، لكن لم يجدوا أي ملف يُدينهم.
نظام قيس بن سعيّد يفشل في إيقاف حركة النهضة وسيفشل في إبقاء دستوره الذي خسر التأييد الشعبي قبل الرسمي، يظن بأنه تجاوز دستور تونس لعام 2014 وهذا غير صحيح، ليس شخصنة للأحداث ولكنها الإسقاطات المناسبة ليتضح السياق..
— وسام الحميري (@Wesam_ALHemuari) September 20, 2022
مهمتهم الآن البحث عن ملفات الإرهاب ومحاولة إيجاد ولو خيط رقيق يربط بين النهضة والإرهاب، لكن ذلك لم يحصل للآن، فإن حصل لما شاهدنا زعيم النهضة وأبرز قادتها خارج مراكز الإيقاف بعد ساعات طويلة من التحقيق معهم.
لسنوات عدة، تحدثت أطراف سياسية عن امتلاكها ملفات كثيرة تدين النهضة وامتلاكها أدلة قاطعة في ذلك، لكن إلى الآن لم نشاهد شيئًا، ما يؤكد أن كل تلك الاتهام ما هي إلا “تلفيق” يراد منه اغتيال الحركة سياسيًا.
نجاح سعيد في إثبات براءة النهضة
بعد انقلابه مباشرة، ركز قيس سعيد هجماته مرارًا على النهضة، سواء ذكرها بالاسم أم ألمح إليها، بما أنها الحزب الأكبر في البلاد، والحزب الوحيد القادر على معارضته ومزاحمته في الحكم، وقد رأى في إعادة فتح الملفات القضائية بخصوصها أهم آلية لذلك.
فُتحت الملفات، لكن لم تتم إدانة النهضة رغم أن كل السلطات بيد الرئيس بما في ذلك القضاء والأمن، أي أنه لا يوجد أي عائق لإدانة الحركة، لكن غياب الأدلة حال دون تحقيق قيس سعيد أمانيه وأماني القوى المناهضة للحركة الإسلامية.
أكثر من سنة مرت وكل السلطات بيد سعيد، ومع ذلك لم يُفلح في إدانة النهضة، ما يؤكد أن الحركة بريئة من الموجهة إليها، لذلك يمكن القول إن سعيد نجح فيما عجزت النهضة عن تدبيره لسنوات عديدة وهو تأكيد براءة الحركة من التهم الموجة إليها.