يشهد السودان حاليًّا موجة إضرابات مهنية واسعة لا تقتصر على قطاع محدَّد، بل تشمل أطباء الامتياز والعاملين في الكهرباء والمياه وغيرها من المؤسسات الإنتاجية والخدمية، بينما تهدد غرفة المستوردين بتنفيذ توقف كامل لعمليات الاستيراد والتصدير، إثر قرارات مجحفة وصفتها بـ”الكارثية” لوزير مالية سلطة الانقلاب.
إضراب أطباء الامتياز استمرَّ لـ 9 أيام متتالية، وشمل 31 مستشفى في 6 ولايات سودانية، مطالبين بصرف مرتبات الـ 8 أشهر الماضية حيث لم تدفعها لهم وزارة المالية حتى الآن، وقالت لجنة أطباء الامتياز، في تقريرها اليومي عن الإضراب يوم الأحد الماضي، إن نسبة التنفيذ في 25 مستشفى بلغت 100%، بينما تراوحت نسبة التنفيذ في بقية المستشفيات بين 40 و75%.
كان من المقرر أن يكون يوم الاثنين 19 سبتمبر/ أيلول هو آخر يوم للإضراب المعلن، لكن تمَّ تمديده بسبب عدم موافقة وزارة الصحة الاتحادية على الجلوس مع الأطباء المضربين عن العمل للنظر في مطالبهم المشروعة، قبل أن يتمَّ الإعلان عن تعليق الإضراب في وقت لاحق من يوم الثلاثاء 20 سبتمبر/ أيلول.
لم يقتصر نشاط الأطباء على الإضراب فقط، بل نفّذ المكتب الموحد للأطباء، صباح الأحد الماضي، وقفة احتجاجية أمام مستشفى أمدرمان تضامنًا مع أطباء الامتياز، وطالبت الوقفة بصرف رواتب أطباء الامتياز وتحسين أوضاعهم إلى جانب توفير وتجويد الخدمات الطبية للمواطنين، فضلًا عن مجانية الخدمات الصحية في أقسام الطوارئ ومراكز الرعاية الصحية الأولية.
الوقفة الاحتجاحية للأطباء والعاملين بالحقل الصحي بمستشفى امدرمان، التي دعا لها المكتب الموحد للأطباء.
18 سبتمبر 2022 pic.twitter.com/bcfm7tBIFQ
— لجنة أطباء السودان المركزية CCSD’S (@SD_DOCTORS) September 18, 2022
من ناحية أخرى، دخل إضراب أطباء مستشفى دنقلا التخصصي (الولاية الشمالية) يومه الخامس عشر، كما دخلت عدد من المستشفيات الأخرى بالولاية في إضراب عن الحالات الباردة، وقدّم المضربون مذكرة رسمية تحوي طلباتهم المتمثلة في تحسين أوضاعهم الوظيفية وبيئة العمل، كما طلب أطباء مستشفى دنقلا عقد اجتماع مع حاكم الولاية المؤقت لإيجاد الحلول، إلا أن مكتبه لم يستجب لهم.
بل قام مدير عام وزارة الصحة في الولاية بإصدار استيضاحات لكل الأطباء العموميين والاختصاصيين المضربين تمهيدًا لإيقاف رواتبهم الزهيدة أصلًا، كما تمَّ تشكيل لجنة تحقيق مع عضو اللجنة التسييرية لأطباء الولاية الشمالية، كما قامت الوزارة بإخلاء سبيل 17 كادر تمريض عالي خدمة وطنية من المستشفى التخصصي، وتمَّ الاستعاضة عنهم بالتعاقد مع كوادر الإسعافات الأولية، بحسب بيان للجنة التسييرية لأطباء الولاية الشمالية.
وذكرت اللجنة التسييرية لأطباء الولاية الشمالية في بيان آخر أن الوضع المعيشي للأطباء والطبيبات جعل المهنة “طاردة” للجميع، وأشارت إلى أن مرتبات الأطباء تتراوح ما بين 45 ألف جنيه سوداني للطبيب في الدرجة التاسعة و92 ألف جنيه للاستشاري في الدرجة الأولى، في ظل تكاليف المعيشة التي يعلمها الجميع، ما يجعل هذا الراتب “بعيدًا جدًّا عن تلبية أبسط مقومات الحياة”.
وفقًا لموقع “ألترا سودان“، يقول الطبيب أيمن عبد الهادي إن إضراب أطباء دنقلا بدأ منذ 15 يومًا للمطالبة بإقالة المدير العام لوزارة الصحة الولائية، لأن الوزير المكلف -بحسب عبد الهادي- اتّخذ قرارات “مجحفة” بحقّ الأطباء والمواطنين، منها إيقاف إمداد الأكسجين للمستشفيات، مشيرًا إلى أن وزارة الصحة الاتحادية كانت توفره مجانًا، ويبقى على الولاية عملية الترحيل من وإلى الخرطوم، موضّحًا أن وزارة المالية الولائية تتكفل بعملية النقل، فيما يكون على وزارة الصحة الولائية التنسيق والتوزيع.
ويضيف أيمن عبد الهادي أن المدير العام للوزارة الولائية أوقف إمداد الأكسجين للمستشفيات، لافتًا إلى أن طريقة إصدار القرار نفسها “كانت خطأً”، وتابع: “يعدّ الأكسجين عنصرًا أساسيًّا عند إجراء العمليات وفي كل حالات الطوارئ وللأطفال حديثي الولادة”، ويزيد: “عندما عارض مسؤول الملف في الوزارة القرار، نُقل تعسفيًّا إلى مكان آخر”، ويؤكد وقف حوافز عيد الأضحى في كل الولاية لجميع الكوادر الطبية.
فيما يتعلق بإضراب أطباء الامتياز، أوضح الأمين العام للجنة، مصطفى قاسم أبو زيد، أن الإضراب الحالي قام من أجل عدة مطالب، أولها صرف جميع الرواتب لجميع الأطباء، مؤكدًا أن 1800 طبيب امتيازٍ لم يستلموا رواتبهم منذ 8 أشهر، رغم التزام وزارة الصحة سابقًا وتأكيدها إنزال المرتّبات في مواعيدها، مع معالجة السواقط بدفعات صغيرة حسب الأسماء التي تكمل ملفاتها.
وأشار أبو زيد إلى أن وزارة الصحة بيّنت أن التأخير في صرف المنح بسبب إجراءات تتعلق بوزارة المالية، متعهّدة بإنزالها في الحسابات حال وصولها من المالية، موضّحًا أن أطباء الامتياز يعملون في ظروف اقتصادية بالغة التعقيد، ولا يمكن للطبيب أن يعمل لأكثر من 10 ساعات في الأقسام الحيوية ولا يتلقى أجرًا ماليًّا لفترة 8 شهور.
ولكن بشكل مفاجئ، أعلنت لجنة أطباء الامتياز بعد ظهر الثلاثاء 20 سبتمبر/ أيلول، عن رفع الإضراب عن العمل بعد أن امتدَّ 9 أيام متواصلة، وشددت اللجنة على أنه لا يحقّ لإدارة المستشفيات اتخاذ أي إجراء ضد الأطباء المضربين عن العمل، موضحة في بيان أن الإضراب حق مكفول، ولا يحق لأي إدارة مستشفى المساس بأي طبيب امتياز مارسَ حقه الذي كفله له القانون.
وكشفت اللجنة عن توصُّلها إلى اتفاقات وصفتها بـ”المُرضية” مع وزارة الصحة الاتحادية، حيث وعدت الوزارة بتغذية حسابات الأطباء بالمرتّبات خلال أيام، كما وعدت بسداد حوافز العيدَين وبقية المستحقات المالية خلال الأيام القادمة، ونصَّ الاتفاق أيضًا على تحديد مهلة شهر للاستجابة لجميع المطالب.
الإضرابات التي شهدها السودان مؤخرًا لم تقتصر فقط على المؤسسات الحكومية، التي طالب منتسبوها بزيادة الأجور في ظل التضخم وارتفاع الأسعار، حيث امتدّت لتشمل القطاع الخاص والأسواق العامة، إذ أضرب التجار في أسواق سنار وسنجة وأبو دليق وبورصة أسواق محاصيل القضارف، احتجاجًا على مضاعفة الضرائب من قبل السلطات العسكرية الحاكمة.
بعد أن وصلت المفاوضات التي جرت بين التجار واللجنة التي شكلها والي القضارف لطريق مسدود إغلاق كامل لـ المحلات التجارية في سوق “القضارف“ اليوم الأربعاء تنفيذاً للإضراب الذي أعلنه التجار لمدة يومين احتجاجاً على زيادة الضرائب لعشرة أضعاف.#السودان #اضرابات_السودان pic.twitter.com/5h7KjNXfYY
— معمر السوداني (@MUAMMAR_963) September 21, 2022
أشهر وأبرز الإضرابات كان إضراب العاملين بقطاع الكهرباء، حيث استجابت السلطات لمطالبهم بشأن هيكل الأجور سريعًا، فتمَّ زيادة الهيكل الراتبي الجديد للعاملين بالكهرباء إلى أكثر من مليون جنيه لأعلى درجة مالية، وأدناها درجة نحو 555 ألف جنيه.
لكن نهج زيادة المرتّبات يصعد بالتضخم نحو الأعلى كما يقول خبراء اقتصاديون، ويحرّض فئات أخرى بالدولة للمطالبة بالمطالبات ذاتها، كما حدث بالفعل مثل إضراب أطباء الامتياز وإضرابات عمّال النظافة ووزارة البنية التحتية بالخرطوم ووزارة الزراعة وعمّال هيئة المياه.
يخشى أن تؤدّي زيادة الرواتب إلى اكتواء الجميع بنيران التضخم والمزيد من ارتفاع الأسعار لتصبح الزيادة لا معنى لها، كما حدث عام 2020 عندما زاد وزير المالية الأسبق إبراهيم البدوي المرتّبات إلى 5 أضعافها.
الخبير الاقتصادي هيثم محمد فتحي، قال في حديث صحفي إن الحل الفردي لمجموعة محدَّدة والاستجابة لمطالبها لن يحل المشكلة، لجهة أن كافة العاملين بمؤسسات الدولة يعيشون معاناة كبيرة ستُظهر إضرابات جديدة، لذلك لا بدَّ من حل موحّد بزيادة الأجور.
وحذّر فتحي في الوقت ذاته من طباعة العملة لتغطية الفصل الأول المتمثّل في المرتّبات، لما له من آثار تضخمية يمكن أن تقلّل من جدوى زيادة الأجور.
ورغم أن الإضرابات الحالية معظمها إضرابات مهنية في المقام الأول تهدف إلى زيادة الأجور وتحسين بيئة العمل، فإنها تساهم بقدر كبير في زعزعة النظام العسكري الحاكم منذ انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان، وزيادة الضغط عليه اقتصاديًّا، فالسلطة العسكرية لم تتأخر عن توفير الأدوات القمعية المستخدَمة في الفتك بالمتظاهرين السلميين من غاز مسيل للدموع ورصاص حي وغيرهما.