ترجمة وتحرير: نون بوست
يصادف هذه السنة مرور 15 سنة على فرض “إسرائيل” حصارها المدمر على غزّة. لقد مرّت 15 سنة من العقاب الجماعي المنهجي على قطاع غزة حيث نشأت أجيال كاملةٌ معزولةً تقريبًا عن العالم الخارجي دون أدنى فكرة عن شكل الحياة قبل الحصار.
تم تذكيرنا مؤخرًا بهذا الواقع – الذي لا مفر ولا مخرج منه – عندما شنت “إسرائيل” عملية الفجر في الخامس من شهر آب/ أغسطس. لقد تعرضنا لقصف الغارات الجوية لمدة ثلاثة أيام، واُغلِقت جميع المعابر الحدودية داخل غزة وخارجها تمامًا. قُتل 49 شخصًا من بينهم 17 طفلا. انتهت العملية بسرعة، وكان من المتوقع أن نعود إلى حياتنا الطبيعية.
بالنسبة للشباب في غزة مثلي، الذين يمكنهم تذكّر تفاصيل الحياة “في السابق”، نتذكر وقتًا كان فيه معظم آبائنا وإخوتنا الأكبر سنًا يعملون في وظائف مستقرة لتعليم أطفالهم وإعالة أسرهم وتلبية جميع احتياجاتهم.
بعد الحصار، تغير كل شيء – بما في ذلك الناس. بات الفقر والأزمات التي لا تنتهي إلى جانب الحروب والحظر المفروض على أبسط حقوقنا أمرًا شائعًا. إن الحقوق التي قد تبدو تافهة بالنسبة للبعض – الحق في التنقل، وتلقي العلاج الطبي المناسب، والقدرة على الإبحار لصيد الأسماك أبعد من الأميال البحرية القليلة التي تسمح بها إسرائيل – غالبًا ما تبدو حلمًا لجيلنا.
قال مجد البالغ من العمر 18 سنة من غزة: “لقد ولدنا لنعاني. أنهيت دراستي الثانوية في أسرة فقيرة لا يمكنها مساعدتي. وأنا من يجب أن يساعد إخوتي، لأن والدي لا يستطيع العثور على عمل. كان له عمله الخاص، لكنه أغلِق بسبب الحصار”.
خلال هذه السنوات الخمس عشرة من الحصار البري والجوي والبحري أصبحت غزة أشبه بـ “سجن مفتوح”. صحيح أن نقطة البداية المعترف بها عمومًا للحصار، حسب رواية “إسرائيل” والسلطات المصرية، كانت في سنة 2007. لكن مع أن تلك “البداية” الرسمية للحصار مثلت تحولًا واضحًا في أسلوب الحياة في غزة، إلا أنها لم تبدأ وقتها. إن حصار الدولة الصهيونية لقطاع غزة بدأ قبل ذلك بوقت طويل بتضييق تدريجي أو بالأحرى عملية اختناق بطيئة، إلى أن وصلنا حاليًا إلى النقطة التي يصعب علينا فيها التنفس.
1948: النكبة غيرت غزة
لقد بدأ الحصار في سنة 1948، كما هو الحال بالنسبة لأي فلسطيني آخر، العام الكارثي الذي ارتكب فيه تطهير عرقي لحوالي 750 ألف فلسطيني. وبالنسبة للإسرائيليين، كانت تلك سنة “الاستقلال” عندما اقتحمت الميليشيات الصهيونية المدن والقرى الفلسطينية ودمرتها وشردت السكان الأصليين الفلسطينيين بقوة السلاح، وأقامت “دولة إسرائيل” على رفات المدن والقرى الفلسطينية المتفحمة. فرّ مئات الآلاف وأجبروا على ترك أراضيهم، بينما قُتل آلاف آخرون في مذابح مروعة لا تزال تفاصيلها مبهمةً حتى اليوم.
هؤلاء الفلسطينيون الـ 750 ألفًا أصبحوا لاجئين، وقد وجد الكثير منهم أنفسهم في الدول العربية المجاورة غير قادرين على العودة إلى ديارهم، بينما لا يزال آخرون ولا سيما اللاجئون من المناطق الجنوبية والساحلية يفرون إلى غزة. ولكن عندما استقر الوضع، لم يُسمح لهم بالعودة إلى ديارهم. فجأةً، اجتاح قطاع غزة سكان جديدون بالكامل لتتحول الحياة فيه تماما بين عشية وضحاها.
يقول الباحث السياسي والكاتب نصر عليوة لموقع “موندويس” إن “موجة اللاجئين ضغطت على اقتصاد غزة، واندلع صراع جديد بين السكان المحليين واللاجئين. تتعلق النزاعات التي نشأت بتوزيع الوظائف والمنافسة”. بحسب عليوة، كانت الآثار الاجتماعية والسياسية للنكبة على غزة تحولية، ولا تزال محسوسة في القطاع حتى يومنا هذا.
أصبحت غزة مركزًا سياسيًا مهمًا نظرًا لتدفق الأشخاص من خلفيات جغرافية وثقافية وسياسية واجتماعية مختلفة، واستقروا جميعًا الآن في مكان واحد. ولدت طبقة اجتماعية جديدة، حيث أُجبر الناس على البدء من جديد بعد أن فقدوا منازلهم وأراضيهم وثروة أجيالهم.
بالإضافة إلى كونها واحدة من أكثر الأماكن اكتظاظًا بالسكان على هذا الكوكب، تضم غزة أعلى نسبة من اللاجئين، إذ يتألف 66 بالمئة من سكانها من اللاجئين، ولا يزالون ينتظرون العودة إلى منازلهم.
1967: ظهور الحكم العسكري
كان قطاع غزة تحت السيطرة المصرية عندما اندلعت حرب سنة 1967 بين “إسرائيل” والدول العربية مصر وسوريا، وانتهت باحتلال “إسرائيل” لأجزاء من كلا البلدين، بالإضافة إلى الضفة الغربية وقطاع غزة.
يروي الكاتب الفلسطيني محمد أيوب في روايته عن حرب 1967 بعنوان “الكوابيس تأتي في حزيران” ذكرياته عن غزو “إسرائيل” واحتلالها لقطاع غزة التي كان شاهدًا عليها: “دخلت الدبابات غزة من مدينة خان يونس جنوبا وكانت ترفع أعلام الدول العربية مثل أعلام مصر والجزائر. خرج المواطنون الفلسطينيون للترحيب بهم لكن الدبابات قتلتهم جميعًا، لأنها كانت دبابات إسرائيلية تخدع الفلسطينيين”.
خلال حرب 1967، تم تهجير الفلسطينيين مرة أخرى. يوضح عليوة أن “16 بالمئة من سكان غزة في ذلك الوقت، الذي كان يقدر بنحو 350 ألفا، نزحوا إلى الأردن ودول أخرى مجاورة”.
مع الاحتلال العسكري الإسرائيلي لغزة تغيرت مظاهر الحياة في غزة. تم إرساء أسس الحصار وأُجبر الفلسطينيون على تسجيل أنفسهم منذ ولادتهم عبر النظام الإسرائيلي، كما أقيمت نقاط تفتيش في جميع أنحاء فلسطين، وبين المدن داخل قطاع غزة.
يضيف عليوة: “في مطلع السبعينات، بدأ الفلسطينيون في غزة تجاوز فقرهم وتحسين ظروفهم المعيشية. والتحق العمال بسوق العمل الإسرائيلي، وكذلك المزارع والمصانع الجديدة في الأراضي المحتلة. وبات جيل النكبة، الذي كان يهتم دائمًا بالتعليم يشغل وظائف إسرائيلية، ويرسلون الأموال إلى عائلاتهم في غزة”. ويوضح عليوة أن هذه الأموال التي تدفقت على غزة جعلت السوق المحلي يزدهر.
1993- 1995: سنوات أوسلو
تم توقيع اتفاقيات أوسلو في أعقاب الانتفاضة الأولى (1987-1993) وتشكلت الحكومة الفلسطينية. نقلت إسرائيل مسؤولياتها كقوة احتلال إلى الحكومة المتشكلة حديثًا. رحّب الناس في غزة بالاتفاقات واحتفلوا بها باعتبار أنها يمكن أن تقربهم خطوة أخرى من الحرية وإقامة دولة مستقلة.
تم إنشاء مؤسسات جديدة في كل مكان، وأصبح الآلاف من سكان غزة موظفين في السلطة الفلسطينية التي تأسست حديثًا، مما أدى إلى تحسن كبير في الظروف الاقتصادية للعديد من الناس. لكن لم تمض سوى سنوات حتى أدرك العديد من الفلسطينيين الآثار الحقيقية المترتبة عن اتفاقيات أوسلو.
بعبارة أخرى، كان الدافع الحقيقي وراء توقيع “إسرائيل” على اتفاقيات أوسلو هو التخلص من التكلفة الأمنية لحكم غزة والضفة الغربية. لقد كان عدد السكان يتزايد وكانت “إسرائيل” بحاجة إلى سلطة وسيط لحكمهم كان يجب أن تكون بدورها تحت السيطرة الإسرائيلية، على حد تعبير عليوة.
-رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات يصل غزة في تموز/ يوليو 1994، بعد توقيع اتفاقيات أوسلو. توجّه إلى زعماء مدينة غزة الذين اجتمعوا للترحيب به قائلا: “من غزة سوف نذهب إلى الخليل ونابلس وطولكرم وبيت جالا وبيت ساحور، وأخيرًا، أخيرًا، إلى القدس”-
2000-2004: تجدد العزلة
في خضم الانتفاضة الثانية، وبعد سنوات من خرق التزاماتها الموقعة بموجب اتفاقيات أوسلو، صعّدت “إسرائيل” أعمال العنف تجاه الفلسطينيين من خلال هدم المنازل والاغتيالات وجرف الأراضي الزراعية وإغلاق الحدود ومنع أكثر من 120 ألف عامل من عبور الخط الأخضر.
وفي سنة 2002، بدأت “إسرائيل” بناء جدارها الفاصل وعزل الضفة الغربية. وفي حين اعتبرت الاتفاقات السابقة، بما في ذلك اتفاقية أوسلو، قطاع غزة والضفة الغربية بمثابة وحدة واحدة، أضعف الجدار التواصل الجغرافي بين المنطقتين وعزل الفلسطينيين عن بعضهم البعض.
رغم الإدانة الدوليّة، واصلت “إسرائيل” بناء الجدار وفُصلت العائلات الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة، وأقيمت نقاط التفتيش الإسرائيلية في جميع أنحاء غزة، التي غالبًا ما كانت تغلق لأيام كاملة في كل مرة مما أدى إلى عزل مجتمعات بأكملها عن بعضها البعض. أما في المدارس، فلم يتمكن المعلمون الذين يتنقلون بين شمال وجنوب غزة من مزاولة عملهم معظم أيام السنة. أتذكر أنني كنت في المدرسة خلال هذه السنوات، واضطررت إلى الدراسة مع 60 طالبًا آخر في الفصل لأن نصف المعلمين لم يتمكنوا من الوصول إلى المدرسة.
2005 – 2007: فك الارتباط الإسرائيلي وما تلاه
أعلنت “إسرائيل” سنة 2005 انسحابها أحادي الجانب من قطاع غزة. أخلت أربع مستوطنات إسرائيلية رئيسية من قطاع غزة إضافة إلى 8600 مستوطن إسرائيلي وجميع نقاط التفتيش والجنود والمعدات في القطاع. على أرض الواقع، احتفل الناس بالانسحاب باعتباره انتصارًا كبيرًا حيث أصبحت غزة خالية من الحواجز والمستوطنات الإسرائيلية. لكن هذا الشعور بالحرية لم يدم طويلا.
توفي الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في نفس السنة، وأجريت أول وآخر انتخابات رئاسية فلسطينية ثم لاحقًا الانتخابات التشريعية في سنة 2006. فازت حركة حماس في الانتخابات بأغلبية مذهلة بلغت 76 مقعدًا (من أصل 132 مقعد) في المجلس التشريعي.
تأسست حركة حماس كمجموعة مقاومة سنة 1987 بهدف مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. وخلال العقود التي سبقت انتصار الحركة في سنة 2006، اكتسبت حركة حماس شعبيةً في قطاع غزة، حيث ثمَّنَ الناس جهودها في المقاومة وتعاطفوا مع قادتها الذين كانوا هدفًا للعديد من محاولات الاغتيال الإسرائيلية.
قوبل فوز حركة حماس برفض واسع النطاق ليس فقط من قبل “إسرائيل” كقوة استعمارية معادية لحركة المقاومة المسلحة وإنما أيضًا من قبل السلطة الفلسطينية التي تسيطر عليها حركة فتح في الضفة الغربية. ثم أعلنت الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى تصنيف حماس منظمةً إرهابية، ورفضوا الدخول في أي علاقات دبلوماسية مع الحركة.
في 10 حزيران/ يونيو سنة 2007، وهو يوم أسود في التاريخ بالنسبة للفلسطينيين في غزة، اندلع الاقتتال الداخلي بين حركة حماس وحركة فتح (بما في ذلك شرطة السلطة الفلسطينية). طال الاقتتال الدموي جميع أنحاء قطاع غزة مع انتصار حركة حماس بعد أن استخدمت قوتها العسكرية لقمع مؤسسات السلطة وأنصارها.
-لقطات من الاقتتال بين حركة فتح وحركة حماس في قطاع غزة سنة 2007-
أدت الصراعات الداخلية إلى مقتل أكثر من 110 أشخاص. حظرت حماس أنشطة السلطة الفلسطينية وسجنت المئات من مسؤوليها وأنصارها، ثم أصبحت حماس السلطة الرسمية في قطاع غزة. أدى الصراع إلى انقسامات اجتماعية مدمرة ليستمر التأثير الاجتماعي لرؤية تناحر الجيران والزملاء والأصدقاء بين بعضهم البعض حتى يومنا هذا.
2007: الحصار يدخل حيز التنفيذ
فرضت “إسرائيل” حصارًا كاملاً على القطاع في نفس الشهر الذي فازت به حركة حماس بالانتخابات وسيطرت على قطاع غزة، وأغلقت جميع الحدود والمعابر داخل وخارج القطاع، بما في ذلك معبر رفح مع مصر بالتنسيق مع الحكومة المصرية.
شعر سكان غزة المحبطين بصدمة قوية ومهدت نشوة النصر الطريق نحو صراع اجتماعي محتدم. ظهرت على الفور مشاكل هائلة، إذ أمرت السلطة الفلسطينية موظفيها بتعليق حضورهم في جميع الوظائف الحكومية في قطاع غزة. استمرت الانقسامات في التأزم داخل غزة مع استمرار تدهور الوضع، وعانت المدارس والمستشفيات من نقص في الموظفين، والأمر الأكثر خطورة كان نقص الأدوية، حيث حال الإغلاق غير المحدد للمعابر الحدودية دون تسهيل عمليات النقل الطبية العاجلة.
شعر الناس بأنهم في مأزق حتى في الأيام الأولى للحصار متسائلين إلى متى سيستمر وكيف ستبدأ الحياة في ظل هذا الواقع الجديد. وبشكل مفاجئ، سقطت بوابة غزة الوحيدة نحو بقية أنحاء العالم وأصبحت تحت السيطرة الإسرائيلية الحصرية التي أثبتت أنها بلا رحمة.
فرضت الحكومة الإسرائيلية حظرا صارما على البضائع والمواد من وإلى قطاع غزة متذرعة بأسباب “الاستخدام المزدوج” (أي المواد الخام مثل الحديد والصلب التي قد تستخدمها حماس لأغراض عسكرية). لكن قائمة المنتجات التي باتت تندرج تحت إمكانية “الاستخدام المزدوج” هي عمليًا طويلة بشكل يبعث على السخرية وتتضمن كل شيء مثل الحديد والخشب والأسمنت والمبيدات والبلاستيك والمواد الغذائية وقائمة تضم 400 مادة أخرى.
أغلقت عشرات المصانع التي كانت تُصدّر الملابس والفواكه والخضروات مما أدى إلى تسريح عمالها. كذلك مُنع آلاف العمال من الوصول إلى أماكن عملهم في “إسرائيل” والضفة الغربية، حيث أدى الحصار الإسرائيلي إلى قطع الشرايين الرئيسية لاقتصاد غزة.
2008 – 2022: رتابة الحصار تقطعها الحروب فقط
تسبب الحصار المفروض على غزة إلى جعل كل جزء من الحياة يبدو مستحيلاً. حتى الأشياء البسيطة مثل الحصول على القهوة أصبح صعبًا، نتيجة للقيود المفروضة على تدفق البضائع.
يقول عليوة: “غزة الآن هي المكان الوحيد المغلق أمام العالم بسبب الحصار الإسرائيلي، هي المكان الوحيد الذي يعيش فيه أهله ويتنقلون ويسافرون ويعملون بطريقة معقدة ومهينة”.
بدأ أهالي غزة حفر الأنفاق لإدخال البضائع عبر مصر في محاولة منهم لكسر الحصار. وقد توسعت تجارة الأنفاق خلال الحصار، حيث وجد التجار أنها الطريقة الوحيدة لإدخال بضاعتهم وإخراجها من القطاع. وقد اعتاد سكان غزة تمرير كل شيء عبر هذه الأنفاق بما في ذلك بعض احتياجاتهم الأساسية.
لكن سرعان ما أصبحت الأنفاق هدفًا لكل من السلطات المصرية والإسرائيلية، إذ أغرقت الأولى سلسلة من الأنفاق في سنة 2015، وقصفت الأخيرة شبكات الأنفاق بعد العديد من الهجمات الجوية. وكان الفلسطينيون يختبئون تحت الأرض بحثًا عن السماء لكن تم إحباط مساعيهم بشكل سريع.
بدأت “إسرائيل” حربها المدمرة الأولى ضد غزة في سنة 2008. هاجمت الطائرات الحربية والدبابات والسفن البحرية الإسرائيلية غزة من جميع الاتجاهات لمدة 22 يوما. وقد غيرت هذه الحرب بعض الأشياء في غزة وغرست نوعًا جديدًا من الخوف في نفوس الناس؛ فرغم كل البؤس الذي لم يكن موجودًا من قبل بات التهديد الحقيقي أنه في أي لحظة يمكن انتزاعك من أحبائك من خلال قذيفة هاون أو صاروخ.
اختبرنا هذا الشعور مرة أخرى في سنة 2012، ولاحقًا في سنة 2014، ومؤخرًا في سنة 2021 وقُصفنا داخل السجن ولم يكن لدينا مكان نهرب منه. ومع أن الناس بالكاد تعافوا من قصف السنة الماضية، إلا أننا تعرضنا للقصف مرة أخرى في أوائل شهر أغسطس / آب بضربات جوية لمدة ثلاثة أيام كجزء من عملية إسرائيلية أخرى أسفرت عن قتل 49 شخصا ودُمرت مئات المنازل. قُتل الآلاف من سكان غزة طوال السنين الماضية وأصيب آلاف آخرون بجروح وإعاقات وفقد عدد لا يحصى منازلهم، لكن ما زلنا نحاول التعافي.
استهدفت إسرائيل البنية التحتية لقطاع غزة حتى خارج أوقات “زمن الحرب”، ورشت السموم على الأراضي الزراعية الفلسطينية بالقرب من حدود غزة، وقصفت بشكل متكرر محطة الطاقة الوحيدة في القطاع مما تسبب في أضرار وانقطاع منتظم للتيار الكهربائي. يحصل سكان غزة اليوم على ما مجموعه خمس ساعات من الكهرباء يوميًا، وفي بعض الأحيان أقل من ذلك. وخلال الحرب الأخيرة في شهر آب/ أغسطس، تم قطع التيار الكهربائي عن القطاع بشكل كامل.
خلال السنوات الخمس عشرة الماضية من الحصار، قفز معدل البطالة في غزة من 23 بالمئة سنة 2005 إلى 50 بالمئة بنهاية سنة 2021. وارتفع معدل الفقر من 40 بالمئة سنة 2005 إلى 69 بالمئة.
تصور المستقبل
لم تكن هذه الدائرة المخيفة بعيدة عن القطاعات الأكثر حيوية في غزة وأهمها المواد الغذائية والمياه الصالحة للشرب والطاقة والتعليم. وحسب مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، يحتاج 1.3 مليون من أصل 2.1 مليون فلسطيني في غزة (62 بالمئة) إلى مساعدات غذائية، و78 بالمئة من المياه في قطاع غزة غير صالحة للاستهلاك البشري.
مع أن البؤس عنوان الفترة الماضية بأكملها، إلا أن الفترة الحالية هي الأصعب بالنسبة لمعظم الناس بشكل يقلص الوجود إلى مجرد البقاء على قيد الحياة. ويقضي سكان غزة معظم وقتهم في الظلام وقد ارتفعت عمالة الأطفال بشكل صاروخي حيث “تواجه 31 بالمئة من الأسر في غزة صعوبات في تلبية احتياجات التعليم الأساسية مثل رسوم التعليم والكتب بسبب نقص الموارد المالية”، وذلك حسب تقرير لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة.
يبتكر الناس أعمالا جديدة لمواجهة ظروفهم الفقيرة مثل النبش في القمامة عن شيء لبيعه. كذلك يؤجل الشباب الزواج بسبب عدم قدرتهم على تكوين أسرة نتيجة الأعباء المالية، ويموت المرضى بسبب نقص الأدوية والقيود المشددة على التحويلات الطبية من غزة. لذا فإن محاولة التطلع إلى المستقبل في هذه الظروف تصبح تمرينًا في المازوخية.
خضع مجتمع غزة لتحوّل جذري آخر خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة من الحصار الذي لا ينتهي، يشبه إلى حد كبير التحولات الاجتماعية التي أحدثتها النكبة قبل ذلك. لكن في الوقت الذي أصبح فيه معظم سكان غزة في سنة 1948 من اللاجئين بين عشية وضحاها، أوقعت السنوات الخمس عشرة الماضية 62 بالمئة من سكان غزة في براثن الفقر المدقع.
لكن آثار هذا التحول الأخير هي أكثر ضررًا مما تشير إليه الإحصائيات، فهو يقيّد أحلام الناس – وليس فقط ظروفهم المادية. لقد أصبح من الصعب، بل من المستحيل، تخيل وضع مختلف أو توقع أن الأمور ستتحسن على الإطلاق. وإنه من الصعب تصور تأثير ذلك على جيلنا الحالي.
المصدر: موندويس