شهدت تونس خلال الأسبوع الثالث من شهر سبتمبر/أيلول 2022 عمليات تحقيق أمني وسياسي مع قيادات حزب النهضة وفي مقدمتهم الرئيس المؤسس الغنوشي على خلفية شكاية تقدمت بها نائبة سابقة ضد الحزب وقادته بالضلوع في تسفير المقاتلين إلى سوريا إبان الثورة السورية.
بعد أسبوع من التحقيق عادت القيادات إلى بيوتها دون أن يثبت عليها الجرم بما عده أنصار الحزب انتصارًا معنويًا وسياسيًا كبيرًا على خصومهم، فاحتفلوا بطريقتهم في السوشيال ميديا، لكن هل كان انتصارًا فعلًا أم نجاة مؤقتة من أحبولة الاستئصال المعقدة؟ ننظر إلى الحدث من خارج الحزب ومن داخل المشهد السياسي التونسي المعقد.
انتصار معنوي يغطي هزيمة كبيرة
قام أنصار الحزب بربط فراغ الملفات المرفوعة ضدهم بتهمة التسفير من الأدلة والحجج بفراغ كل ملفات التهم التي رفعت ضدهم منذ بدأوا المشاركة في السلطة وخاصة بعد انقلاب 25 يوليو/تموز، ومن هذه الزاوية حق لهم فعلًا الحديث عن انتصارات.
لقد حوكم الحزب إعلاميًا بتهم كثيرة لم تصل إلى المحاكم أبدًا لكنها ثبتت في أذهان الجمهور بقوة الطرق الإعلامي حيث يسمع كل يوم عن ثروات خيالية راكمها “الخوانجية الذين أكلوا البلد”، ويضاف إلى التهم سيطرتهم على القضاء لمنع محاكمتهم.
منذ الانقلاب لم يتقدم أحد بتظلم من سرقات النهضويين وقد كان بعضها مثيرًا للسخرية (مثل ثروتي البحيري والغنوشي التي تفوق كل واحدة منها ميزانية البلد لعدة سنوات)، وبعد تحقيقات سبتمبر/أيلول يمكن القول إن الحزب نُظف من كل التهم والتسفير أخطرها، لم تكن تلك نية من يجرهم إلى المحاكم، لكن على الأرض لم يعد يمكن تخيل تهم أخرى اللهم إلا ثقب طبقة الأوزون، لكن هل خرج الحزب من دائرة الاستهداف؟
يوجد حزب واحد في تونس
حديثنا عن حياة سياسية تعددية في تونس فيه كثير من المجاز وكثير من التمني الحالم بالديمقراطية، ففي تونس يوجد حزب سياسي واحد ومنظومة حكم تتخذ أشكالًا مختلفةً بحسب السياقات، وكل الأسماء السياسية التي تظهر في المشهد هي أسماء مؤقتة غير ذات وزن في الشارع وغير مؤثرة على وجود المنظومة الحاكمة، بل إن أغلب الأسماء صنيعة المنظومة وأدواتها تحركها بذكاء كبير ضد الحزب الوحيد الذي يزعجها: حزب النهضة، وليس هذا الكلام حكم قيمة على وطنية الأسماء السياسية وجديتها بل عن وزنها الفعلي وطبيعة معارضتها للمنظومة.
إن إغلاق أبواب المجلس التأسيسي (البرلمان في صيف 2013) من رجل معارض منذ دهر طويل – مصطفى بن جعفر – هو أكبر علامة على أن معارضي المنظومة من غير النهضة هم جزء أصيل من منظومة الحكم، وما معارضتهم إلا زينة تتخذها المنظومة للتسويق الديمقراطي المخول للقروض.
ما شاهدناه منذ الثورة وخاصة منذ انتخابات 2011 هو أن منظومة الحكم ناورت بكل الحيل السياسية والأمنية والإرهابية لمنع حزب النهضة من التحول إلى منظومة حكم بديلة لها أو شريك كامل الحقوق معها، وما التحقيقات الأخيرة بتهم التسفير إلا مناورة أخرى لن تكون الأخيرة – رغم استنفاد التهم -.
كثيرون يلومون النهضة على عدم الحسم بالقوة مع المنظومة منذ منحها الناخب سلطة، وهذا كلام يجهل قوة المنظومة وذكاء أدواتها وصنائعها في مقابل حزب بلا تجربة ولا خبرات قيادية مدربة على الحكم، فهل كان يمكن الحسم مع المنظومة دون دفع ثمن من الدماء، يحفظ للنهضة شرف حقن الدماء لكن مع تضييع الثورة والسلطة ولم يكن الخيار سهلًا.
تونس ليست أرض جهاد
خيار حقن الدم انتهى بالنهضة إلى وضع الوعاء الجلدي المعلق الذي يتدرب عليه الملاكمون أو الماكويرا، فالجميع يلكمها ويقوي عضلاته ويصوب ضرباته على لحمها دون تمييز بين عنصر قاعدي فيها (يحرق مقره في كل تظاهرة) وقياداتها التي ظنت أنها بلغت الحصانة التامة بحكم العمر والمنصب، لا حصانة لنهضوي هذا ما قالته تحقيقات سبتمبر/أيلول 2022، فالمنظومة لا ترى في النهضة كبيرًا يوقر أو شيخًا يعفى أو مسؤولًا سابقًا يعامل بصفته الرمزية، فالقصد هو المحق الرمزي بعد المحق المادي.
لقد أجلس رئيس الحزب/رئيس البرلمان على كرسي المحقق لمدة ثلاثين ساعة دون سؤال وكان القصد إرغامه وإذلاله كأي منحرف التقط من الشارع، وهنا لا نرى انتصارًا يمكن الاحتفال به، ونظن أن الاحتفال يغطي حالة عجز عن الخروج من وضع وعاء الملاكمة، بل ربما فيه تلذذ بالضربات المتتالية بصفتها ابتلاءً وجهادًا.
القبول بالنضال السياسي الحزبي ضمن مشهد تعددي (ديمقراطي) هو خروج نظري من وضع الجهاد في سبيل الله (الحركة الدينية) إلى المشاركة في إدارة شؤون الناس بقوانين دنيوية (الحزب السياسي)، وكان هذا مدخل المشاركة وغطاء القول بالإسلام الديمقراطي بعد الثورة، لكن على الأرض حصل خلط كبير وبعضه عن جهل وقصور فكري جعل المنظومة تلتف بسهولة على الحزب الحائر وتحشره في وضع كرة التدريب وهي تمهد لقلعه لتمر دون عائق.
ما المطلوب من حزب النهضة؟
لا أريد أن أنضم إلى قائمة الأقلام الحكيمة جدًا التي تقوم كل صباح لتقدم دروسًا للحزب فيما ينبغي أن يفعله بنفسه قبل ما ينبغي فعله للبلد، فهذه القائمة طويلة جدًا وأصحابها بارعون.
المدرك الآن بقليل من التدقيق أن الحزب يفقد الأرض رغم أن محنة الانقلاب أعادت له لحمة عاطفية قوية كانت المشاركة في السلطة قد ذوبتها، وتحسن القيادة الحاليّة الاستفادة من المحن لمواساة القواعد الصابرة لكن لا تقدم بالمحنة حلولًا للمستقبل.
في ظروف ديمقراطية عادية – لن تتوفر في المستقبل – يمكن للحزب بقواعده الثابتة أن يأخذ جزءًا من السلطة مرة أخرى وهو ما لا يمكن لأي حزب آخر أن يفعله (لا توجد أحزاب أصلًا)، لكن من أجل ماذا قد يحكم؟ وبماذا؟ هل سيحكم ليعيد خدمة المنظومة بوسائلها كما فعل منذ أول مشاركة؟
دون تقديم دروس لأحد فأهل مكة أدرى بشعابها، لكن الوضع الحاليّ بقياداته الحاليّة استنفد دوره وقدراته ونظن أنه باق ويتغذي بالشحنة العاطفية التاريخية لا بصواب التدبير والتخطيط السياسي.
وجود حزب النهضة يعطي حياة كاملة للمنظومة وهذا أوان الخروج من وضع كرة التدريب
في الحياة السياسية القادمة بعد الانقلاب وهي عندي يقين ثابت (دون تحديد أجل) لا يمكن العودة بالحزب القديم إلى وضع جديد سيكون حتمًا مختلفًا بشكل كلي.
لقد نصحنا في مقال سابق لحزب النهضة بين جد وهزل بحل الحزب والذوبان في السكان، ونعود بجدية لنتخيل مشهدًا سياسيًا لا تجد فيه منظومة الحكم عدوًا تتدرب على ضربه وتخويف الناس منه، أين ستذهب قواعد الحزب إذا حل الحزب؟ لنسأل قبل ذلك أين ستذهب الأذرع الوظيفية من يسار وقوميين وتبع بلا مبدأ ولا أخلاق إذا لم يعد هناك كرة تدريب لتضربها كل صباح؟
لا نرى حزب النهضة يختفي بحل الحزب (يمكن للحزب أن ينتقل للسكن في هواتف منخرطيه الأبديين) نرى أولًا تيه المنظومة وانكسار أدواتها في أفق تشكل مشهد مختلف خارج ثنائية منظومة حكم ضد حزب النهضة الإسلامي، هذه الفكرة ليست في وارد القبول والتطبيق، فبعض القيادات المغرمة بصورها سيؤلمها الاختفاء، لكن اليقين أن المشهد الذي يجر فيه رئيس الحزب للتحقيق بتهمة حفر نفق بين تونس وليبيا طوله 70 كيلومترًا لا يمكن أن ينتج أي أمل في التقدم نحو المشاركة الديمقراطية. إن وجود حزب النهضة يعطي حياة كاملة للمنظومة وهذا أوان الخروج من وضع كرة التدريب.