ترجمة وتحرير: نون بوست
كانت الهند لتصبح لاعبا قويا غير متوقع في أسواق الطاقة العالمية حتى السنة الماضية، ولطالما كانت من بين أكبر مستهلكي النفط في العالم. ومنذ سنة 2000، تضاعف استهلاك الهند من النفط مرتين ليصل إلى 4.8 مليون برميل يوميًا في سنة 2021، مما يجعلها ثالث أكبر مستورد ومستهلك للنفط.
لكن التباطؤ الاقتصادي المرتبط بوباء كوفيد-19 أدى إلى خنق استخدام الهند للطاقة. ومع ظهور بوادر الانتعاش، تستعد الهند لتحقيق أكبر زيادة في الطلب العالمي على الطاقة خلال العقدين المقبلين، وذلك وفقًا للوكالة الدولية للطاقة. مع ذلك، لعبت الهند تقليديًا دورًا سلبيًا في أسواق الطاقة العالمية، وهي عميل مطيع يعطي الأولوية للتنوع والاستقرار على حساب إبرام الصفقات القاسية.
تعتمد سياسة الطاقة في الهند على كفاءة استخدام الطاقة. ويتميز الاقتصاد الهندي بإنتاجية منخفضة للطاقة ناتجة عن سوء استخدام مواردها والتقنيات كثيفة الاستهلاك للطاقة. ويشار إلى النفط عادة باسم “الوقود المتأرجح”، وهو يمثل 27 بالمئة فقط من مصادر الطاقة الأولية، بينما يستأثر الفحم بنسبة 57 بالمئة والغاز الطبيعي بما يقارب سبعة بالمئة، وذلك وفقا لإحصاءات شركة “بريتيش بتروليوم” الأخيرة.
نظرًا للعقوبات المفروضة على قطاع الطاقة الروسي وأزمة إمدادات النفط العالمية، تتمتع الهند بقوة غير مسبوقة للمطالبة بأفضل سعر لوارداتها النفطية. وهذا من شأنه أن يغير الأسواق العالمية بشكل أساسي ويدخل الهند في لعبة الطاقة الكبرى.
أتاحت العقوبات الغربية، المفروضة على صادرات النفط الروسية في أعقاب غزو أوكرانيا، للهند فرصة جغرافية اقتصادية غير متوقعة. منذ شباط/ فبراير، أصبحت الهند (وكذلك الصين) المشتري الرئيسي للنفط الروسي. ولا تعتبر الهند مستهلكًا رئيسيا للنفط الروسي فحسب، بل أصبحت أيضًا مركزًا لإعادة الشحن حيث يمكن لمنتجات الطاقة التي يُفترض أنها غير مشروعة العثور على عملاء جدد.
منذ شباط/ فبراير 2022، زادت واردات الهند من خام الأورال الروسي ستة أضعاف. ولم تخجل القيادة الهندية من مناوراتها على الرغم من تحذيرات الولايات المتحدة بشأن عواقب التهرب من العقوبات. وقال وزير الخارجية سوبراهمانيام جيشانكار “لقد كنا منفتحين للغاية وصادقين بشأن مصلحتنا. نحن بلد يبلغ دخل الفرد فيه 2000 دولار أمريكي، وهؤلاء هم الأشخاص الذين لا يستطيعون تحمل ارتفاع أسعار الطاقة. ومن واجبي الأخلاقي ضمان إبرام أفضل صفقة”.
في بلد يعاني من ارتفاع حاد في أسعار المواد الغذائية، يعد تعديل أسعار الوقود أمرًا مهمًا للحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي. ونفى جيشانكار الاتهامات بأن شراء المحروقات الروسية كان وحده المسؤول عن تأجيج الحرب، مشيرًا إلى أن أوروبا تواصل شراء الغاز الروسي.
أشار المسؤولون الهنود إلى ما يعرفه العديد من مراقبي النفط بالفعل: في السوق العالمية، يمكن تعويض تحولات الطلب من مصدر عن طريق العرض من مصدر آخر. وبالتالي، نظرًا لأن المزيد من نفط الشرق الأوسط الذي اعتادت الهند على شرائه يتجه حاليا إلى أوروبا، فقد زادت الهند من مشترياتها من الخام الروسي.
تستورد الهند والصين اليوم حوالي نصف النفط الخام المشحون من الموانئ الروسية. وكلاهما في وضع يسمح لهما بالمطالبة بتخفيضات أكبر من موسكو.
لكن أسواق النفط ليست مرنة بشكل مطلق. لقد كانت طاقة التكرير أحد القيود الرئيسية على كمية ونوع النفط الذي يمكن للهند استيعابه. قبل سنة 2021، كان بإمكان عدد قليل من مصافي التكرير الهندية التعامل مع النفط الخام الروسي الثقيل نسبيًا الذي يحتوي على الكبريت الحامض.
وفي الواقع، شكلت روسيا أربعة بالمئة فقط من واردات الهند من النفط. وتم تصميم الجزء الأكبر من مصافي التكرير الهندية لمعالجة النفط الخام الأحلى والأخف الناشئ في الخليج العربي. ومع ذلك، كانت الأسعار الروسية منخفضة للغاية، مما جعل إعادة هندسة المصافي والاستثمار في تقنيات إزالة الكبريت أمرًا جذابًا تجاريًا.
بدأت جميع المصافي الكبرى في الهند، بما في ذلك المصافي المملوكة للدولة ومصفاة الملياردير موكيش أمباني في جامناغار، “رليانس للصناعات المحدودة”، في إنتاج الديزل منخفض التكلفة والنفثا وأنواع الوقود التجاري الأخرى باستخدام المواد الخام الروسية.
تفوقت روسيا على المملكة العربية السعودية لفترة وجيزة كثاني أكبر مكرر للنفط بالنسبة للهند، بعد العراق. وارتفعت واردات الهند من روسيا إلى 370 ألف برميل في اليوم في نيسان/ أبريل، أي أكثر من ثلاثة أضعاف مستويات ما قبل سنة 2022، قبل أن ترتفع إلى 870 ألف برميل في اليوم في أيار/ مايو.
أصبحت الهند من المتشددين بشأن أسعار النفط وتصيّد الصفقات. وفي الواقع، تستورد الهند والصين اليوم حوالي نصف النفط الخام المشحون من الموانئ الروسية. وكلاهما في وضع يسمح لهما بالمطالبة بتخفيضات أكبر من موسكو.
في الوقت نفسه، لا تزال إمدادات الخليج العربي قيد التشغيل، حيث أن 65 بالمئة من النفط الخام الهندي يأتي من غرب آسيا. ولا يزال النقل من الخليج العربي عبر بحر العرب أكثر فعالية من حيث التكلفة بدلا من الاعتماد على الطريق الملتوي من الموانئ الروسية عبر قناة السويس.
ومنذ أيار/ مايو، كان العراق وموردون آخرون في الشرق الأوسط يكافحون من أجل الحصول على حصة في السوق الهندية من خلال تقديم أسعار أفضل وحتى توريد خامات أثقل لم يكن من الممكن اعتبارها مؤهلة للتصدير قبل إعادة الهندسة الهندية. في آب/ أغسطس، استفادت مصافي النفط الهندية من فقاعات الأسعار المؤقتة لشراء ملايين البراميل من الخام الأمريكي في السوق الفورية، مما أظهر القدرة على المناورة والفطنة في بيئة متقلبة.
إعادة تشكيل هيكل الطاقة المحلي لدى الهند، ورفع مستوى قدرتها على التكرير، وتوسيع إمداداتها يمكن أن يجعل الهند منافسًا قويا في الجولة التالية من سباق الطاقة العالمي
تتلاءم هذه الآلية مع استراتيجية استيراد النفط الهندية. برزت المملكة العربية السعودية هذا الأسبوع كثاني أكبر مورد للنفط للهند بعد فجوة استمرت ثلاثة أشهر، متجاوزة بوضوح روسيا بهامش منخفض، بينما ظل العراق يحتفظ بالمركز الأول في آب/ أغسطس. علاوة على ذلك، تؤكد سياسة الهند الغامضة المتعلقة بالعدوان الروسي في أوكرانيا الاتجاه التقليدي المتمثل في أن الشرق الأوسط لا يزال وجهة مفضلة للحصول على النفط الخام.
في إطار قمة منظمة شنغهاي للتعاون الأخيرة في سمرقند، بدا أن تعليقات رئيس الوزراء ناريندرا مودي المصاغة بعناية حول العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا تعكس هذا الغموض عندما قال لفلاديمير بوتين “أعلم أن هذا العصر ليس للحروب وقد تحدثنا إليكم عدة مرات عبر الهاتف حول موضوع أن الديمقراطية والدبلوماسية والحوار هي كل ما يؤثر على العالم”.
لا تتعامل الحكومة الهندية مع ظروف السوق الحالية على أنها مكاسب غير متوقعة وإنما باعتبارها فرصة حاسمة لتغيير مكانة الهند بشكل دائم في أسواق الطاقة العالمية. وتقدر نيودلهي أن طاقة المصافي يجب أن ترتفع من 1900 مليون برميل في اليوم الحالي إلى 3400 مليون برميل في اليوم بحلول سنة 2025.
وفي ظل استعداد المصافي حاليًا لاستيعاب كل من مزيج النفط الخام الثقيل والخفيف ودخول شبكات التسويق التجارية، التي اعتادت وضع موردي النفط الخام ضد بعضهم البعض في حروب المزايدات، تقوم الهند بتوسيع قائمة وارداتها.
صرحت وزارة البترول والغاز الطبيعي بأن “شركات الطاقة الهندية تشتري من جميع منتجي النفط الرئيسيين في العالم من أجل أمن الطاقة وتحقيق هدفها المتمثل في توفير العدالة الطاقية لكل من مواطنيها”. تصدر اليوم 42 دولة النفط إلى الهند، بعد أن كانت 26 دولة فقط في سنة 2006. وتدخل الهند مناطق جديدة كمستهلك للطاقة ويمكن حتى أن تبرز كمصدر إقليمي للوقود المكرر.
كان موقف الهند من العقوبات الروسية مدفوعًا بسياسات التكرير أكثر من كونه مدفوعًا بالجغرافيا السياسية. مع ذلك، إذا نجحت محاولة الهند في تعزيز مكانتها في مجال الطاقة، فقد يكون لها تداعيات جيوسياسية دراماتيكية.
تتنافس الهند والصين بشكل متزايد على إمدادات الطاقة العالمية. وقد كانت نيودلهي في موقف أضعف ولا تمتلك قوة عسكرية كبيرة أو أي شيء يمكن مقارنته بمبادرة الحزام والطريق كوسيلة لتأكيد قوتها التجارية. ولكن إعادة تشكيل هيكل الطاقة المحلي لديها، ورفع مستوى قدرتها على التكرير، وتوسيع إمداداتها يمكن أن يجعل الهند منافسًا قويا في الجولة التالية من سباق الطاقة العالمي.
المصدر: ناشيونال إنترست