رغم غياب مقومات الاستقرار الأمني والاقتصادي والدراسي في الشمال السوري، يواظب آلاف الطلاب والطالبات من سكان المنطقة والوافدين إليها من نازحين ومهجّرين، على متابعة تحصيلهم العلمي في مختلف الجامعات والمعاهد السورية والتركية المنتشرة في المنطقة، في محاولة لتبديد الصعاب والتحديات اليومية التي يعيشها جُلّ السوريين.
يدرس الطالب مصطفى عبد الحميد (23 عامًا) في السنة الثانية من كلية الاقتصاد بجامعة الشام، بمنطقة أعزاز بريف حلب الشمالي، ويعاني من تحديات ومشاق في رحلته الدراسية في الجامعة، فهو واحد من آلاف الطلبة الذين يصرّون على متابعة تحصيلهم العلمي في الجامعة، بغية تحقيق آمالهم وطموحاتهم التي سُلبت منهم خلال العقد الماضي.
يقيم الشاب في بلدة أبين بريف حلب الغربي، وحاصل على الشهادة الثانوية الصادرة عن مديريات التربية والتعليم في المجالس المحلية بريف حلب الشمالي، ما دفعه إلى الالتحاق بجامعة الشام التي تبعد عشرات الكيلومترات عن مكان إقامته، عوضًا عن جامعة إدلب التابعة لوزارة التربية والتعليم في حكومة الإنقاذ، بسبب عدم اعترافها بالشهادات الصادرة عن المجالس المحلية.
وقال الشاب خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن رحلة السفر اليومية إلى الجامعة تستغرق أكثر من 4 ساعات على أقل تقدير، بتكلفة مالية تتراوح بين 100 و150 ليرة تركية، مع غياب وسائل النقل البديلة التي لا تتواجد بشكل دائم وتحتاج إلى تنسيق مسبق مع السائق، ما دفعني إلى عدم الالتزام في الدوام الرسمي”.
وأضاف أنه يحصل على دخل شهري، من عمله الحر في التسويق للدورات التعليمية في المناطق المحررة، نحو 100 دولار أمريكي، وهذا المبلغ لا يغطي جزءًا يسيرًا من احتياجات زوجته وطفله، ما منعه من استئجار منزل للسكن في المناطق القريبة من الجامعة كون إيجار المنزل لا يقلّ عن 100 دولار أمريكي، حيث يضطر إلى المبيت مع أقاربه خلال فترة الامتحانات كي لا يتكبّد عناء وتكاليف السفر.
مصاعب وتحديات الدراسة الجامعية
لا تقتصر معاناة الطلاب والطالبات في الشمال السوري على تكاليف وعناء السفر، وإنما هناك العديد من المشاق المترتِّبة على الطالب وعليه تحملها في سبيل استمرار دراسته الجامعية، والتي يعاني منها جميع الطلبة خلال مسيرتهم الدراسية، وتقف حائلًا بينهم وبين متابعة التعليم الجامعي، كون بعضها يدفع الطلبة إلى ترك مقاعد الدراسة عنوةً.
وتعدّ طباعة المقررات الدراسية التي يحصل عليها الطلبة بصيغة PDF، واحدة من تلك التحديات والمصاعب التي يمرّ بها الطالب الجامعي، حيث تتراوح تكلفة نسخة المقررات الدراسية للفصل الواحد بين 350 و450 ليرة تركية، ما يعني أنه بحاجة إلى 50 دولارًا لطباعة مقررات العام الدراسي، بحسب ما أوضحت الطالبة الجامعية في كلية الطب البشري آلاء.
تنحدر آلاء (اسم مستعار) من ريف إدلب، وتقيم في منزل بمدينة مارع التي تتواجد فيها كلية الطب البشري التابعة لجامعة حلب في المناطق المحررة مع عدد من زميلاتها، وتعاني من ظروف صعبة أثناء متابعة تحصيلها العلمي كونها بعيدة عن عائلتها ولا تستطيع الامتناع عن الدوام، كون دراستها تتطلب منها الحضور بشكل دائم.
وقالت خلال حديثها لـ”نون بوست”: “إن تكاليف الدراسة الجامعية مرهقة، وعائلتي لا تستطيع تغطية جميع النفقات، حيث يصل الرسم السنوي إلى 300 دولار أمريكي، 150 دولارًا لكل فصل، ومن الصعب توفير هذا المبلغ في ظل الظروف المعيشية التي نمرُّ بها”، وأضافت أنها تشترك مع زميلاتها في السكن، ما يخفف عليها عبء تكاليف الإيجار التي تصل إلى 100 دولار للشقة شهريًّا.
وأشارت إلى جملة من التحديات والمصاعب التي يمرّ بها الطلاب والطالبات في المرحلة الجامعية في مناطق الشمال السوري، ومن أبرزها: الرسوم السنوية للدراسة الجامعية، تختلف الرسوم من جامعة إلى أخرى وتتراوح بين 150 و500 دولار أمريكي، إضافة إلى تكاليف وعناء السفر بين مكان الإقامة ومقرّ الجامعة، وذلك بخلاف تكاليف الإيجار في حال كان الطالب يقيم في مدينة قريبة من مقرّ الجامعة.
يضاف إلى ما سبق، تكلفة طباعة المقررات الدراسية الفصلية، وغياب المراجع العلمية خلال إعداد الأبحاث الدراسية، وعدم الاعتراف الدولي بالجامعات الموجودة في الشمال السوري، وغياب فرص العمل في ظل تفشي البطالة، ما يدفع الخريجين إلى العمل في مهن مختلفة عن تخصصاتهم، ولا شك أيضًا أن غياب الاستقرار الأمني والاقتصادي في المناطق المحررة يلعب دورًا مهمًا في عرقلة هذه الرحلة.
على مدار الأعوام الدراسية الماضية، تخرّج مئات الطلبة الجامعيين من مختلف الاختصاصات العملية والتعليمية والمهنية في الجامعات السورية في الشمال السوري، لكن معظمهم يشتكون من غياب فرص العمل، وعدم قدرتهم على الحصول على فرصة عمل مناسبة لاختصاصاتهم الدراسية.
أحمد بكور، خريج من كلية الإدارة والاقتصاد في جامعة الشام، لم يستطع الحصول على فرصة عمل مناسبة لعمله، سواء في القطاعَين العام والخاص، نتيجة غياب فرص العمل في المنطقة وانتشار البطالة على حد سواء.
قال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “أعمل في قبّان لسوق الخضار، رغم حصولي على شهادة جامعية تخوّلني العمل في مجال تخصصي، لكنني بحثت في معظم المؤسسات الخاصة والعامة والمنظمات الإنسانية العاملة في المنطقة على فرصة عمل، لكنني لم أتوفق في واحدة منها”.
وأضاف: “في حال وُجدت فرصة عمل، فإن المؤسسات تضع شروط خبرة 5 سنوات على الأقل، وأنا فعليًّا لم يمضِ على تخرجي عامَين فقط، ولم أحصل على فرصة للتجربة وبناء الخبرات المطلوبة التي تبحث عنها المنظمات الإنسانية، لذلك أصبحت أعمل في قبّان الخضروات ريثما أحصل على فرصة مناسبة”.
قد لا تختلف قصة بكور عن مئات الخريجين الجامعيين في الشمال السوري ممّن لا يملكون فرصة عمل، وفي حال حصل أحدهم عليها في المؤسسات المدنية العامة، ستكون الأجور الشهرية التي يتقاضونها لا تتجاوز في أحسن الوظائف الموجودة 100 دولار أمريكي، وهي بالكاد تغطي مصاريف أيام معدودة من الشهر.
ورغم محاولات المنظمات الإنسانية العاملة في المنطقة على تأمين فرص عمل للشباب، إلا أنها لا تغطي كافة الخريجين العاطلين عن العمل، كون الفرص المقدَّمة تبقى ضمن إطار العمل المهني الذي يستهدف أصحاب المهن والحِرَف اليدوية.
إصرار على المواصلة
يعدّ استمرار الطلاب والطالبات في ظل الظروف الأمنية والاقتصادية والمعيشية السيّئة التي يعيشها الشمال السوري، بحدّ ذاته تحديًا كبيرًا يحطّم كل تلك الصعاب التي يمرّ بها الطلبة خلال مسيرتهم الجامعية، في وقت يطمحون إلى تحسين واقع بلدهم من خلال عملهم في بناء المجتمع والإنسان بإرادة صلبة، تتحدى الظروف السيّئة التي يمرّون بها.
تحدّث “نون بوست” إلى الطالب في السنة الأولى في كلية الطب البشري في جامعة العلوم الصحية التركية، في مدينة الراعي بريف حلب الشمالي، فارس الحياني، الذي قال: “رغم المشاق الصعبة التي أعيشها خلال مسيرة دراستي الجامعية، إلا أن طموحي لا تبدده الظروف، لذلك أواظب على استمرار تعليمي الجامعي، وأطمح أن أصبح طبيبًا يعالج السوريين ويساندهم”.
وأضاف: “نحن أبناء سوريا ومن واجبنا الدراسة والاستمرار لبناء البلاد والحفاظ على السوريين، في ظل الظروف الصعبة التي تعيشها سوريا، وكل ما مررنا به من ظروف لا يشكّل قطرة دم شهيد ضحّى في سبيل الثورة والسوريين، وسنكون منارة للسوريين”.
جامعات سورية وتركية في الشمال السوري
تُعتبر جامعة حلب في المناطق المحررة، ومقرّها في مدينة أعزاز بريف حلب الشمالي، واحدة من أبرز الجامعات السورية، وفيها كلية الطب البشري، وطب الأسنان، والصيدلة، والعلوم الصحية والهندسة والعلوم، والآداب والعلوم الإنسانية، والتربية، والاقتصاد، والحقوق، والعلوم السياسية، والإعلام وكلية الشريعة؛ ومن المعاهد المعهد التقاني الطبي، المعهد التقاني للحاسوب، والمعهد التقاني لإدارة الأعمال والمعهد التقاني للإعلام.
وافتتحت الجامعة عددًا من الأقسام في المعاهد والكليات، منها رياض الأطفال في كلية التربية، والفيزياء في كلية العلوم، وعلم الاجتماع في كلية الآداب، والمعهد التقاني الهندسي، والمعهد التقاني للمساحة، والمعهد التقاني للتجهيزات الطبية، والمعهد التقاني الزراعي، والمعهد التقاني البيطري والمعالجة الفيزيائية والأشعة والنظارات في المعهد التقاني الطبي، بحسب رئيس جامعة حلب في المناطق المحررة الدكتور عبد العزيز الدغيم.
وقال الدغيم خلال حديثه لـ”نون بوست”: “يبلغ عدد الطلبة في جامعة حلب في المناطق المحررة، خلال العام الدراسي 2021-2022، نحو 9894 طالبًا وطالبة من مختلف الاختصاصات والكليات، وتتراوح الرسوم الجامعية في التعليم العام بين 150 و300 دولار أمريكي، أما التعليم الموازي فتتراوح بين 200 و500 دولار أمريكي”.
كما تتخذ جامعة الشام من منطقة أعزاز مقرًّا لها، وفيها كليات متعددة، وتتراوح الرسوم الجامعية في جامعة الشام بين 125 و200 دولار أمريكي للتعليم العام، أما التعليم الموازي بين 175 و300 دولار أمريكي حسب الكلية، وتتبع جامعتا الشام وحلب لمجلس التعليم العالي في وزارة التربية والتعليم في الحكومة السورية المؤقتة.
بينما تتوزع كليات ومعاهد جامعة غازي عنتاب على المدن الرئيسية في ريف حلب الشمالي والشرقي، وكلية الشريعة في مدينة أعزاز، وقسم إدارة الأعمال وقسم التجارة الدولية وقسم الاقتصاد في مدينة الباب، وكلية التربية وكلية الآداب وكلية العلوم في مدينة عفرين، ومعاهد جرابلس قسم الأمن والحماية وقسم الشريعة وقسم التمريض وقسم القبالة وقسم الإسعافات الأولية وقسم الإدارة وقسم الحاسوب.
يقول مدير قسم شؤون الطلاب في جامعة غازي عنتاب، مصطفى الشاوي، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “تُعتبر جامعة غازي عنتاب جامعة تركية حكومية تتبع لمجلس التعليم العالي في وزارة التربية التركية، وحاصلة على اعتراف دولي وترتيبها الـ 33 على مستوى تركيا، ويبلغ عدد الطلبة فيها 2500 طالب وطالبة، بينما تتراوح الرسوم السنوية بين 50 و100 دولار أمريكي بحسب الكلية والمعهد”.
وفي السياق، افتتحت تركيا جامعة العلوم الصحية في مدينة الراعي بريف حلب الشمالي في 5 مارس/ آذار 2021، بعد إصدار قرار رئاسي حمل توقيع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يهدف إلى افتتاح كلية طب ومعهد عالٍ للعلوم الصحية في مدينة الراعي السورية.
وتعدّ الجامعة فرعًا رئيسيًّا لجامعة العلوم الصحية التركية (Sağlık bilimleri) الواقعة في ولاية إسطنبول، تدرّس الجامعة مناهجها باللغة التركية، حيث يدرس الطالب فيها سنة تمهيدية لتعلُّم اللغة التركية برسوم سنوية تصل إلى 500 دولار أمريكي تُدفع بالليرة التركية، وعندما يحقق شروط النجاح يتمّ قبوله في كلية الطب التي تبلغ رسومها السنوية نحو 1000 دولار أمريكي، بينما تبلغ رسوم المعاهد الصحية العليا في الجامعة 500 دولار أمريكي.
ويوجد في مدينة أعزاز جامعة المعالي الخاصة وجامعة النهضة الخاصة، وهما جامعتان سوريتان حاصلتان على ترخيص من مجلس التعليم العالي في الحكومة السورية المؤقتة، بينما يوجد في مدينة الباب جامعة حران، وهي جامعة تركية تُدار بإشراف التربية التركية.