يبدو أن الصين تتجه إلى توظيف علاقاتها الجيدة مع دول القارة الإفريقية في توسعها العسكري بالخارج، إذ تسعى حاليًا لإنشاء قاعدة عسكرية في غرب إفريقيا، بعد أن نجحت الولايات المتحدة العام الماضي في إجهاض مشروع سري لبناء قاعدة عسكرية صينية في دولة الإمارات العربية المتحدة، إذ كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، أن وكالات المخابرات الأمريكية عثرت على أدلة بوجود أعمال بناء لما تعتقد أنها منشأة عسكرية صينية سرية في الإمارات، تم إيقافها لاحقًا بضغط من واشنطن.
بكين حاولت إخفاء المشروع
الصحيفة الأمريكية قالت إن صور الأقمار الصناعية لميناء خليفة في أبو ظبي، كشفت عن أعمال بناء مشبوهة داخل محطة حاويات بنتها وشغلتها شركة الشحن الصينية، كوسكو، تضمنت الأدلة حفريات ضخمة لمبنى متعدد الطوابق على ما يبدو وأن الموقع كان مغطى في محاولة واضحة للتهرب من التدقيق.
كما كشف مصدران مطلعان لشبكة CNN عن تعليق إنشاء المشروع السري الصيني داخل ميناء خليفة، مؤقتًا على أقل تقدير، بعد ضغط شديد من الولايات المتحدة الأمريكية، ففي اتصال هاتفي أجراه الرئيس بايدن مع ولي عهد أبو ظبي – آنذاك – محمد بن زايد، أعرب الأول عن قلقه بشأن الوجود الصيني المتزايد في الإمارات، وأنه يخشى أن يكون لنشاط الصين تأثير “ضارّ على الشراكة”، وردّ ابن زايد بأنه سمع الرئيس بايدن “بصوت عال وواضح”.
انقطاع ابن زايد عن زيارة الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة، ربما يتعلق بمخاوف من أن يكون عرضة لمواجهة شكوى قضائية
ربما كانت الإمارات تهدف من تلك القاعدة الصينية السرية إلى توطيد علاقاتها مع بكين لأن الأخيرة تتميز بوجود نظام حكم ديكتاتوري راسخ يصعب اقتلاعه، مقابل النظام الديمقراطي في الولايات المتحدة، فآخر زيارة أجراها رئيس الإمارات محمد بن زايد إلى واشنطن كانت في مايو/أيار 2017، عندما كان وليًا لعهد أبو ظبي، ويعتقد بروس فاين مساعد وزير العدل الأمريكي الأسبق أن انقطاع ابن زايد عن زيارة الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة، ربما يتعلق بمخاوف من أن يكون عرضة لمواجهة شكوى قضائية – طبقًا لقانون حماية ضحايا التعذيب TVPA – من مواطنين إماراتيين باعتباره متواطئًا في التعذيب أو القتل. لكن ذلك الوضع تغير مؤخرًا بعد أن تولى ابن زايد رئاسة الدولة في 14 مايو/أيار الماضي.
قاعدة دائمة في المحيط الأطلسي
بالعودة إلى مشروع الصين لإقامة قاعدة عسكرية في غرب إفريقيا، تحدثت عدة وسائل إعلام أمريكية مؤخرًا عن معلومات استخباراتية مفادها أن الصين تتطلع إلى قاعدة عسكرية دائمة لها في غينيا الاستوائية الواقعة في غرب إفريقيا على ساحل المحيط الأطلسي، وإذا مضت الصين في خطتها قدمًا، فستحتضن غينيا أول قاعدة عسكرية دائمة للصين على المحيط الأطلسي، ما سيجعل الوجود العسكري الصيني على بعد 10 آلاف كيلومتر مربع من سواحل الولايات المتحدة خاصة السواحل الشرقية في فلوريدا وكارولاينا الشمالية والجنوبية.
يأتي هذا التطور في الوقت الذي تشهد العلاقات الأمريكية الصينية أزمات عديدة بشأن العديد من القضايا الخلافية، من بينها قضية تايوان وأصل جائحة كورونا، وقضايا أخرى تتعلّق بالتجارة وحقوق الإنسان، إضافةً إلى الصاروخ الفرط صوتي الذي أطلقته الصين العام الماضي، وكل ذلك رغم أن إجمالي التجارة الأمريكية الثنائية مع الصين بلغ في العام الماضي قرابة 560 مليار دولار.
قبل عدة أشهر، أبلغ الجنرال ستيفن تاونسند، قائد القيادة الأمريكية في إفريقيا “أفريكوم” سابقًا، مجلس الشيوخ، بأن “التهديد الأكثر أهمية من الصين سيكون منشأة بحرية مفيدة عسكريًا على ساحل المحيط الأطلسي لإفريقيا”، وأضاف “بقولي مفيدة عسكريًا، أعني شيئًا أكثر من مجرد مكان يمكنهم فيه إرساء (السفن) بشكل مؤقت والحصول على الغاز والسلع، فأنا أتحدث عن ميناء يستطيعون من خلاله إعادة التسلح بالذخائر وإصلاح السفن البحرية”.
وبشكل عام، تنظر الصين إلى منطقة غرب إفريقيا باعتبارها حلقة وصل مهمة للمناطق الإستراتيجية الأخرى في شمال ووسط وجنوب القارة، بما في ذلك منطقة الساحل والصحراء حيث ترسخ الصين نفوذها في القارة السمراء، سعيًّا منها لموازنة النفوذ الدولي الذي يمثل تحديًّا للصين مثل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وتركيا والاتحاد الأوروبي.
معظم دول غرب إفريقيا تنضوي تحت مظلة “الإيكواس”
كما تكمن أهمية المصالح الصينية الإستراتيجية في الموقع الإستراتيجي لمنطقة غرب إفريقيا الذي يلعب دورًا بارزًا في نيلها تلك المكانة بالنسبة لسياسات القوى الكبرى، فهي تطل على الساحل الغربي للقارة عند المحيط الأطلنطي، ما يعني قربها الجغرافي – ولو نسبيًّا – من الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر المنافس الرئيسي للصين في العالم، بالإضافة إلى كونها تتصدر أولويات السياسات الأوروبية باعتبارها تمثل حائط صد للتحديات التي تهدد أمن القارة الأوروبية مثل انتشار الإرهاب والتجارة غير المشروعة بما في ذلك الاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية لأوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط.
وتنضوي معظم دول غرب إفريقيا تحت مظلة المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، التي تعرف بالإنجليزية: Economic Community of West African States وتُعرف اختصارًا بـ”إيكواس ECOWAS”، وهي مُنظمة سياسية واتحاد اقتصادي إقليمي يتكون من 15 دولة تقع في منطقة غرب إفريقيا، تغطي هذه البلدان مجتمعة مساحة 5.114.162 كيلومتر مربع (1.974.589 ميل مربع)، فيما تضُم عدد سكان يفوق الـ350 مليون نسمة حسب إحصاءات سنة 2015.
تستهدف بكين الدعم الإفريقي لمبدأ “صين واحدة”، ومن ثم عزل تايوان دبلوماسيًّا في قارة إفريقيا من خلال إقناع الدول الإفريقية بقطع علاقاتها الدبلوماسية معها
تأسست الإيكواس في 25 مايو/أيار 1975 بموجب اتفاقية لاغوس، ويقع مقرها في أبوجا عاصمة نيجيريا، وتضم المجموعة 15 دولة هي: الرأس الأخضر وغامبيا وغينيا وغينيا بيساو وليبيريا ومالي والسنغال وسيراليون وبنين وبوركينا فاسو وغانا وساحل العاج والنيجر ونيجيريا وتوغو، وقد انضمت كل هذه الدول إلى المجموعة في دورتها التأسيسية في مايو/أيار 1975.
وتضم المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا مؤسسات عديدة، منها: مفوضية المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا ومحكمة العدل الخاصة بالمجموعة وبرلمان المجموعة وبنك إيكواس للاستثمار والتنمية EBID ومنظمة الصحة لغرب إفريقيا WAHO ومجموعة العمل الحكومية الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في غرب إفريقيا، كما ينضوي تحت المجموعة أيضًا تكتلان اقتصاديان آخران هما: الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا UEMOA، والمنطقة النقدية لغرب إفريقيا WAMZ.
المصالح الصينية في غرب إفريقيا
نقلًا عن عدة بحوث ودراسات أمريكية، يمكن تلخيص أبرز المصالح الصينية في منطقة غرب إفريقيا على النحو التالي:
1- المصالح السياسية: تُسخِّر بكين دبلوماسيتها من أجل تعزيز العلاقات السياسية التي تسهم بدورها في توطيد علاقات التعاون الاقتصادي والأمني مع دول غرب إفريقيا، وذلك في إطار سياسة الباب المفتوح التي تتبناها بكين في إفريقيا، فالمصالح الصينية في القارة السمراء بما في ذلك منطقة غرب إفريقيا ترتبط بعدد من الدوافع، فهي مثلًا تسعى للحصول على الدعم الإفريقي لمساندتها والدفاع عن قضاياها في المحافل الدولية مثل تايوان وهونغ كونغ وبحر الصين الجنوبي، لا سيما أن إفريقيا تتمتع بكتلة تصويتية كبيرة في الأمم المتحدة، تقدر بنحو 28% من إجمالي أعضاء الجمعية العمومية هناك، وتضم منطقة غرب إفريقيا وحدها 15 دولة إفريقية بما يجعلها كتلة تصويتية معتبرة.
كما تستهدف بكين الدعم الإفريقي لمبدأ “صين واحدة”، ومن ثم عزل تايوان دبلوماسيًّا في قارة إفريقيا من خلال إقناع الدول الإفريقية بقطع علاقاتها الدبلوماسية معها، حيث اعتبرته شرطًا رئيسيًّا لضخ المزيد من المساعدات والاستثمارات الصينية.
2- المصالح الاقتصادية والتجارية: تسعى الصين إلى تقوية نفوذها الاقتصادي في غرب إفريقيا، وذلك من خلال محاولتها تصدير نموذج صيني تنموي لدول المنطقة، وتقدم نفسها باعتبارها نموذجًا اقتصاديًا مناسبًا لها، وهو ما يلقى ترحيبًا إفريقيًا في ضوء حاجة الدول الإفريقية للمزيد من الاستثمارات الصينية ومشروعات البنية التحتية التي تقوم بمعظمها الشركات الصينية، على نحو جعل بكين هي الأكثر تأثيرًا من بين القوى الدولية الفاعلة في غرب إفريقيا على الصعيد الاقتصادي، في ظل هيمنتها على معظم الاستثمارات في عدد من القطاعات المهمة مثل البنية التحتية والاتصالات والمعادن والنفط.
كما تتطلع الصين إلى موارد وثروات دول غرب إفريقيا مثل النفط والمعادن، وذلك في ضوء حاجتها للمزيد من المواد الخام لسد احتياجاتها الصناعية ونموها الاقتصادي، فقد أشارت تقارير إلى أن بكين سوف تستورد كميات كبيرة من النفط بشكل يفوق الولايات المتحدة الأمريكية خلال العقد الحاليّ، وهو ما يعزز مساعيها للاستثمار في قطاعات النفط والغاز في غرب إفريقيا مثل نيجيريا وأنجولا لضمان إمدادات النفط.
كذلك تهدف بكين إلى الاستفادة من كثافة عدد المستهلكين في الأسواق الإفريقية الذي يتجاوز مليار نسمة بتوفير أسواق تصديرية للسلع الصينية التي تضم جزءًا من العمالة الصينية، من أجل تعظيم المصالح الاقتصادية الصينية في المنطقة، كما تدفع نحو تهيئة بيئة مواتية للأعمال التجارية بين الصين وإفريقيا عبر منتدى التعاون الصيني الإفريقي (فوكاك).
3- المصالح الأمنية والعسكرية: ترى بكين في اضطراب السياق الإقليمي الأمني في منطقة غرب إفريقيا بما في ذلك الساحل والصحراء بسبب تصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية هناك، فرصة جيدة لانخراطها في معالجة القضايا الأمنية التي تمثل مدخلًا مهمًا لتعاظم النفوذ الصيني في المنطقة.
قاعدة عسكرية صينية واحدة
تمتلك الصين حاليًّا قاعدة عسكرية بحرية وحيدة “بشكل مباشر” خارج أراضيها، تقع في منطقة القرن الإفريقي وتحديدًا في جيبوتي، بالقرب من طرق الملاحة الأكثر ازدحامًا في العالم، وبالقرب كذلك من معسكر ليمونيه Camp Lemonnier وهو قاعدة تابعة للبحرية الأمريكية، يقع في مطار جيبوتي ويعد مقر قوة العمل المشتركة الموحدة في القرن الإفريقي المتفرعة من القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا، وهي القاعدة العسكرية الأمريكية الدائمة في إفريقيا.
إن أصبحت القواعد العسكرية الصينية المقترحة في كمبوديا وغينيا الاستوائية جاهزة للعمليات في غضون السنوات القليلة المقبلة، فإن الجيش الصيني ليس في طريقه لامتلاك شبكة عالمية من القواعد تشبه تلك التي تمتلكها الولايات المتحدة
هناك شكوك في استغلال الصين لمشروعات الموانئ التجارية في خدمة أهدافها العسكرية، ففي السنوات الأخيرة، بنت الصين منشآت مواني تجارية في باكستان وإيران وسريلانكا، من ضمن مناطق أخرى رئيسة، يمكن أن تستخدمها بحريتها التي تتوسع بسرعة.
وفي مثال آخر أبرمت الصين اتفاقًا سريًا مع كمبوديا للسماح لبحريتها باستخدام قاعدة في ذاك البلد، حسبما أوردت عدة وسائل إعلام في العام 2019، ويعد إنشاء قاعدة بحرية صينية في كمبوديا جزءًا من إستراتيجية بكين لبناء شبكة من المنشآت العسكرية حول العالم دعمًا لطموحاتها في أن تصبح قوة عالمية حقيقية، حسبما ذكر المسؤولون.
وفيما يتعلق بمشروع القاعدة الصينية في غينيا الاستوائية، أرسلت واشنطن نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي جون فينر، إلى العاصمة مالابو، في مهمة لإقناع الرئيس تيودورو أوبيانغ نغويما مباسوغو وابنه وولي العهد نائب الرئيس تيودورو “تيودورين” نغويما أوبيانغ مانج، برفض مبادرة الصين. وقال مسؤول كبير في إدارة بايدن: “كجزء من دبلوماسيتنا لمعالجة قضايا الأمن البحري، أوضحنا لغينيا الاستوائية أن بعض الخطوات المحتملة التي تنطوي على نشاط صيني هناك ستثير مخاوف تتعلق بالأمن القومي”.
لكن حتى إن أصبحت القواعد العسكرية الصينية المقترحة في كمبوديا وغينيا الاستوائية جاهزة للعمليات في غضون السنوات القليلة المقبلة، فإن الجيش الصيني ليس في طريقه لامتلاك شبكة عالمية من القواعد تشبه تلك التي تمتلكها الولايات المتحدة، التي تتميز بامتلاكها 7 أساطيل بحرية و10 قيادات قتالية موحدة على مستوى العالم، بخلاف الصين التي بدأت للتو في بناء وجود عسكري خارجي وهي تستغل نفوذها الاقتصادي العالمي من أجل تعزيز طموحاتها العسكرية.