منذ قيام الكيان اللبناني في بدايات عشرينيات القرن العشرين، شكل المسلمون السنة أحد أبرز المداميك التي قام عليها لبنان بشكله الحديث القائم على أساس الدولة القطرية، ورغم حنينهم الدائم إلى عمقهم العربي والتاريخي، فإنهم استوعبوا المتغيرات وقرأوا باكرًا نتائج وتداعيات الحرب العالمية الأولى، فانخرطوا في بناء الدولة الجديدة حتى لا يكونوا خارج المعادلة فيها.
فقام لبنان بشكل رئيسي، بعد الاستقلال والتخلص من الاحتلال الفرنسي، على ركيزة أساسية وتفاهم بين المكونات الرئيسية فيه: المسيحيين والمسلمين السنة والشيعة، وجرى العرف منذ العام 1943 (تاريخ الاستقلال) أن يكون رئيس الجمهورية من المسيحيين الموارنة تحديدًا، وأن يكون رئيس المجلس النيابي من الشيعة، وأن يكون رئيس الحكومة (السلطة التنفيذية) من المسلمين السنة.
وبعد الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان منذ العام 1975 حتى آخر العام 1989 جرى إدخال تعديلات طفيفة على النظام السياسي فيما عُرف يومها بإقرار وثيقة الوفاق الوطني “اتفاق الطائف”، فأعطت الوثيقة بعض الصلاحيات لمجلس الوزراء مجتمعًا بدل أن تكون محصورة بيد رئيس الجمهورية، إضافة إلى تعديلات طفيفة أخرى، وتكرس بموجب هذه الوثيقة التي اعتُبرت بمثابة عقد اجتماعي جديد، الدور الوطني للمكونات في داخل النظام السياسي ومن بين هذه المكونات المسلمون السنة.
الحضور والدور
يشغل المسلمون السنة اليوم في النظام السياسي اللبناني مناصب عديدة أبرزها رئاسة الحكومة ووزراء في الحكومات التي تتألف بحسب شكل وحجم الحكومة، ويكون عددهم مساويًا للوزراء الشيعة ومعهم يكون العدد مساويًا للوزراء المسيحيين وفق منطق المناصفة المعمول به في لبنان.
كما يشغل المسلمون السنة مواقع إدارية مهمة في الدولة أبرزها المدير العام لقوى الأمن الداخلي والمدعي العام التمييزي على مستوى لبنان، فضلًا عن مواقع إدارية وقضائية وأمنية وعسكرية أخرى.
لا أرقام رسمية لعدد اللبنانيين، فآخر إحصاء قامت به الدولة كان الإحصاء الذي قام به الاحتلال الفرنسي عام 1932
وينتشر المسلمون السنة سكانيًا في معظم أرجاء لبنان، ويتركز وجودهم بشكل أساسي في المدن وعلى السواحل، حيث كانوا من المرابطين على الثغور تاريخيًا، وتعتبر أهم الحواضر التي يقطنون فيها العاصمة بيروت ومدن طرابلس في شمال لبنان وصيدا في جنوبه، وحتى مدينة صور في أقصى الجنوب كانت إلى الأمس القريب مدينة سُنية.
وتُعد محافظة عكار في شمال لبنان خزان السنة في البلد، كما أن هناك انتشارًا للمسلمين السنة في البقاع وخاصة الأوسط والغربي، وفي منطقة إقليم الخروب في جبل لبنان، وفي منطقة العرقوب عند الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة والجولان السوري المحتل.
أما بالنسبة لعددهم في لبنان فلا أرقام رسمية لعدد اللبنانيين، فآخر إحصاء قامت به الدولة كان الإحصاء الذي قام به الاحتلال الفرنسي عام 1932، غير أن لوائح الشطب التي تصدرها وتحدثها وزارة الداخلية كل عام تبين أن عدد الناخبين من المسلمين السنة يفوق عدد الناخبين لدى بقية الطوائف الأخرى في إشارة ربما إلى أن عددهم أكثر من غيرهم.
مع الإشارة إلى أن اللاجئين السوريين والفلسطينيين لا يدخلون في هذا الاحتساب، وهم بأغلبيتهم الساحقة من المسلمين السنة المقيمين في لبنان.
التحديات والمخاطر
يواجه لبنان في هذه المرحلة جملة من التحديات والمخاطر التي تهدد الكيان أو النظام السياسي أو الصيغة القائمة، وهناك هواجس تكاد تكون قائمة وحاضرة لدى أغلب المكونات بالنظر إلى الوضع الذي يمر به لبنان حاليًّا.
فعلى المستوى السُني يواجه المسلمون السنة في هذه المرحلة تحديات تتعلق بحضورهم ووجودهم في لبنان من ناحية، وبدورهم في النظام السياسي من ناحية ثانية.
فيما يتعلق بالشق الأول، نما عند المسلمين السنة في لبنان شعور أنهم في دائرة الاستهداف تمامًا كما حصل مع المسلمين السنة في الإقليم والجوار العربي من حولهم، لكن بطرق وأساليب مختلفة، فمدينة طرابلس وجوارها الجغرافي في محافظة عكار وأقضية المنية والضنية تشهد نزيفًا بشريًا هائلًا وبشكل يومي جراء الهجرة العشوائية وغير الشرعية التي تجري عبر البحر الأبيض المتوسط فيما يُعرف بـ”قوارب الموت” بسبب الفقر الذي بلغت مستوياته في المدينة وجوارها قرابة 80% والبطالة وتراجع فرص العمل والغلاء وانقطاع المياه والكهرباء وتراجع معظم الخدمات، وبسبب الملفات الأمنية التي تلاحق أبناء هذه المناطق وتصنف بعضهم أو الكثير منهم على قوائم الإرهاب، وملف الموقوفين الإسلاميين في لبنان حتى الآن لم يجد طريقه إلى المحاكمة أو إلى الحل، وما سوى ذلك مما يعانيه اللبنانيون جميعًا، لكن بدرجة أكبر أهالي طرابلس والشمال.
إن هذه الهجرة العشوائية تفرغ المناطق من أبنائها وساكنيها وتُعتبر تحديًا كبيرًا للحفاظ على هذه الحاضرة السنية الوحيدة التي ما زالت قائمة على شواطئ شرق المتوسط، ولا يختلف الأمر والمسألة لناحية الهجرة من لبنان في بقية المناطق ذات الحضور السني إلا قليلًا لناحية النسب.
أما فيما يتعلق بالشق الثاني المتصل بالدور على مستوى النظام السياسي والإدارة، فهناك شعور عام لدى كل أبناء المسلمين السنة أن هناك استهدافًا لهذا الدور يبدأ من تجاوز صلاحيات رئاسة الحكومة بدءًا من التدخل بتشكيلها وفرض نمط معين من الوزراء على رئيسها، وصولًا إلى محاصرة صلاحيات رئاسة الحكومة بالتفاسير الدستورية التي تقيد عمله وأداءه، ومرورًا قبل ذلك باستخدام فائض القوة أحيانًا من البعض لفرض معادلات في السياسة أو الاقتصاد أو الأمن أو غيرها.
وينسحب هذا الأمر على دور وأداء المواقع التي يشغلها المسلمون السنة في الإدارة والأمن والقضاء وغيرها، فضلًا عن ملء أي موقع إداري يشغر بموظف من مكونات أخرى.
سنة لبنان اليوم يشعرون أنهم أمام تحديات وجودية، وأنهم متروكون ومكشوفون دون عمق أو غطاء عربي أو إسلامي
إن كل ذلك ولد شعورًا عامًا لدى المسلمين السنة في لبنان على اختلاف توجهاتهم السياسية والفكرية بأنهم محل استهداف في حضورهم ووجودهم ودورهم الوطني، وفي ظل غياب الأحزاب والمرجعيات السياسية السنية بعد انسحاب رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، وتياره المستقبل من العمل السياسي، وفي ظل عدم بروز قوة سياسية سنية جديدة بديلة تفرض نوعًا من التوازن في مواجهة القوى السياسية الطائفية الأخرى، تصدت دار الفتوى لهذه المهمة، ووجه مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، دعوة للنواب السنة في المجلس النيابي للقاء انعقد يوم السبت 24 سبتمبر/أيلول الحاليّ بحضور 24 نائبًا من أصل 27 نائبًا بحث في كل تلك التحديات وخلص إلى جملة من التوصيات التي تُعد بمثابة تعويض للفراغ الناشئ لديهم.
توصيات اللقاء النيابي السني
خلص اللقاء النيابي السني برعاية مفتي الجمهورية في دار الفتوى إلى التأكيد على التمسك بلبنان وطنًا نهائيًا لكل لبنان، والتمسك أيضًا بوحدته وبما نص عليه اتفاق الطائف لناحية انتمائه العربي وهويته العربية، وشدد أيضًا على العيش المشترك بما يحفظ خصوصية الشركاء، وتحقق المواطنة بين اللبنانيين في الحقوق والواجبات.
كما شددت الخلاصات على التزام سيادة ووحدة لبنان، وعلى العلاقات مع الدول العربية دون الإساءة إلى أي منها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وعلى انتخاب رئيس للجمهورية في الموعد الدستوري، والعداء لكيان الاحتلال الإسرائيلي الذي يحتل فلسطين.
خلاصة القول.. سنة لبنان اليوم يشعرون أنهم أمام تحديات وجودية وأنهم متروكون ومكشوفون دون عمق أو غطاء عربي أو إسلامي في لحظة تاريخية فارقة قد يُعاد فيها بناء البلد أو إعادة إنتاج نظامه السياسي بما يتوافق مع أحجام وقوة المكونات القائمة، ولا يريدون أن يخسروا موقعهم ودورهم ولا أن يتحولوا إلى مجرد رعايا، ومن هنا كان اللقاء جامعًا في دار الفتوى رغم تباين الآراء والتوجهات السياسية بين الكثير من النواب.