ترجمة وتحرير: نون بوست
يحب الرئيس الأمريكي جو بايدن الاقتباس عن والده قول “لا تقارنوني بالقوة الإلهية بل بالبديل”. في عالم موازٍ، قد تكون هذه نصيحةً جيدةً لأي شخص يخوض صراعا حكوميا حول خيارات سياسية صعبة للغاية. ولكن في عالمنا، يسود استقطاب خبيث يحوّل كل قضية تقريبًا إلى مسرحية أخلاقية تضع قوى الخير في مواجهة قوى الشر وتزاحم في كثير من الأحيان خيارات أكثر منطقية وواقعية.
من ذلك الاتفاق النووي الإيراني الذي ستتم مراجعته قريبًا (أو لن تتم مراجعته مطلقًا). بالنسبة لمنتقديه، مثل السناتور الجمهوري ليندسي غراهام، إنها وساوس الشيطان على الأرض وسوف تعزز وتثري نظامًا شريرًا. أما بالنسبة للمدافعين عنها، مثل السناتور الديمقراطي الأمريكي كريس ميرفي، فإن الاتفاق النووي الإيراني سيجعل الولايات المتحدة والشرق الأوسط والعالم مكانًا أكثر أمانًا.
إن الجدل القائم حول الاتفاق المرتقبة يعد بالفعل سيئا، وإذا اُبرم الاتفاق سيصبح النقاش أكثر خطورة. لا يجب أن نحكم على أي اتفاق نووي جديد مقترح على أساس نموذج الاتفاق المثالي (أي القوة الإلهية) وإنما البديل (غياب اتفاق). للأسف، مثل كل شيء آخر في واشنطن هذه الأيام، من المرجح أن يكون النقاش شخصيًا للغاية. لقد تعرض روب مالي، المبعوث الأمريكي الذي يقود المفاوضات، إلى عدد من الهجمات الشخصية بشكل صارخ، (علما بأن مالي صديقي المقرب) ومن شبه المؤكد أنها ستتفاقم.
في ظل استمرار الجدل حول حكمة الاتفاق النووي وفعاليته، إليكم العديد من الملاحظات غير الملائمة سياسيا لكل من منتقديه والمدافعين عنه.
ينطوي كل اتفاق جديد على تداعيات خطيرة، ويجب أن نكون صادقين بشأن هذه الثغرات. بعيدًا عن كونه “أطول وأقوى” من اتفاق 2015 الأصلي (المعروف رسميًا باسم خطة العمل الشاملة المشتركة) – كما كانت تأمل إدارة بايدن بشكل غير واقعي – فإن أي اتفاق جديد سيكون على الجانب الأقصر والأضعف ببساطة لأنه خلال السنوات الأربع الماضية منذ انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق، جمعت إيران قدرًا كبيرًا من المعرفة والقدرات النووية ومعظمها غير خاضع للرقابة من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
إيران تتعلم دروسًا مهمة في تطويرها للأسلحة النووية، بما في ذلك تجربة تخطي خطوات التخصيب النموذجية
ستنتهي الآن البنود الرئيسية للاتفاقية الأصلية التي قيدت تخصيب اليورانيوم واستخدام أجهزة الطرد المركزي المتقدمة في وقت قريب. ومنذ انسحاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الاتفاق في سنة 2018، أحرز البرنامج النووي الإيراني تقدمًا كبيرًا.
وأفاد معهد العلوم والأمن الدولي هذا الشهر بأن “إيران تتعلم دروسًا مهمة في تطويرها للأسلحة النووية، بما في ذلك تجربة تخطي خطوات التخصيب النموذجية لأنها تخصب حوالي 60 بالمئة من اليورانيوم -235، وبناء واختبار المعدات لتعزيز 20 بالمئة من اليورانيوم المخصب وسحب (اليورانيوم عالي التخصيب).
أعربت الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن قلقها من أن قرار إيران بوقف إجراءات التحقق والمراقبة الخاصة بخطة العمل المشتركة الشاملة يضر بقدرة الوكالة على تقديم ضمانات بشأن الطبيعة السلمية لبرنامج إيران النووي. ومن أجل المضي قدمًا، وفي حالة العودة المتبادلة إلى التنفيذ الكامل لخطة العمل الشاملة المشتركة، قالت الوكالة إن إيران ستحتاج إلى تقديم الإعلانات والبيانات والوصول الذي حددته الوكالة لإعادة إنشاء خط أساس وتمكين الوكالة الدولية للطاقة الذرية من الوفاء بولاية الرصد والتحقق بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة.
يتمثل الجانب السلبي الخطير الآخر في أن العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة ستسمح لإيران بالوصول إلى أصولها المجمدة، والأهم من ذلك بيع نفطها في سوق ستشكل أسعاره المتضخمة مكاسب مالية غير متوقعة – مع أنها قد لا تكون كبيرة كما قد يتصور البعض. وعلى الرغم من أن الاتفاقية النووية لسنة 2015 لم تُصمم أبدًا لتغطية أنشطة إيران الإقليمية الخبيثة (ولو حاولت لما تم إبرامها أبدًا)، إلا أن هذه الأموال ستساعد إيران على استخدام وكلائها الشيعة لتوسيع نفوذها في لبنان وسوريا والعراق والبحرين واليمن، وكذلك دعم الجماعات السنية الحليفة مثل حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي في غزة.
سعت إيران منذ فترة طويلة، وبدرجات متفاوتة من النجاح، إلى توسيع أنشطتها الثورية والعسكرية في قوس شيعي يشمل أربع عواصم عربية: بيروت وبغداد ودمشق وصنعاء. وفي حين أن العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة سيقيّد القوة النووية وسعي إيران إلى فرض نفوذها – على الأقل حتى نهاية هذا العقد – فإن رفع العقوبات سيساعد إيران على التقدم على الساحة الإقليمية.
وكما يقول زميلي في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي كريم سجادبور، الخبير في الشؤون الإيرانية، “لا يوجد بلد في الشرق الأوسط لديه مميزات مثل إيران من ناحية الامتداد الجغرافي ورأس المال البشري والتاريخ القديم والموارد الطبيعية الهائلة. ولكن بدلاً من الاستفادة من هذه الثروات لتصبح قوة اقتصادية عالمية أو لتعزيز مصالحها الوطنية، قامت الجمهورية الإسلامية ببناء سياستها الخارجية على ركيزتين هما مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل”. وهو يرى أنه طالما لا يزال النظام الإيراني الحالي في السلطة، فإنه من غير المرجح أن يتغير الوضع”.
أخيرًا، لن يمنع الاتفاق الجديد إيران من امتلاك سلاح نووي في نهاية المطاف. مثل سابقتها، فإن خطة العمل الشاملة المشتركة 2.0 ستكون اتفاقية معاملات وليست تحويلية. وكما أشار دنيس روس، الزميل المتميز في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، في مقالته الأخيرة لمجلة “فورين بوليسي“، فإن ذلك لن يحل مشكلة البرنامج النووي الإيراني أو يَثني طهران عن التسلح. كما أن منتقدي الاتفاق الأصلي مستعدون للإشارة إلى أنه بحلول سنة 2031، ستكون هناك مجموعة رئيسية من القيود ضد تخصيب اليورانيوم واستخدام أجهزة الطرد المركزي المتطورة.
بحلول نهاية سنة 2022، ستكون إيران أقرب من أي وقت مضى إلى تجميع بعض أهم المكونات والتقنيات الرئيسية المطلوبة لتسليحها
لم تكن خطة العمل الشاملة المشتركة تهدف (أو قادرة) على تمهيد الطريق لتغيير العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران. فهي تعتبر في أفضل حالاتها مجموعة من الترتيبات المفيدة (ربما تكون مماثلة لاتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية) لتقييد البرنامج النووي الإيراني من أجل منع المواجهة بين إسرائيل وإيران التي يمكن أن تؤدي إلى اندلاع حرب إقليمية وجعل ضربة عسكرية أمريكية ضد إيران غير ضرورية.
إذا تم التوصل إلى اتفاق جديد، فقد يشعر المرشد الأعلى الإيراني وقادة الحرس الثوري بالحاجة إلى تكثيف أنشطتهم المزعزعة للاستقرار لإثبات أنه لن يتم ترويضهم من قبل الشيطان الأكبر، الولايات المتحدة. وإذا كان الجمهوريون لا يحبون النسخة الجديدة من خطة العمل الشاملة المشتركة، فعليهم أن ينقلوا شكواهم إلى ترامب وليس بايدن. كانت خطة العمل الشاملة المشتركة الأصلية لسنة 2015 معيبة ولكنها عملية بفرض قيود صارمة على برنامج إيران النووي الذي راقبته الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن كثب.
استند قرار إدارة ترامب في أيار/ مايو 2018 بالانسحاب أحادي الجانب من خطة العمل الشاملة المشتركة إلى افتراضين ثبت لاحقًا قصورهما: الأول أن إيران في ظل العقوبات الساحقة لن تكثف برنامجها النووي، والثاني أنه بمرور الوقت ستقدم إيران تنازلات لكي تحصل على اتفاق أفضل.
يجادل المدافعون عما يسمى بـ “حملة الضغط القصوى” لإدارة ترامب بأنها لو استمرت لفترة أطول وفي نفس الوقت أعدت الولايات المتحدة خيارًا عسكريًا موثوقًا، بالإضافة لدعم المجتمع الدولي للعقوبات بشكل أكبر، لربما اختلفت النتائج، ولكنه افتراض مغاير للواقع ويستحيل إثباته.
لكن سرعان ما أصبح شيء واحد واضحًا بشكل لا جدال فيه، إذا كانت حملة الضغط القصوى مصممة لاحتواء برنامج إيران النووي فقد فشلت بجدارة. لقد تسارع برنامج إيران مثل الفرس على حد تعبير رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بدءًا من زمن الاختراق – وهو الوقت الذي قد تستغرقه إيران لإنتاج ما يكفي من المواد الانشطارية لسلاح نووي واحد – لتجاوز سقف التخصيب بموجب اتفاق 2015، وبناء مخزونها من اليورانيوم المخصب، وفقدان الوكالة الدولية للطاقة الذرية قدرتها على رصد أنشطة إيران النووية والتحقق منها.
بحلول نهاية سنة 2022، ستكون إيران أقرب من أي وقت مضى إلى تجميع بعض أهم المكونات والتقنيات الرئيسية المطلوبة لتسليحها، إذا اتخذت قرارًا بذلك. ويرى البعض أنها أصبحت “دولة نووية بالفعل“. في غضون ذلك، يكفي بايدن الانخراط في حرب واحدة. ولعل الاتفاق النووي الإيراني أكبر مثال على كيفية تكبّد رئيس خسائر سياسية في سعيه لتحقيق مصلحة وطنية. وقليلة هي اتفاقيات السياسة الخارجية التي لاقت ازدراءً أكبر من خطة العمل الشاملة المشتركة، ولن يلقى الاتفاق الجديد أي حفاوة خارج مؤسستي الأمن القومي والسياسة الخارجية.
يعارض القرار الجمهوريون في الكونغرس بالإضافة لعدد ليس بقليل من الديمقراطيين، وقد جعلوا ذلك الاعتراض واضحًا من خلال الرسائل والقرارات. في أيار/ مايو، أيدت أغلبية ساحقة من الحزبين في مجلس الشيوخ، بما في ذلك 16 ديمقراطيًا، قرارًا غير ملزم يحذر البيت الأبيض من سلبيات العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة.
واجهت خطة العمل الشاملة المشتركة الأصلية معارضة شديدة في الكونغرس، ولن يكون الإصدار الجديد منها أفضل لأسباب واضحة. إن العداء الحالي تجاه إيران في أشد مستوياته، ويرجع ذلك لمؤامرة الحرس الثوري الإيراني المزعومة لاغتيال مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون والاستهداف المزعوم لمسؤولين سابقين آخرين في إدارة ترامب، ومضايقة المعارضين الإيرانيين في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى قضية الكاتب سلمان رشدي، الذي نعتته وزارة الخارجية الإيرانية بأنه “خطأ رشدي”. كل هذا يطرح تساؤلات مشروعة حول سبب استمرار الحكومة الأمريكية في التفاوض مع طهران. وقد أضافت الحملة الوحشية التي شنها النظام مؤخرًا على المتظاهرين بعد وفاة امرأة كردية إيرانية شابة في الحجز مزيدا من العداء المناهض لإيران.
تكون الخيارات عادةً بين سيئ وأسوأ في عالم صناعة السياسة القاسي
يأتي الجواب الذي شكل سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران في السنوات الأخيرة، بأن إيران ممثلة سيئة، لكنها ستكون أسوأ بكثير إذا حصلت على أسلحة نووية. في تموز/ يوليو، قال بايدن “الشيء الوحيد الأسوأ من إيران الحالية هو إيران مسلحة نوويًا”. والدافع وراء هذا القلق هو الخطر الحقيقي المتمثل في أن استمرار البرنامج النووي الإيراني، إذا تُرك دون رادع أو قيود وبلا رقابة، قد يستفز إسرائيل متسببًا في اندلاع حرب إقليمية ستورط الولايات المتحدة ودول الخليج. وأقل ما تحتاجه إدارة بايدن الآن، خاصة وسط الحرب الروسية في أوكرانيا، هو تصعيد في الشرق الأوسط قد يتسبب في انهيار الأسواق المالية وارتفاع أسعار النفط.
من الواضح أن بايدن مستعد لتحمل التوترات السياسية المحلية لاستباق ما تخشى إدارته أن يكون صراعًا ساخنًا وأكثر خطورة في منطقة غير مستقرة. تضمر إيران النوايا السيئة ومن غير المرجح أن يُرى الاتفاق النووي الإيراني الجديد نصرًا في تاريخ الدبلوماسية الأمريكية. ولكن لإعادة صياغة كلمات رئيس وزراء المملكة المتحدة السابق ونستون تشرشل، فإن خطة العمل الشاملة المشتركة هي الخيار الأسوأ، إلا عند مقارنتها بجميع الخيارات الأخرى.
يطالب البعض بفرض مزيد من العقوبات، ويؤكد آخرون أن إعداد خيار عسكري أمريكي موثوق هو الحل الوحيد لإقناع إيران بالجلوس على طاولة المفاوضات أو ردعها عن المضي قدمًا في تطوير سلاح نووي. ولا يزال البعض متفائلين بأن إيران تكره المخاطرة ولن تجازف بتكثيف برنامجها النووي أو تتعدى الخطوط الحمراء مع إسرائيل أو أمريكا بتوجيه ضربة عسكرية. وهناك أيضًا من يعتقد أن سياسة موجهة لتغيير النظام الإيراني ليصبح أكثر اعتدالًا سيكون الحل الوحيد كي تنهي إيران سعيها للتسليح النووي وأنشطتها المزعزعة للاستقرار ودعمها للإرهاب.
لكن أيًا من هذه الخيارات لا يوفر حلاً للمشكلة التي تواجه إدارة بايدن الآن التي تتمثل في كيفية كبح وتقييد ومراقبة برنامج إيران النووي ومنع احتمال حدوث انفجار إقليمي. ونظرًا للمأزق الذي تشهده المفاوضات، قد لا تكون العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة ممكنة، ولكن إذا وُجدت فرصة حقيقية للتوصل إلى اتفاق، فيجب على الحكومة الأمريكية السعي وراءها.
من شأن الاتفاقية التي يمكن التحقق من مصداقيتها منع إيران من أن تصبح دولة نووية حقيقية لمدة ثماني سنوات على الأقل وستوفر الوقت والمساحة لتطوير خيارات بديلة أو ربما لتمديد الاتفاق، للتركيز على التحقق من الأنشطة الإقليمية لإيران، وخلق ردع عسكري كافٍ لثني إيران عن تكثيف برنامجها النووي بمجرد انتهاء صلاحية البنود الرئيسية. قد لا يبدو هذا الخيار جميلًا أو مثاليًا ولكن قد يكون أفضل ما هو متاح، حيث تكون الخيارات عادةً بين سيئ وأسوأ في عالم صناعة السياسة القاسي.
المصدر: فورين بوليسي