في السنوات القليلة الماضية ظهر تزايد في الوعي بالصحة النفسية للطفل وسلامة الأطفال العقلية وسلوكهم في المدرسة، فتستثمر الدول المتقدمة في أطفالها وتُسخر كل الإمكانات للحفاظ على سلامة الطفل النفسية والعقلية، وترتكز في ذلك على مبدأ أن سلامة الصحة العقلية للطفل تعني أداءً أكاديميًا أفضل ونجاحًا وظيفيًا لاحقًا ودخلًا اقتصاديًا وهناءً معاشيًا أفضل.
تشير الدراسات لهذه المجتمعات أن الزيادة في التحصيل العلمي يصاحبها زيادة في الأعمار بين 4-8 سنوات، على عكس الأشخاص ذوي التحصيل العلمي المنخفض الذين تكون معدلات أعمارهم أقصر وشيخوختهم مليئة بأمراض وعلل أكثر.
أما الركيزة الثانية للاهتمام بالصحة العقلية هي التوقيت، فقد أشارت الدراسات أن تشخيص الطفل باعتلال نفسي قد يتطلب قرابة 10 سنوات، ويرتبط التشخيص المبكر للاعتلال النفسي بنسب تعافي تزيد على 70% وسهولة العلاج بالمقارنة بتأخر التشخيص وما يصاحبه من صعوبة في العلاج.
الركيزة الثالثة هي شيوع المشكلة، خصوصًا بعد جائحة كورونا، فقد ظهرت زيادة مقلقة في عدد الأطفال والمراهقين الذين يعانون من مشاكل الصحة العقلية، ففي بريطانيا مثلًا تشير الأرقام إلى أن طفلًا من أصل 8 أطفال لديهم أعراض اضطراب عقلي قابل للتشخيص، وفي الولايات المتحدة والعالم ترتفع هذه النسبة لتصل إلى 1 لكل 5 أطفال بحسب منظمة الصحة who، وأن الانتحار هو السبب الثاني للوفاة عالميًا بين فئة الطلاب.
نحاول في هذا المقال إيضاح السلوكيات المرتبطة باحتمالية وجود اضطراب عقلي، ونذكر الاضطرابات العقلية الشائعة عند الأطفال والمراهقين ودور البيت والمؤسسة التربوية في الحفاظ على سلامة الطفل النفسية.
العلامات المرتبطة بالأمراض العقلية
هناك سلوكيات تظهر على الأطفال والمراهقين عند وجود اضطراب عقلي تعمل كمنبه واضح وعلم أحمر لا يمكن للأهل في المنزل أو كادر المدرسة الذين هم في احتكاك مباشر مع الطالب تخطيه بأي حال من الأحوال مثل العُزلة والانسحاب والشعور بالحزن الشديد بشكل متواصل لأكثر من أسبوعين، وتقلب الحالة المزاجية والمبالغة في التعبير عن المشاعر سواء مشاعر الخوف أم الغضب أم الحزن أم النشوة الشديدة دون وجود ما يستدعي لذلك، والتغيير الجذري في السلوك أو الشخصية وصعوبة التركيز والتشتت باستمرار أو عدم الاستجابة واضطراب الأكل والوزن والميل لإيذاء النفس (الجرح والحرق والأفكار الانتحارية أو التخطيط لذلك)، والهلع والسلوك العنيف ومحاولة إيذاء الآخرين واستخدام المخدرات أو الكحول.
اضطرابات الصحة العقلية الشائعة لدى الأطفال والمراهقين
تعتبر اضطرابات القلق الأكثر شيوعًا (بما في ذلك الوسواس القهري واضطرابات الهلع والرهاب)، تليها بالتتابع الاضطرابات السلوكية: اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط (ADHD) واضطراب المعارض المتخدي (ODD) واضطرابات الأكل (فقدان الشهية والشره المرضي والشراهة عند الأكل) واضطرابات المزاج والشخصية (مثل الاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب والاضطراب العاطفي الموسمي واضطراب الشخصية المعادية للمجتمع واضطراب الشخصية الحدية) واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) واضطرابات التواصل والتفاعل مع الآخرين (المتداخلة مع المصابين بطيف التوحد) والاضطرابات الذهانية المسببة للهلاوس والأوهام.
العوامل المساعدة على ظهور الاضطرابات العقلية
هناك بعض الظروف المحيطة بالطفل التي قد تكون عاملًا مسببًا أو مساعدًا لظهور الاضطراب العقلي مثل ضغوطات الدراسة والسعي لأداء أكاديمي عالٍ وتصعيب المناهج الدراسية واختبارات الشهادة الثانوية بالأخص، فبحسب دراسات استقصائية، فإن الميول الانتحارية وإيذاء النفس ونوبات الهلع واضطرابات الأكل تزداد عند طلاب الثانوية بسبب إجهاد الدراسة الذي يتعرضون له.
تلي ضغوط الدراسة، الأحداث التي يصاحبها ألم عاطفي مثل انفصال الوالدين ووفاة شخص عزيز والانتقال المتكرر وتغيير المنزل والبيئة وسفر أحد الوالدين للعمل أو ولادة طفل جديد في العائلة، فهذا الألم العاطفي يشكل ربما نواة لاضطرابات عقلية لاحقة إذا ما تم أخذه بنظر الاعتبار.
أما منصات التواصل الاجتماعي، فتضع المراهقين في مقارنات يومية وبدورها تجعلهم يعيشون أحاسيس عدم الملاءمة وتؤثر على مهارات التواصل البشري وتقلل التفاعل مع المحيط والأصدقاء.
دور المدرسة في تعزيز الصحة النفسية
تعتبر المدرسة المكان الذي يُبنى فيه جزء كبير من شخصيات الأطفال والمساحة التي تساعدهم على التطور الاجتماعي والأكاديمي، كما تكون المدرسة في الغالب المكان الأول الذي يمكن ملاحظة أول أعراض الاضطرابات العقلية به، فكلما زاد عدد المعلمين المُدربين والمثقفين بشكل جيد عن الصحة العقلية، زادت فرصة التدخل لعلاج الطفل بوقت أبكر وتعافٍ أفضل.
كما أن المعلم ذا المعرفة بالصحة العقلية يكون ذا قدرة أكبر على خلق الحديث مع الطلاب والاستماع لهم، إذ تشير الدراسات إلى أن موظفي المدارس المدربين بشكل مناسب (المعلمين ومساعدي التدريس والممرضين) يمكنهم تحقيق نتائج مماثلة لنتائج المعالجين النفسيين.
أشارت الدراسات إلى أن الطلاب الذين يتناولون طعامًا صحيًا أقل عرضة للاكتئاب أو القلق
يمكن أن تتبنى المدارس قسمًا من الإستراتيجيات الداعمة لصحة عقلية وسلامة أفضل، تبدأ الخطوة الأولى بضرورة التوعية بالاضطرابات العقلية وعلامات هذه الاضطرابات وضرورة دمج منهج دراسي خاص بالصحة العقلية، ومع إدخال هذه المناهج حيز التعليم الأكاديمي يصبح من السهل تقبل الاضطرابات العقلية والتعاطي معها بدلًا من كونها وصمة عار على صاحبها وعائلته.
إستراتيجيات تعزيز الثقة بالنفس: احترام الذات ودعم القرارات التي يأخذونها وتدريبهم على مهارات حل المشكلات وتشجيع المثابرة من خلال الثناء على الجهود وليس فقط النجاح.
إستراتيجيات تخفيف القلق مثل: ممارسة الأنشطة الرياضية (التي تعطي الطالب شعور ثقة بالنفس عالٍ، كما يفرز الجسم عند ممارسة النشاط البدني الإندورفين المسؤول عن الإحساس بالسعادة)، والفنون المعبرة عن الذات والتطوع في الأنشطة الاجتماعية وترسيخ مفهوم التعاون بدلًا من التنافس الذي يخلق حالة رضا عن النفس.
ضمان وصول الطالب إلى شخص يسمعه ويكون جاهزًا لتقديم العون، ربما سياسة الباب المفتوح open door policy التي تخلق نوعًا من الدعم والراحة للطالب بوجود من يسمعه عند حاجته للحديث أو للمساعدة.
الاهتمام بالأكل الصحي، حيث أشارت الدراسات أن الطلاب الذين يتناولون طعامًا صحيًا (يحتوي على المزيد من الفواكه والخضراوات) أقل عرضة للاكتئاب أو القلق، وأظهرت دراسة أخرى أن استبدال المشروبات المليئة بالسكريات بالماء يحسن شعور الأطفال بالرفاهية، كما تؤثر نوعية الأغذية المقدمة في المدرسة على مستوى التركيز والمزاج بشكل عام.
دور العائلة والوالدين في صحة الأطفال العقلية
تنعكس صحة الطفل العقلية على نوعية الحياة بشكل إيجابي وعلى بيئة المنزل والمدرسة والمجتمع ككل.
يعتبر المنزل والمدرسة حلقات الدعم الأولى التي تحيط بالطفل، وكلما كانت هذه الحلقات الداعمة متينة، أنتجت أشخاصًا مستقلين يعيشون حياة صحية ناجحة، كما يرتبط ضعف الصحة العقلية لدى الوالدين بضعف الصحة العقلية والبدنية عند الأطفال، ففي دراسة أجرتها المجلة الأمريكية للطب النفسي، تم تتبع أطفال الآباء المصابين بالاكتئاب على مدى 20 عامًا، ووجدوا أن الأطفال كانوا أكثر عرضة بثلاث مرات للإصابة باضطرابات الصحة العقلية وتعاطي المخدرات من الأطفال الذين لم يكن آباؤهم مكتئبين.
تنشئة طفل معافى من العلل والاضطرابات العقلية تتطلب الكثير من الحب والكثير من الملازمة والحضور الفاعل للوالدين وحضور الفكر والقلب
كما تؤثر أنماط التربية التي يتبعها الأبوان على صحة الطفل العقلية، مثلًا تميل بعض العوائل إلى اتباع نظام سلطوي في تربية الأبناء، وهناك قوانين صارمة يجب الالتزام بها، هذا النمط من العوائل يعاني أطفالهم من ضعف الثقة بالنفس أو الاكتئاب في أحيان أخرى، يقابل ذلك العوائل التي تتبع نهجًا ديمقراطيًا في التربية، يتيح التواصل بشكل سلس بين الوالدين والأطفال، توفر مثل هذه العوائل بيئة نمو سليمة للطفل.
يمكن للوالدين اتباع بعض الخطوات التي من شأنها المحافظة على سلامة الطفل العقلية، منها إظهار الحب للطفل: الحب غير المشروط، وتشجيع الطفل والثناء على سماته لا على صفات جسده، ومد جسور التواصل مع الطفل والاستماع لما يريد قوله والاهتمام بتفاصيل ما يحدث في حياتهم، كل ذلك يعطي الطفل إحساسًا بأهميته، وأن الوالدين مهتمون بهم، وخلق القدوة الحسنة لأن الأطفال بالفطرة يقلدون ما يرون.
أخيرًا، تنشئة طفل معافى من العلل والاضطرابات العقلية تتطلب الكثير من الحب والكثير من الملازمة والحضور الفاعل للوالدين: حضور الفكر والقلب قبل حضور الجسد، كما تتطلب مؤسسات تربوية تضع سلامة الطفل وصحة عقله جل اهتمامها، وتتطلب حكومات تؤمن بأن بناء المجتمعات المتحضرة يبدأ من طفل ينعم بطفولة سعيدة، وأن طفل اليوم المعافى في بدنه وعقله هو ثروة الغد وضياء مستقبله.