يواصل الدولار إحكام سيطرته على العالم، فقد حقق ارتفاعات قياسية منذ عقدَين من الزمن، بيد أن العملة الروسية تتحدى هذه السطوة الجنونية للعملة الأمريكية، التي دخلت في مرحلة استراحة مؤقتة على ما يبدو، بينما شقَّ الروبل طريقه نحو سادس ارتفاع متعاقب، في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية.
القوة المالية من أهم جوانب القوة الناعمة، ما يعني أنَّ تنحّي الدولار عن مركزه، باعتباره العملة الدولية المهيمنة خلال الفترة الأطول التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية، سيؤدّي حتمًا إلى قلب النظام العالمي، في وقت قد يوشك النظام النقدي الدولي على أن يشهد تغيرات حاسمة، نتيجة تصاعد التنافس الاقتصادي والجيوسياسي والتكنولوجي.
كبوة عابرة
الواقع هو أن الحرب في أوكرانيا، المستمرَّة منذ فبراير/ شباط 2022، ما هي إلا نتاج للصراع الجيوسياسي بين روسيا بدعم من الصين والغرب، وهو أول صراع حقيقي من هذا النوع في القرن الواحد والعشرين.
خلال الأسابيع الأولى عقب اندلاع الحرب، التي أعلنتها روسيا “عملية عسكرية لحماية الدونباس”، تعرّض الروبل لكبوة خطيرة لكن اتضح أنها عابرة، بعد أن هبطت العملة الروسية إلى أدنى مستوياتها، أي أن سعر الدولار الواحد تعدّى حينها 100 روبل، لكن سرعان ما استعادت هذه الأخيرة تماسكها، بيد أن التعافي لم يعقبه انتكاس إلى حدود اليوم عكس ما كان متوقعًا، رغم الأداء الجيد للروبل إلا أنه لم يكن سوى نتاج لإجراءات مصطنعة، برمجتها السلطات المالية التي لعبت دورًا أفضل من جنرالات الجيش الروسي.
حاليًّا لا يستطيع أن يتعدى الدولار عتبة 60 روبلًا، وقد استقرَّ الأمر على هذا الحال بعد شهر من اندلاع الحرب، فيما يرى مراقبون اقتصاديون أن الروبل سوف يتراجع إلى القيمة التي كان عليها قبل الحرب، أي بين 72 و78 مقابل الدولار الواحد، في أواخر الخريف أو مع بداية الشتاء القادم كأقصى تقدير.
تزامن انكماش الروبل مع اجتياح شبه جزيرة القرم وضمّها إلى الأراضي الروسية عام 2014، علمًا أن الغرب وحلفاءه لا يعترفان بالسيادة الروسية على القرم، بل حتى أن فلاديمير بوتين راهن من خلال غزو أوكرانيا على انتزاع هذا الاعتراف، لكن بلاده كانت مضطرة لمواجهة عقوبات اقتصادية قاسية.
قبل أزمة القرم كان سعر الروبل يناهز الـ 30 مقابل الدولار، إلا أنه واصل انحداره طيلة 8 سنوات، لكن خلال الأشهر الأخيرة بدأ يقوى بعناد، وصل إلى أكبر نجاح له في 29 يونيو/ حزيران الماضي، حيث نزل سعر الدولار إلى 50 روبلًا، وفي اليوم نفسه قال وزير المالية أنطون سيلوانوف إن وزارته مستعدة لإجراء تدخلات في النقد الأجنبي، لدعم الروبل وشراء عملات الدول الصديقة من عائدات الصادرات.
محدودية خطط التضييق
خلال الأسابيع الأولى من اندلاع الحرب، قرر البنك المركزي حظر بيع الروبل وشراء العملات الأجنبية في البنوك، ورغم نشاط السوق السوداء للعملات خلال تلك الفترة إلا أن تأثيرها لا يذكَر، بل على العكس ازداد الطلب على الروبل، خصوصًا بعدما منعت الحكومة مواطنيها والأجانب على حد سواء من تحويل الأموال إلى الخارج.
علاوة على دعم السلطات المالية، انتعش الروبل واسترجع تماسكه نتيجة محدودية نجاح خطط التضييق على صادرات الطاقة الروسية من قبل الغرب، مع زيادة الإقبال على النفط الروسي من قبل دول جنوب شرق آسيا، خاصة الصين والهند، كما استفادت العملة الروسية من صعود أسعار النفط والغاز في الأسواق الدولية، وهو ما وفّر سيولة ضخمة للاقتصاد الروسي، فإيرادات روسيا من الطاقة تمثّل المورد الأبرز للنقد الأجنبي، حيث تتجاوز 100 مليار دولار سنويًّا.
كما تخطط روسيا لشراء المزيد من عملات الدول الصديقة، بما فيها اليوان الصيني، من أجل تنويع احتياطاتها من النقد الأجنبي، والتحرر من هيمنة الدولار، خاصة بعدما أدّت العقوبات فور فرضها إلى تجميد نصف احتياطات الدولة، أي حوالي 300 مليار دولار من أصل 640 مليار دولار من احتياطات روسيا من الذهب والعملات الأجنبية.
كما استجابت الصين لمطالب روسيا بالمساندة لتخفيف آثار العقوبات، وقد عززت الدولتان التعاون بينهما في الآونة الأخيرة، في الوقت الذي تعرضت فيه كل منهما لضغوط غربية قوية بسبب حقوق الإنسان وعدد من القضايا الأخرى.
التنبؤات غير مجدية
في 21 سبتمبر/ أيلول الماضي، شهد الروبل انخفاضًا في قيمته أمام الدولار مع بداية التداول، على خلفية إعلان التعبئة الجزئية في الاتحاد الروسي، لكن سرعان ما شهد السوق تحولًا لصالح الروبل.
في خطوة تصعيدية، أعلنَ بوتين تعبئة جزئية لجنود الاحتياط في الجيش الروسي، سيتمّ خلالها استدعاء فوري لـ 300 ألف جندي من قوات الاحتياط، الذين خدموا في السابق بالجيش ولديهم خبرة قتالية، حيث ستكون مهمتهم تعزيز خط الجبهة في أوكرانيا الذي يتجاوز طوله حاليًّا 1000 كيلومتر.
من جهة أخرى، ترتبط هذه التقلُّبات في سعر صرف الروبل مقابل الدولار حاليًّا بقرب ذروة الفترة الضريبية، حيث يقوم المصدّرون ببيع العملات الأجنبية بنشاط لتسديد مدفوعات الروبل.
ما زال الروس يعتبرون الدولار هي العملة المثالية للاحتفاظ بالمدخرات، حتى لو تحوّل البعض إلى شراء اليوان، لكن بيع كل شيء من أجل الادّخار بالعملة الصينية فقط هو أمر لا يفكر فيه سوى قلّة من الناس، لهذا تتجه الأغلبية إلى تقسيم المدخرات بين عملتَين، كما يؤكد الخبراء على جاذبية اليوان، لأن الصين هي الدولة الوحيدة التي يبقى فيها التضخم عند معدلات قريبة من الصفر، كما أن الأسعار لا ترتفع.
من الصعب التنبؤ بسعر الدولار مقابل الروبل مستقبلًا، لأن أسعار الصرف في روسيا خاضعة بالأساس لميزان العرض والطلب بين المستوردين والمصدّرين، وليس من الواضح في أي اتجاه تتأرجح كفتا الميزان، لأن آليات السوق في روسيا متحكَّم فيها حاليًّا من قِبل الدولة بشكل كامل، ففي السابق كانت الشركات الأجنبية تساهم في تشكيل سعر صرف الروبل، أما الآن فهي غائبة عن بورصة موسكو، وبقيَ المستوردون والمصدرون الروس فقط.