يقال لنا كثيرًا إن أول صوت نسمعه هو ضربات قلب أمنا عندما نكون في رحمها، وعليه، فإن العلاقة مع أمهاتنا أساسية وتأسيسية، لها تأثير عميق على العديد من مجالات حياتنا، بما في ذلك إحساسنا بمن نحن، ولأن أمهاتنا بشر غير كاملين، ثمة عيوب كانت أسبابها آلام لم يجدن لها دواء، حتى تفاقمت وتحولت إلى جرح غائر يحملنه داخلهن.
جرح الأم هو ألم موروث يتناقل عبر اللاوعي الجمعي، من الأم إلى الابنة ومن ثم الحفيدة، يدور في دوائر مغلقة تتناقلها النساء عبر الأجيال في كنف المجتمعات الذكورية، وهو الألم الذي ينمو في المرأة عند محاولتها اكتشاف وفهم إمكانياتها في مجتمع لا يفسح لها المجال لذلك، فيجبرها بدوره على تبنّي آليات دفاعية غير سوية متوارَثة عبر أجيال النساء لمعالجة هذا الألم، الذي يعكس التحديات التي تواجهها الأمهات والنساء في طريقهن إلى النمو.
مصطلح “جرح الأم” ليس متداولًا بشكل كبير في عالمنا العربي، لكنه عامل مؤثر في تفاعلاتك وعلاقتك بنفسك وبالآخرين، وكثيرًا ما يكون سببًا بشكل أو بآخر في الأنماط السلبية أو غير الصحية في تعاملك مع المحيطين بك.
تأثير السلطة الأبوية على جرح الأم
إن فهم جرح الأم ينطوي على فهم أن الأمهات يقعن في مجتمع ذكوري يضطهد النساء ويتأثرن به، وتكمن نشأة جرح الأم في عدم وجود مكان آمن للأمهات لتمرير غضبهن والتحدُّث عن آلامهن.
في هذا الخصوص، توضّح الباحثة والمحاضرة في العلوم الاجتماعية والنفسية السريرية ودراسات المرأة، دعاء عبد الحميد، أن النظام الأبوي في مجتمعنا العربي قائم على إخضاع المرأة بالدرجة الأولى، واستبدادها وجعلها في موقع ضعيف، حارمًا إياها من اتخاذ قراراتها المصيرية بكامل حريتها أو وفق حقوقها.
وتجيب المختصة عن سؤالنا: كيف تؤثر السلطة الأبوية على مشاعر المرأة؟ بالقول إن السلطة القائمة على هيمنة الرجل تخلق حالة من القهر لدى النساء، تلك المشاعر تؤثر على التكوين النفسي للمرأة وتولِّد لديها مشاعر نفسية مرتبطة بالنقص، هذه التفاعلات تتحول مع شدة القمع والضغط إلى عقدة نقص، وانعدام الكفاءة الاجتماعية والاقتصادية للمرأة، وانعدام القيمة الذاتية لها.
وتضيف خلال حوارها لـ”نون بوست”: “كما يحوّل النظام الأبوي النساء إلى كائن سلبي يستسلم للهيمنة، فمثلًا تقبل التعرض للضرب من قبل الزوج وتجد له مبررًا وتتبنّى كل أفكار النظام وتطبّقه وتقتنع به، نتيجة تراكمات تجعلها تقبل بأحكام الرجل الظالم، وتتقبّل أن تكون صورة ضعيفة خاضعة تقبل تعرض ابنتها للضرب من زوجها طالما هي تعرضت لذلك”.
تتفق المقالات العلمية والدراسات النفسية على أن جرح الأم هو الصدمة الثقافية التي تحملها الأم ويرثها أطفالها.
وتلفت المحاضرة في العلوم الاجتماعية والنفسية السريرية، إلى أن تلك الثقافة تدفعهنّ للتقليل من احتياجاتهن الخاصة لخدمة الآخرين، أو يكافحن باستمرار لبناء واجهة الكمال الزائف (الزوج المثالي، الأم المثالية، المرأة المثالية في المجتمع).
وفي هذا السياق، تقول عالمة النفس نادين ماكالوسو، إن “جرح الأم يشمل آليات المواجهة غير الفعّالة للمرأة: التضحية باحتياجاتها، وإنكار قوتها وإمكاناتها، والتخلي عن أصالتها، والتي تصبح سمات مختلّة للغاية في مرحلة البلوغ”.
جرح الأم وتناقُله عبر الأجيال
في تجربة حية، تقول أسيل إنها كانت تشعر دائمًا بأن خطبًا ما قد تعرّضت له والدتها، جعلها تقبل بالقليل وترى الحقوق المستحقة للإنسان منّة من المجتمع والأب أو الزوج، “وأتساءل لما كانت تصمت أمام تعرضها للكمّ والشتم من قبل والدي لسبب تافه، كإضافة معلقة سكّر زيادة لكأس من الشاي؟ تردِّد على مسامعنا دائمًا ما يشير إلى طفولتها الصعبة من حرمانها الحصول على التعليم، وكيف أُجبرت على العمل مع والدها والاستيقاظ فجرًا لإعداد وجبات الفلافل وبيعها، بينما التحق أشقاؤها الثلاثة بأرقى الجامعات”.
وتضيف الشابة العشرينية لـ”نون بوست”: أدركتُ من خلال دراستي الجامعية أن أمي كانت تحلم بحياة طبيعية، ولكنها كانت تعيش في محيط يعتبرها عارًا وعالة عليه، بعدها أصبحتُ أسيرة لصورة والدتي ربما من جانب الامتنان لتضحيتها لأجلنا أو شفقة، أحرصُ على عدم جرح مشاعرها وأتبنّى مواقفها “اللامبالية” تجاه الكثير من العلاقات والمتطلبات الحياتية”.
ويتشكّل هذا الجرح ممّا تشهده الفتيات من أمهاتهن في سنوات تكوينهن، فغالبًا ما يتم تعليم النساء إعطاء الأولوية للعلاقات المجتمعية قبل أي شيء آخر، ورؤية والدتهن تتكيف مع هذه الضغوط، عبر ما يُسمّى علميًّا باللاوعي الجمعي، فهنّ أيضًا يتعلمن الاعتقاد بأن الوصول إلى قوتهن سيضرُّ بطريقةٍ ما علاقتهن بالآخرين، ويخلق هذا الاعتقاد قيودًا نفسية لمن تحاول منهن الوصول إلى طموحاتها.
وتتفق المقالات العلمية والدراسات النفسية، على أن جرح الأم هو الصدمة الثقافية التي تحملها الأم – جنبًا إلى جنب مع أي آليات تأقلم مضطربة تمَّ استخدامها لمعالجة هذا الألم – ويرثها أطفالها (حيث تتحمّل الفتيات عمومًا العبء الأكبر من هذا الألم)، وإذا لم يلتئم الجرح، يمكن أن تنتقل التصورات السلبية وأنماط النظام الأبوي إلى السلوك الأمومي، ما يسبب ألمًا جديدًا مع كل جيل.
ألم موروث ومتفاقم
تحاول الأم إثبات هويتها وجدارتها من خلال الطفل الذي يُعتبر امتدادًا لكيانها،، وقد توجِّه الأم غضبها اللاواعي على الأطفال، بينما في الحقيقة هي غاضبة على المجتمع الذي طلب منها بذل التضحيات والتخلي عن الأحلام من أجل تربية هؤلاء الأطفال.
يقول الطبيب النفسي رياض البرعي: “إن جرح الأم لا يقتصر على الناحية النفسية فقط، بل قد يتعدى نظرة الأم وبدوره نظرة أبنائها، وتحديدًا الإناث، إلى أجسامهن وشخصياتهن، حتى أفعالهن وتصرفاتهن، وهذه الصورة نقلتها الأم لابنتها كانعكاس لها، فتؤمن الفتاة بأن هذه هي شخصيتها الحقيقية، كأن تُقرر الأم عن ابنتها كيف يجب أن تكون”.
ويكمل البرعي: “حينها تصبح الفتاة تتعامل مع الصورة التي رسمتها الأم المجروحة لها كأنها هي تمامًا، متجاهلةً أن هذه الصورة من الممكن أن تكون غير دقيقة أو لا تحتمل الصواب دائمًا، وتكون الابنة هدفًا لهذا الألم لأنها تذكّر الأم بشكلٍ لا واعي بصباها وطموحها الذي طُمس عندما قررت وهب نفسها للأمومة، فتوقظ بداخلها ألمًا عميقًا يظهر على شكل غضب وتحكُّم”.
وأضاف الطبيب البرعي لـ”نون بوست”، أن اختلاف طبيعة الحياة بين الوقت الذي عاشت فيه الوالدة والانفتاح الذي تعاصره الابنة، من ازدياد في الحريات الفردية ودخول المرأة إلى مجالات عمل جديدة، كما ارتفاع سنّ الزواج وامكانية التأخر في الإنجاب، والاكتفاء الذاتي، واختيار الشريك، وازدياد ثقة المرأة بنفسها ولو بنسب متفاوتة؛ كلها أسباب قد تُخرِج العلاقة بين الأم وابنتها من سياقها الصحّي.
ويصفُ أنه في مراحل متقدمة من عمر الفتاة، غالبًا في سن النضج، تبدأ بالشعور في اختلال نفسي واضح، والانتباه لعلامات توحي بعدم استقرارها نفسيًّا، وغالبًا ما تظهر هذه العلامات على هيئة عدم القدرة على التعامل مع النساء في محيطها أو حتى الرجال بصورة طبيعية.
ويمكن القول عن هذا إنه ناتج أساسي في اختلال طاقة الأنوثة، جرّاء جرح قديم تمَّ تناقله بطريقة غير واعية من الأم لابنتها، وانعكاس لتصرفات خاطئة تقوم بها الأم مع ابنتها دون مراعاة حاجتها النفسية للعطف والحنان والمشاعر الطبيعية، وبالتالي تتحول لشخصية انطوائية تسيء فهم ذاتها وحتى تقديرها، فتميل في محطات حياتها لاحقًا إلى التكيُّف، والذي يعدّ أول الخطوات في قتل إبداعها وتحجيم طاقتها.
ينصَح بالمشاركة ضمن الشبكات الاجتماعية الداعمة التي تُسمّى “المجموعات الإرشادية النفسية”، والتي تتكون من مجموعة من النساء يتمّ بها مناقشة خطوات الطفولة معًا.
من جانب آخر، ترى الباحثة والأكاديمية دعاء عبد الحميد أنه: “طالما هناك قهر للمرأة، فهناك قهر للطفل، لكونه امتدادًا لهذه الأم والحلقة الأضعف ضمن النظام الأبوي، الاختزالات السلبية للكبت والاستلاب العقائدي بحكم السلطة الأبوية يأخذان أشكالًا سلبية، منها المرأة العاجزة وغير القادرة على تحمُّل مسؤولية بيتها، والتي تعتمد على الإعالة والتبعية الكلّية للرجل، لذلك نرى نماذج كثيرة لأمهات يخضعن كل متطلبات بناتهن لسلطة الأب، رغم حاجة الابنة لوجود والدتها، وتصيغ المبررات عند تعرُّض أبنائها للقمع أو الاعتداء”.
كيف يمكن تجاوز جرح الأمومة؟
تعلِّق دعاء عبد الحميد بالقول إن جرح الأم آلام نفسية راسخة في النفس، وليس من السهل حلّها بسهولة وسرعة، وأهم الحلول هو الإرشاد والعلاج النفسي الكلامي، من خلال التوجُّه إلى المرشد النفسي ثم الأسري، حتى تكتسب وعيًا وتثقيفًا نفسيَّين فيما يتعلق بشخصيتها كاملة، وتحرير المرأة من مكبوتات اللاشعور، مع الاستعانة بتقنيات نفسية واستراتيجيات معيّنة، تعافي شخصيتها من كل الأمور السلبية، ومنحها تكوين نفسي جديد، يشمل تعريف الذات وتحرير الأفكار وتقبُّل وبناء الذات.
وتنصح الباحثة بأهمية وجود بيئة وشبكة داعمة أيًّا كانت، سواء صديقة أم أخت زوج أم قريبة، تحاول اللجوء إليها بحيث لا تراكم جرح الأم بداخلها، وتحاول تخفيف الإرهاق والضغط النفسي الذي تمرُّ به، فبالتالي يبقى الجرح سطحيًّا لا ينغرس بداخلها، ومن الممكن أن تكون الشبكة الداعمة بيئة عمل جديدة داعمة لها تشاركهم مشاريعهم وتكتشف نفسها بها.
أما التوصية الأخيرة، تتمثل بالمشاركة ضمن الشبكات الاجتماعية الداعمة التي تُسمّى “المجموعات الإرشادية النفسية”، التي تتكون من مجموعة من النساء يتمّ بها مناقشة خطوات الطفولة معًا، هي أشبه بورشات استكشاف ووعي ذاتي، من خلالها يتمّ مشاركة الجروح وسرد تجارب الغير لكي تتجاوز هذه الأزمة.
هل تستطيع الابنة تجاوز ألم الأم؟
قد نقع في خلط بين أن نكون مخلصين لأمهاتنا وأن نكون مخلصين لجروحهن، ما يجعلنا مساهمين في استمرارية تعرضنا للقمع والكبت.
قد تجدين نفسك تريدين إلقاء اللوم على والدتك، لكن أخصائية علم النفس الإكلينيكي جينيفر وولكين، توصي بمحاولة مشاهدة تلك المشاعر المعقدة بتعاطف، كما تذكر أنه من المفيد تحليل أصول الجرح -والتي غالبًا ما تكون ذات طبيعة منهجية ومجتمعية- للتعرُّف إلى الأنماط لكسر الحلقة.
وتقول أخصائية علم النفس الإكلينيكي إن تجنَّبنا الاعتراف الكامل بالأثر الذي سبّبه ألم أمهاتنا لنا، سنبقى بعيدين عن النضج العاطفي، لذلك إن الولوج إلى قوتنا الكامنة كاملة يتطّلب إعادة النظر في علاقتنا مع أمهاتنا والتحلي بالشجاعة الكافية، لفصل فردانيتنا عنها بكل ما فيها من قيم ومبادئ وأفكار ومعتقدات، كما يجب عليكِ إنشاء علاقة جديدة مع نفسك، علاقة لا تستند إلى ما يتوقعه المجتمع من النساء أو ما تتوقعه الوالدة من ابنتها.
يتطلب منّا إعطاء أنفسنا الحق بأن نشعر بالحداد والحزن، لأننا جُبرنا على رؤية الآلام التي خاضتها أمهاتنا، وبالمقابل منح أنفسنا الحق بمعالجة آلامنا الخاصة التي سبّبتها لنا آلامهنّ، رغم صعوبة هذه المعالجة، إلّا أنها المدخل الوحيد للحرية الحقيقية الشفافة.