تقود الجزائر منذ بداية هذا العام اتصالات واسعة مع مختلف الفصائل الفلسطينية لتحقيق مصالحة وطنية بينها، قبل انعقاد القمة المقبلة للجامعة العربية المقررة مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وذلك للتأكيد على موقفها الداعم لقضية العرب الأولى، ولتكون رسالة واضحة موجّهة لتيار التطبيع مع الاحتلال الصهيوني، فهل تملكُ الجزائر خيوط تحقيق هذه المصالحة رغم الخلافات والتدخلات الكثيرة التي تصبُّ في استمرار الشقاق الفلسطيني؟
حيث قبل شهر وبضعة أيام من انعقاد القمة العربية في الجزائر، تسرّع الجزائر جهودها لتحقيق الوفاق الفلسطيني في اجتماع سيُعقد مطلع شهر أكتوبر/ تشرين الأول القادم، ليكون تمهيدًا للقمة العربية التي ستحاول فيها الجزائر إعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة القضايا العربية.
إصرار
لا تعدّ المساعي الجزائرية التي بُعثت هذا الشهر جديدة، ففي 6 ديسمبر/ كانون الأول الماضي أعلنَ الرئيس تبون في ندوة صحفية مع نظيره الفلسطيني محمود عباس، الذي زار الجزائر يومها، أن بلاده تعتزم استضافة مؤتمر “جامع” للفصائل الفلسطينية “قريبًا”، مبيّنًا أن هذه المبادرة جاءت بعد أخذ رأي الرئيس الفلسطيني محمود عباس. وقال تبون وقتها إن الجزائر تتمسّك بقيام الدولة الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشريف في “مسار ابتدأته، ولا يزال يمثّل مرجعًا أساسيًّا وهدفًا جوهريًّا بالنسبة لنا”.
ولقيت المبادرة الجزائرية تجاوبًا من مختلف الفصائل الفلسطينية التي أرسلت وفودًا عنها إلى الجزائر، واجتمعوا مع مسؤولين في الدولة، وأكّدوا تفاعلهم مع هذه الخطوة الجزائرية الهادفة إلى رأب الصدع الفلسطيني.
وفي 5 يوليو/ تموز الماضي في احتفالات الذكرى الستين لاستقلال الجزائر، عقد الرئيس تبون لقاءً جمع الرئيس الفلسطيني محمود عباس بوفد من حركة حماس، يقوده رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية، وهو اللقاء الذي شارك فيه أيضًا كل من نائب رئيس الوزراء الفلسطيني زياد عمر، ورئيس جهاز المخابرات الفلسطيني ماجد فرج، وقاضي قضاة فلسطين محمد الهباش، والقيادي في حركة حماس سامي أبو زهري.
وجاء لقاء عباس وهنية بعد سنوات من القطيعة بين الطرفَين، وظهر هنية وهو يصافح محمود عباس والرئيس الجزائري ويشدُّ على يدَيهما، في صورة جماعية بعد نهاية اللقاء.
تعمل الجزائر من خلال الوساطة التي تقودها لإعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام العربي، قبل القمة العربية المنتظرة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
ولم تكشَف وقتها أي تفاصيل حول هذا اللقاء، لكنه من المؤكد أنه لم يصل إلى حد المصالحة، غير أن الرئاسة الجزائرية أرادت أن تؤكد أنها على مسافة واحدة من جميع الفصائل الفلسطينية، سواء كانت فتح أو حماس أو الجهاد الإسلامي أو الجبهة الشعبية.
وفي شهر سبتمبر/ أيلول الجاري، عاد الحديث عن الوساطة الجزائرية بقدوم وفود من مختلف الفصائل إلى الجزائر، ففي 19 سبتمبر/ أيلول الجاري أعلنت حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) أن وفدًا من قيادتها توجّه إلى الجزائر، لبحث سبل إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الفلسطينية، مبيّنة أن الوفد يضمّ عضوَي اللجنة المركزية للحركة عزام الأحمد وروحي فتوح.
وبدورها أعلنت حركة حماس منذ أيام تنقُّل وفد من قيادتها إلى الجزائر تمهيدًا لإجراء حوارات مع القيادة السياسة في الجزائر، حول مسار المصالحة الفلسطينية، قبل بدء حوار ثنائي مع قيادة فتح، مشيرة إلى أن الوفد ضمَّ أعضاء المكتب السياسي خليل الحية وماهر صلاح وحسام بدران، وممثل حماس في الجزائر محمد عثمان.
ومنتصف الشهر الجاري، أعلنَ وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، أن بلاده “ستحتضن اجتماعًا للفصائل الفلسطينية”، مضيفًا أن “هناك جهودًا دؤوبة وعملًا دبلوماسيًّا كبيرًا تحت قيادة الرئيس تبون، ترمي إلى تعزيز وحدة الصف الفلسطيني من خلال اجتماع سيعقد لاحقًا في الجزائر قبل القمة العربية”.
كل الجبهات
تعمل الجزائر من خلال الوساطة التي تقودها لإعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام العربي، قبل القمة العربية المنتظرة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وذلك التزامًا بمبدئها الداعم لفلسطين دون شروط، وتواؤُما مع جهود الرئيس تبون لإعادة دبلوماسية بلادها إلى بريقها السابقة، من خلال إبراز وزنها الإقليمي والعربي.
ولتحقيق هذا الهدف، يستغل المسؤولون الجزائريون مختلف المنابر الدبلوماسية لجعل الملف الفلسطيني على رأس انشغالات الخارجية الجزائرية، ففي هذا الإطار استغل وزير الخارجية رمطان لعمامرة تواجده بنيويورك على هامش أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة لبحث تطورات هذه القضية، دعمًا للمفاوضات واللقاءات التي تجري في الجزائر مع مختلف الفصائل الفلسطينية، لذلك كان اجتماعه بالرئيس الفلسطيني محمود عباس ضمن أولى لقاءاته بنيويورك.
وأكّد لعمامرة، السبت الماضي، دعم الجزائر للطلب الذي تقدّم به الرئيس الفلسطيني للأمين العام للأمم المتحدة، لحصول فلسطين على صفة دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة. وقال لعمامرة إن قبول فلسطين سيساهم في تسوية القضية الفلسطينية وسيضع القوة المحتلة أمام مسؤولياتها، مبيّنًا أن صمت المجتمع الدولي وسياسات الأمر الواقع يقوّضان أي أمل في تسوية نهائية وعادلة للمسألة الفلسطينية.
استطاعة الجزائر على تحقيق مصالحة بين مختلف الفصائل ليس بالمهمة السهلة، بالنظر إلى عدة عوامل، منها كبر الشرخ الموجود بين الأطراف الفلسطينية.
وتساهم هذه المواقف الجزائرية من منبر دولي كالأمم المتحدة في اقتناع الفصائل بمبادرتها في إنهاء الانقسام الفلسطيني، فقد أعلن عزام الأحمد، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، أن الورقة التي ستقدّمها الجزائر في المؤتمر الموسّع للفصائل المقرر شهر أكتوبر/ تشرين الأول القادم “ستكون إيجابية“.
وقال الأحمد في تصريحات لإذاعة “صوت فلسطين” الرسمية، إن “الجزائر ستقدم ورقة للجميع في ضوء ما استلمته القيادة الجزائرية من الفصائل الفلسطينية حول رؤيتها لإنهاء الانقسام”، مبديًا تفاؤله بأن الورقة المطروحة للاتفاق عليها ستساعد في إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية، وبحسب ما نقلته الصحافة عن مسؤولين في مختلف الفصائل الفلسطينية، فإن الجميع مستعدّ لتقديم تنازلات لإنهاء الانقسام.
وكشف مسؤول فلسطيني أن قادة الفصائل الفلسطينية سيعقدون لقاءات منفصلة مع المسؤولين الجزائريين، وسيتم استعراض خلال تلك اللقاءات المواقف والمطالب والعقبات التي تُعيق التوصُّل إلى اتفاق مصالحة واضح وصريح، وكذلك ستحاول لجنة جزائرية مختصّة أن تنفّذ تلك المطالب والمواقف وتحاول تقريبها.
عقبات
رغم أهمية المواقف الجزائرية التاريخية من القضية الفلسطينية الملتزمة بتعهُّد الرئيس الراحل هواري بومدين، بأن “الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”، إلا أن استطاعتها على تحقيق مصالحة بين مختلف الفصائل ليس بالمهمة السهلة، بالنظر إلى عدة عوامل، منها كبر الشرخ الموجود بين الأطراف الفلسطينية التي لا تبدي نية حقيقية في إنهاء الانقسام داخل البيت الفلسطيني، وهو ما يظهر بعدم تقديمها مبادرات داخلية تدعم الجهود الجزائرية التي انطلقت بداية العام الجاري.
ولعلّ من الأسباب الرئيسية أيضًا هو وجود اختلافات داخل الفصيل الواحد، ولعلّ حال حركة فتح التي تمثل السلطة الفلسطينية أكبر دليل على ذلك، إضافة إلى ارتباط بعض الفصائل بأجندات عربية وأجنبية في الوقت الحالي أكثر من اهتمامها بما يتمّ داخل البيت الفلسطيني.
ومن المطبّات التي تعيق الجهود الجزائرية في تحقيق المصالحة الفلسطينية الموقف المصري الذي لا يدعم التحرك الجزائري، فقد أكّدت عدة تقارير إعلامية أن القاهرة منزعجة من هذا التحرك، بالنظر إلى أن مصر كانت على الدوام وما زالت تمتلك الكثير من خيوط حلحلة الخلاف الفلسطيني، لذلك ترى في المبادرة الجزائرية تعرية لإخفاقها في إنهاء الانقسام الفلسطيني.
وقبل أيام، نقلت صحيفة “العربي الجديد” عن دبلوماسي مصري، أن بلاده انزعجت من قول الرئيس تبون في حديث مع وسائل إعلام محلية، إن الجزائر لديها كامل المصداقية لتحقيق المصالحة الفلسطينية، كونها “الدولة الوحيدة التي ليست لديها حسابات ضيّقة في هذا الشأن”.
وقال الدبلوماسي الذي يشغل موقعًا رفيعًا في الجامعة العربية في القاهرة، وتحفّظ عن ذكر اسمه، إن حديث تبون حول أن بلاده هي الدولة الوحيدة التي ليست لها حسابات ضيقة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، أثار حفيظة دوائر مصرية.
يبقى تاريخ الجزائر في دعم القضية الفلسطينية مؤشرًا يبعث كثيرًا من التفاؤل على إمكانية إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة.
ورغم أن القاهرة لم تعبِّر صراحة عن انزعاجها من التحرك الجزائري، إلا أن عدة معطيات دبلوماسية حدثت في الفترة الأخيرة تؤكد ذلك، أبرزها الخلاف حول حل الأزمة الليبية، والذي برز بانسحاب الوفد المصري في اجتماع وزراء خارجية العرب بالقاهرة، خلال كلمة وزيرة الخارجية الليبية، نجلاء المنقوش، المنتمية لحكومة الوحدة الوطنية التي تعترف بها الجزائر وتؤيدها، فيما تنحاز القاهرة تمام الانحياز لحكومة فتحي باشاغا غير المعترَف بها دوليًّا.
وإن كانت القاهرة لا تستطيع التصريح علنًا برفضها للتحركات الجزائرية لحلّ الأزمة الفلسطينية، إلا أنها قد تعيق جهودها في الكواليس باستغلال اتصالاتها بمختلف الفصائل، ومعرفتها بخبايا الملف الفلسطيني الذي ظلت تحتكر حلّه لسنوات.
ولا يعدّ الموقف المصري الوحيد الذي ينزعج من الوساطة الجزائرية، فدول أخرى لا تريد أيضًا نجاح هذه الجهود، والمتمثلة في معسكر التطبيع مع الاحتلال الصهيوني، بالنظر إلى أن استطاعة الجزائر في تحقيق المصالحة الفلسطينية سيعيد قضية العرب الأولى إلى صدارة الاهتمام العربي، ويساهم في إدانة المطبّعين الذين خالفوا بنود المبادرة العربية التي تنصّ على عدم إقامة أي علاقات مع الكيان العبري، إذا لم يتمَّ إنهاء الاحتلال وتأسيس الدولة الفلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
وبالنظر إلى كل هذه العوامل، يظهر أن مهمة المفاوضين الجزائريين ليست بالمهمة السهلة، كونها لا تقتصر على تقريب وجهات النظر بين مختلف الفصائل فقط، إنما أيضًا بإقناع المتدخلين سلبًا في القضية الفلسطينية بعدم التأثير على المساعي الجزائرية، كونها لا تستهدفهم بتاتًا إنما تأتي لتصحيح وضع عربي صار لا يخدم الجميع.
وفي انتظار ما سيكشفه لقاء أكتوبر، يبقى تاريخ الجزائر في دعم القضية الفلسطينية مؤشرًا يبعث كثيرًا من التفاؤل على إمكانية إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة، للتفرغ لمقاومة الاحتلال الصهيوني الذي يظل العدو الرئيسي للفلسطينيين والعرب ككلّ.