انطلقت باكورة الاقتحامات الإسرائيلية للمسجد الأقصى بما يعرف بطوفان الاقتحامات الذي سيكون مقدمةً لموجة من الاقتحامات التي ستنفذها جماعات الهيكل اليهودية والجماعات الدينية المتطرفة تزامنًا مع ما يعرف برأس السنة العبرية، حيث ستشهد هذه الفترة سلسلة من الفعاليات التي من شأنها فرض وقائع جديدة تعزز من سياسات التقسيم الزماني والمكاني خلال المرحلة المقبلة.
تعد هذه الأعياد عصيبةً على المسجد الأقصى، تحديدًا في هذه الفترة التي تتعاقب فيها الأعياد اليهودية بشكل مكثف، إذ يحاول اليهود إدخال رموزهم للمسجد، من قبيل سعف النخيل والليمون والأبواق ولباس الكهنة، في محاولة لإقحام الشريعة اليهودية وتجييش أكبر قدر من المستوطنين في هذه الاقتحامات.
جماعات الهيكل تسابق الزمن
استبقت جماعات الهيكل الأعياد الدينية بالدعوة إلى أكبر اقتحامات خصوصًا في 11 أكتوبر/تشرين الأول 2022، إذ يزعم هؤلاء أنها فرصة لا تتكرر إلا مرة كل 7 سنوات، معتمدة في ذلك على أمرٍ توراتي جاء في سفر التثنية يفرض على اليهود أن يجتمعوا في اليوم الأول من الأيام الوسطية لعيد العرش في السنة التالية للسنة السبتية مباشرة، وهي السنة التي يبوّر فيها اليهود المتدينون أرضهم ولا يزرعونها، كما هو الحال في هذه السنة.
تعتقد جماعات الهيكل أنه وفي ظل فشل المخططات الإسرائيلية في فرض التقسيم الزماني والمكاني بالصورة التي يريدونها أن تستثني وجود المسلمين خلال أوقات اقتحاماتهم إلى جانب عدم إمكانية إحداث تغيير في صورة المسجد الأقصى، فإن المشهد قد يكون مساعدًا لممارسة الطقوس التلمودية والصلوات داخل باحات المسجد تحت حماية الشرطة الإسرائيلية.
أما عن أسباب الإصرار على نفخ البوق في المسجد الأقصى، فالبوق هو إعلان هيمنة وسيادة، وهذا المعنى السياسي الأساسي الذي يتطلع له الصهاينة من حملة نفخ البوق التي تصل اليوم عامها الثالث، فقد نفخوا في البوق حول أبواب المسجد الأقصى عام 2020، ثم في داخل ساحته لكن دون تصوير في 2021، حيث سمع صوت البوق واضحًا في الساحة الشرقية للأقصى قبل أن تتبنى ذلك رسميًا جماعة “العودة إلى جبل الهيكل”.
وسبق لمؤسس حاخامية جيش الاحتلال، شلومو جورين، أن نفخ في البوق في سيناء عند احتلالها لأول مرة عام 1956، ونفخ في البوق أيضًا مع القوات المقتحمة في أثناء احتلال المسجد الأقصى عام 1967، ثم عند حائط البراق بشكل يومي ليعلن عودة الطقوس التوراتية إلى ساحة البراق بعد عقود من انقطاعها.
ينفخ البوق اليوم في مناسبتين دينيتين هما: رأس السنة العبرية و”عيد الغفران”، وفي مناسبة قومية صهيونية هي “عيد الاستقلال” أي يوم النكبة بالتقويم العبري، ما يعني أنه ممارسة قومية ذات بعدٍ سياسي وليس مجرد طقسٍ ديني.
أما من الناحية الدينية، فالبوق أساسًا يرمز للانتقال بين زمنين، فهو علامة دخول السنة العبرية الجديدة، لذلك ينفخ صباحًا ولمرات عديدة في عيد رأس السنة العبرية، وعلامة نهاية “أيام التوبة” العشر مع غروب شمس عيد الغفران، لذلك ينفخ فيه في وقت الغروب متزامنًا مع أذان المغرب.
ولا يتوقف الأمر عند النفخ في البوق، بل تم الإعلان عن وصول خمس بقرات حمراء إلى فلسطين المحتلة، قادمة من تكساس في الولايات المتحدة، كتبرعٍ من جماعات مسيحية إنجيلية لصالح مزرعة “معهد الهيكل” الواقعة في بيسان المحتلة، وهي المؤسسة التي كرست نفسها لإحياء تراث الهيكل المزعوم وطقوسه وألبسته وتعاليمه وكل ما يتعلق به من تفاصيل.
الاحتلال يخشى من تكرار سيناريو سيف القدس عام 2021 ويرسل هو الآخر برسائل مبطنة ومعلنة للفصائل عبر الوسيط المصري تحديدًا من أجل احتواء الموقف وعدم السماح له بالخروج عن توقعاته
ويرتبط الإعلان عن البقرات الحمراء بمحاولة توسيع دائرة الصهاينة المنخرطين مباشرة في اقتحامات المسجد الأقصى، إذ إن المشاركة في الاقتحامات ما زالت محدودة عدديًا رغم أن فكرة إقامة الهيكل المزعوم في مكان المسجد الأقصى المبارك وعلى كامل مساحته تشكل محل إجماع لمختلف مكونات اليمين الصهيوني الذي يشكل التيار المركزي في المجتمع والسياسة في الكيان الصهيوني اليوم.
وما يمنع الانخراط الواسع في الاقتحامات بحسب ما تظن جماعات الهيكل المتطرفة هي الفتوى الدينية التقليدية التي تتبناها الحاخامية الرسمية بشقيها الغربي والشرقي حتى اليوم، التي تعتبر الدخول إلى الهيكل المزعوم محظورًا لسببيين مانعين: عدم تحقق شرط الطهارة وعدم مجيء المخلص المنتظر.
هذه الجماعات المتطرفة في معظمها تؤمن بعقيدة “خلاصية” أو “مسيحانية”، تحمل تأويلًا ما لنظرية مجيء المسيح، وهو ما يجعلها واثقة بقدرتها على تجاوز هذا الشرط في وعي جمهورها، لذلك هي تحصر “عقدتها” في شرط الطهارة، وتتأمل أنها إن تجاوزتها فإن مشاركة المجتمع الصهيوني في الاقتحامات ستصبح بعشرات أو مئات الآلاف، وهذا ما يجعلها تكرس ميزانيات كبيرة وجهودًا سنويةً في محاولة لحل عقدة “شرط الطهارة”.
وللنجاسة في الشريعة التوراتية أشكال منها ما هو أصغر يُتطهر منه بالماء، ومنها ما هو أكبر ولا يتطهر منه إلا برماد البقرة الحمراء، وهذه النجاسة الكبرى مصدرها الأساس لمس الجثث الميتة، ولمسها يجلب هذه “النجاسة” الكبرى وينتقل باللمس من إنسانٍ إلى آخر، ما يجعل شرط الطهارة الكبرى غير متحقق في أي يهودي في العالم اليوم وفق الفتوى الحاخامية.
وتحقيق هذه الطهارة بحسب التعاليم التوراتية يتطلب ذبح بقرةٍ حمراء أنهت من العمر عامين ويومين وليست فيها شعرة واحدة ليست حمراء، ومن ثم ذبحها وإحراقها – على جبل الزيتون بزعمهم – ليخلط رمادها بالماء ويتطهر بها “الكاهن الأعظم”، ثم يبدأ بدوره بتطهير بقية اليهود بهذا “الماء المقدس” المخلوط برماد البقرة الحمراء.
أسباب التصعيد
يخشى الفلسطينيون من أن يكون ما يجري في الأقصى مقدمة لاتخاذ الاحتلال المزيد من الإجراءات الرامية لتحويل الأقصى إلى رمز ديني يهودي وفرض وقائع جديدة غير مسبوقة، مستغلًا حالة التطبيع مع الدول العربية والإسلامية.
وأمام هذه الوقائع، أرسلت فصائل فلسطينية بحسب مصادر لـ”نون بوست” رسائل للوسطاء تحذرهم من أن المنطقة قد تدخل في حرب دينية إذا تجاوز الاحتلال ومستوطنوه الخطوط الحمراء في الأقصى، وأن المقاومة تراقب عن كثب ما يجري وستتخذ قراراها في ضوء قراءاتها للواقع الميداني.
في الوقت ذاته، فإن الاحتلال يخشى من تكرار سيناريو سيف القدس عام 2021 ويرسل هو الآخر برسائل مبطنة ومعلنة للفصائل عبر الوسيط المصري تحديدًا من أجل احتواء الموقف وعدم السماح له بالخروج عن توقعاته.
ويحضر فلسطينيو 48 في المشهد، فقد اعتاد المئات منهم الرباط في الأقصى خلال فترة الاقتحامات اليهودية للمسجد، وتحديدًا في فترة الأعياد، من أجل التصدي لجمهور المستوطنين المقتحمين ومنع التفرد بالحرم.
ويعتبر السلوك الإسرائيلي وسلوك المستوطنين السبب الرئيسي للتصعيد في القدس المحتلة وفي الأقصى على وجه الخصوص، فضلًا عما يجري في الضفة الغربية من أحداث قد تؤدي بطريقة أو بأخرى لاشتعال انتفاضة شعبية واسعة إذا كانت حدة الانتهاكات في الأقصى عنيفة.
وبالنظر إلى ما يجري حاليًّا فإن الأقصى سيبقى يمثل أساس الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، فمن غير المتوقع أن يتراجع المستوطنون وجماعات الهيكل عن أحلامهم الطامعة في المسجد وإقامة هيكلهم المزعوم، في الوقت الذي سيبقى فيه الفلسطينيون يكافحون هذه المخططات شعبيًا أو عسكريًا من المقاومة في غزة.