غادر المؤسِّس والرئيس السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الدكتور يوسف القرضاوي، الحياة، اليوم الإثنين 26 سبتمبر/ أيلول 2022، عن عمر ناهز 96 عامًا، بعد سنوات طويلة قضاها في خدمة الدعوة ونشر الإسلام حتى بات علمًا أطبقت شهرته الآفاق شرقًا وغربًا، بحسب الحساب الرسمي للشيخ على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” الذي أشار إلى تحديد موعد الدفن ومكان العزاء لاحقًا.
ولم يشهد العصر الحديث حملات استهداف ممنهَجة، كتلك التي شهدها القرضاوي الذي تحوّل إلى مصدر قلق يؤرق مضاجع الكثير من الأنظمة في المنطقة العربية، بسبب مواقفه وآرائه السياسية التي دفع ثمنها سنوات من عمره قضاها في غياهب السجون، قبل المغادرة إلى الدوحة منتصف ستينيات القرن الماضي.
حلَّ العالم الراحل ثالثًا في قائمة أكثر 20 عالمًا تأثيرًا على المستوى العالم عام 2008، بعد التركي فتح الله غولن والثاني الاقتصادي البنغالي المسلم الحاصل على جائزة نوبل 2006 محمد يونس، ضمن استطلاع دولي أجرته مجلتا “فورين بوليسي” الأمريكية و”بروسبكت” البريطانية، كما جاء في المرتبة 38 ضمن 50 شخصية مسلمة مؤثرة، بحسب كتاب أصدره المركز الملكي للدراسات الاستراتيجية الإسلامية في الأردن، حول أكثر 500 شخصية مسلمة مؤثرة عام 2009.
وعلى مدار عقود طويلة، أثرى القرضاوي المكتبة الإسلامية بأكثر من 200 مؤلف في مختلف العلوم الشرعية، وتعدّ آراؤه في الفقه مرجعًا لكثير من الباحثين وطلبة العلم، وبعيدًا عن الاختلاف السياسي بشأنه لا يوجد باحث منصف يُنكر قيمة وقامة الشيخ وجهوده الملموسة في التشكيل الفكري للوعي الإسلامي المعاصر، وما له من حضور واسع من المحيط إلى الخليج.
في مرمى الانتقادات
للشيخ عشرات المواقف الهامة، والتي أثارت الكثير من الجدل بسبب تبايُن وجهات النظر إزاء مواقفه بشأنها، على رأسها موقفه من الجهاد، إذ خالف القرضاوي التوجه العام السلفي في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حول فرضية الجهاد الأفغاني ضد الروس.
فبينما كانت أصوات علماء السعودية وبعض دول الخليج تصدح بضرورة الجهاد وأنه فرض عين على كل المسلمين، أشار القرضاوي إلى أن فرضية الجهاد هنا للشعب الأفغاني فقط أما الدول الإسلامية فعليها الدعم بالسلاح والدبلوماسية، لافتًا إلى أن من أراد أن يذهب للجهاد بنفسه من غير أهل أفغانستان فليذهب، لكن ذلك ليس فرض عين عليه، وهي الفتوى التي وضعته في مرمى سهام النقد لعدة سنوات.
كما انتقد قطر عام 2009 حين سمحت لأحد الصحفيين العاملين بصحيفة “يولاندس بوستن”، التي نشرت الرسوم المسيئة للنبي محمد (ص) عام 2005، المشارَكة في الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة، قائلًا: “هذا الرجل الذي جاء إلى الدوحة ما كان لقطر أن تسمح له”، وعللت قطر أنها لم تكن تعلم أن هذا الصحفي الدنماركي يعمل لتلك الصحيفة.
وفي لقاء له في برنامج “الشريعة والحياة” على قناة “الجزيرة” بتاريخ 16 فبراير/ شباط 2003، سُئل عن القواعد الأمريكية في الخليج، فقال: “أنا قلت.. شوف الاتفاقات التي حدثت قديمًا مع أهل المنطقة تحترم، لأنها قامت بها حكومات، ولا نريد أن نشعل فتنة بين الشعوب والحكومات مع حق الشعوب في أن تنتقد هذه الاتفاقيات، تنتقدها بالوسائل السلمية، يعني ممكن يكتب صحفي يقول: إننا لا نوافق على الاتفاقية التي وقعت بين قطر والأميركان، أو بين البحرين والأميركان، أو بين السعودية والأميركان، يفعل هذا، ونحترم هذه الاتفاقيات”.
مكملًا: “إنما الغزو الأميركي الآن، الجنود الذين يأتون من أميركا بالـ 150 ألف وأكثر من 40 ألف بريطاني، والإنزال البحري والإنزال الجوي والإنزال البرّي في المنطقة، هذا ما يجب أن يقاوَم، ومن قاومه من المسلمين.. من قاوم هذا الغزو للمنطقة الذي يجري دون.. يعني بغير شرعية دولية، وبغير رضا عربي.. وهذا ما يجب أن يقاوم، ومن قاومه فقُتل فهو شهيد إن شاء الله”، كما أعلن صراحة عن رفضه القواعد الأمريكية في قطر.
التطبيع.. بين الرفض والتشكيك
من المعارك التي خاضها القرضاوي وتعرّض بسببها لموجات من الهجوم، التطبيع مع المحتل الإسرائيلي، حيث اُتّهم بالتطبيع ونشر صور له مع بعض حاخامات اليهود، والتقارب مع بعض رموزهم، وهي الاتهامات التي اعترض عليها الشيخ والمقرّبين منه، مستشهدين ببعض مواقفه السابقة التي تؤكد رفضه للتطبيع شكلًا ومضمونًا.
ففي مايو/ أيار 2001 انتقد القرضاوي قطر بسبب دعوتها عقد لقاء بين رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها، أرئيل شارون، والرئيس الفلسطيني حينها، ياسر عرفات، في الدوحة، وحينها قال: “أربأ بدولة قطر وأرض قطر أن تستقبل شارون على أرضها… لا أهلًا بشارون في قطر… قلت لمن صافح بيريس سفاح قانا أن يغسل يديه 7 مرات إحداها بالتراب، وأقول لمن صافح ويصافح الجزار شارون سفاح صبرا وشاتيلا: اغسل يديك 70 مرة”.
وردًّا على اتهامه ببناء علاقات مع اليهود، علّق نجله عبد الرحمن القرضاوي في مقال له قائلًا: “الصورة ليس فيها ما يعيب.. بل العيب على من نشرها مع أكاذيب تافهة.. فالصورة لمن لا يعلم كانت للشيخ القرضاوي حفظه الله وهو يستقبل بعض الحاخامات اليهود من أعضاء حركة “ناطوري كارتا”، وهي حركة يهودية حريدية تأسست عام 1935، أي قبل إعلان دولة الكيان الصهيوني، وهي حركة مقاومة للصهيونية بكل أشكالها، وتعارض وجود دولة “إسرائيل” من الأساس، وتنادي تلك الحركة بخلع أو إنهاء سلمي للكيان الإسرائيلي، وإعادة الأرض إلى الفلسطينيين”.
وأضاف: “لحركة “ناطوري كارتا” (ومعناها حرّاس المدينة) منطلق ديني توراتي يعتمد على أن اليهود ممنوعون من إقامة دولتهم حتى مجيء المسيح، ستجد صورًا لكثير من رموز المقاومة مع هؤلاء الحاخامات، وستجد هؤلاء الحاخامات يرتدون الكوفية الفلسطينية بلا أي حرج… فزعيم هذه الطائفة خدم كوزير لشؤون اليهود في عهد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات على سبيل المثال، واشترك عضوان من هذه الطائفة في الصلاة على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في باريس”.
علاقته بالإخوان
التحقَ القرضاوي بجماعة الإخوان المسلمين في سنّ مبكّرة، وكان أحد الشباب المتحفّز داخل الجماعة، وتسبّب ذلك في تعرضه للاعتقال أكثر من مرة طيلة فترة بقائه في مصر، حيث دخل السجن أول مرة في العهد الملكي عام 1949 بسبب انتمائه إلى الإخوان ونشاطهم السياسي في ذلك الوقت.
وفي عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، اُعتقل القرضاوي 3 مرات، الأولى في يناير/ كانون الثاني 1954 ثم في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، أما المرة الثالثة فكانت عام 1963، وتراوحت فترات الاعتقال بين شهرَين إلى 20 شهرًا، ما دفعه للتفكير في مغادرة مصر، فكانت الدوحة قِبلته الجديدة.
سافر القرضاوي إلى قطر التي اختارها لتكون وطنه الثاني، وهناك حصل على الجنسية، وبدأ في الترقّي في المناصب القيادية الدينية، فعمل ابتداء مديرًا للمعهد الديني الثانوي، ثم تولى تأسيس وعمادة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر وظلَّ عميدًا لها منذ عام 1977 إلى نهاية عام 1990، كما أصبح مديرًا لمركز بحوث السنّة والسيرة النبوية بجامعة قطر، ثم رئيسًا للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
ظلَّ القرضاوي لسنوات طويلة المرجعية الأكثر موثوقية لدى الكثير من المسلمين، سواء داخل جماعة الإخوان أو خارجها، ورغم الخلافات المرحلية بينه وبين الجماعة بشأن بعض المسائل، إلا أنه ظلَّ أحد أقطابها اللامعة ونوابغها الذين لا يختلف عليهم أحد، ما تسبّب في منعه من دخول بعض البلدان التي اتّهمته بنشر الفتاوى المتطرفة التي تحثُّ على الجهاد، ومن أبرز تلك الدول فرنسا وبريطانيا.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2017 جاء القرضاوي واتحاد علماء المسلمين ضمن قائمة إرهاب أعلنتها السعودية ومصر والإمارات والبحرين، ضمّت كيانَين و11 شخصًا محسوبين على تيار الإخوان المسلمين، وفي 17 يناير/ كانون الثاني 2018 أصدرت المحكمة العسكرية المصرية حكمًا بالسجن المؤبَّد على العالم الراحل، بتهمة التحريض على العنف في قضية اغتيال الضابط وائل عاطف طاحون عام 2015.
من المحلة الكبرى إلى العالمية
نشأ يوسف المولود في 9 سبتمبر/ أيلول 1926 في إحدى قرى مركز المحلة الكبرى بمحافظة الغربية في بيت متديّن، حيث حفظ القرآن الكريم في سنّ العاشرة، والتحق بالأزهر الشريف ليحتل المركز الثاني على الجمهورية في امتحانات الشهادة الثانوية، ليلتحق بعدها بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر التي حصل منها على العالمية عام 1953 وكان الأول على دفعته.
وفي عام 1954 حصل على إجازة التدريس من كلية اللغة العربية، ثم على دبلوم معهد الدراسات العربية العالية التابع لجامعة الدول العربية في تخصص اللغة والأدب عام 1958، وبعدها بعامَين حصل على الدراسة التمهيدية العليا المعادلة للماجستير في شعبة علوم القرآن والسنّة من كلية أصول الدين بالأزهر، ليحصل على الدكتوراه بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى من الكلية نفسها عام 1973، وكان موضوع الرسالة عن “الزكاة وأثرها في حل المشاكل الاجتماعية”.
وقد أثرى الشيخ المكتبة الإسلامية بأكثر من 200 مؤلف من الكتب والرسائل والعديد من الفتاوى، كما قام بتسجيل العديد من حلقات البرامج الدينية منها التسجيلية والحية، كما تقلّد العديد من المناصب، أبرزها رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، عضو مجمع البحوث الإسلامية في مصر، الرئيس السابق لجمعية البلاغ القطرية المموِّلة لشبكة “إسلام أونلاين” حتى 23 مارس/ آذار 2010.
وأيضًا عضو مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، رئيس هيئة الرقابة الشرعية لمصرف قطر الإسلامي ومصرف فيصل الإسلامي بالبحرين، عضو مجلس الأمناء لمنظمة الدعوة الإسلامية في أفريقيا، نائب رئيس الهيئة الشرعية العالمية للزكاة في الكويت، وعضو مجلس الأمناء لمركز الدراسات الإسلامية في أكسفورد.
وتوّجَ القرضاوي مسيرته العلمية الرائعة بعشرات الجوائز العالمية، على رأسها جائزة البنك الإسلامي للتنمية في الاقتصاد الإسلامي لعام 1990، وجائزة الملك فيصل العالمية بالاشتراك مع سيد سابق في الدراسات الإسلامية لعام 1994، وجائزة العطاء العلمي المتميز من رئيس الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا لعام 1996، وجائزة السلطان حسن البلقية (سلطان بروناي) في الفقه الإسلامي لعام 1997، وجائزة سلطان العويس في الإنجاز الثقافي والعلمي لعام 1999، وجائزة دبي للقرآن الكريم فرع شخصية العام الإسلامية لعام 2001، وجائزة الدولة التقديرية للدراسات الإسلامية من دولة قطر لعام 2008، وجائزة الهجرة النبوية لعام 1431هـ من حكومة ماليزيا وتسلّمها من ملك ماليزيا في 18 ديسمبر/ كانون الأول 2009.
وفي المجمل، يظلُّ يوسف القرضاوي أحد أعلام المسلمين الثقال، وركنًا أساسيًّا في تشكيل الوعي الإسلامي لأجيال الشباب المسلم على مدار العقود الخمسة الأخيرة، ورغم الخلاف معه حول العديد من المسائل، لكن إسهاماته وجهوده في مجال نشر الدعوة ستظل محفورة في ذاكرة الأجيال مهما مرَّ عليها الزمن.