“يوجد بعض الناس قالوا على لسان الشيخ جمال الدين الأفغاني، لا ينهض بالشرق إلا مستبد عادل، وهذا غير صحيح عنه ولا يمكن أن يجتمع العدل والاستبداد، فالعادل لا يمكن أن يكون مستبدًا والمستبد لا يكون عادلًا، الإسلام طلب الشورى في أبسط الأمور فكيف بأمر الأمة، إذا كان الإسلام لم يسمح أن يتم تزويج المرأة بغير رضاها فكيف يسمح أن تحكم الأمة بغير رضاها، وقد جاء في الحديث عن النبي محمد ذم الإمام الذي يؤم قومًا وهم له كارهون، إذا كان هذا في الإمامة الصغرى فكيف في الإمامة الكبرى”.
كانت هذه نظرة الشيخ العلامة يوسف القرضاوي قبل عقود من تفجّر ثورات الربيع العربي وتحرك الشعوب لإزالة حكامهم المستبدين في الكثير من الدول العربية بداية من تونس وما تلاها من انتفاضات شملت مصر واليمن وليبيا وسوريا والحراك الذي تبع ذلك في العديد من البلدان كالجزائر والسودان، ومع كل ما حصل لم يتزحزح موقف الشيخ القرضاوي المؤيد لثورات الربيع العربي وقضايا تحرر الشعوب.
توفي الشيخ يوسف القرضاوي بعد عقود من العمل من أجل قضايا الأمة، وبعد أن كوّن ثقلًا كبيرًا في العالم الإسلامي نتيجة مواقفه المبدئية الثابتة منذ دراسته الثانوية يوم أن تحدى المستعمر الإنجليزي في مصر حتى يوم وفاته، فلا أحد ينكر مواقفه السياسية الواضحة والثابتة، إضافة لغزارة إنتاجه العلمي وما تضمنه من نظرة وسطية معتدلة ترجع للقرآن والسنة مع عدم إهمال اجتهادات العلماء خلال العصور والتراث المذهبي، ثم ثباته في وجه تمييع الدين ووقوفه في وجه تيار التغريب، وهذه الأمور مجتمعة جعلت مكانة القرضاوي في العالم الإسلامي لا تدانيها مكانة.
ثم إن القرضاوي كان شخصًا عمليًا ديناميكيًا غير جامد، فلم يدفعه تدينه إلى الانزواء في صومعة بعيدة، بل كان كتلة من الطاقة والحيوية، تراه يحضر مؤتمرًا هنا وملتقى علميًا هناك، فجاب الدنيا والأمصار، وبعد كل ذلك تجد لديه في الوقت فسحة للتأليف والتصنيف، وهو ما جعله شخصية عالية التأثير بين أفراد الأمة المسلمة.
استغل تأثيره هذا للعمل أكثر من أجل قضايا الأمة، ليس على الصعيد العلمي والشرعي فحسب وإنما على المستوى السياسي أيضًا، حيث جاءت أفكاره التجديدية في عصر ما بعد استقلال المنطقة عن الاستعمار حيث برز فيها تياران إسلاميان: أحدهما يميني متطرف والآخر يساري النزعة، فأتى الشيخ القرضاوي ليرسي دعائم الوسطية وفقًا لما قاله الشيخ الموريتاني محمد الددو الشنقيطي.
جدلية الخروج على الحاكم
ناصر الشيخ يوسف القرضاوي الثورات العربية التي هبت خلال عام 2011 ضمن موجة الربيع العربي، فلم يتلكأ في دعم الانتفاضات بكل السبل، إنما أصبحت خطبه وكلماته ولقاءاته كلها تتمحور حول ذلك، إذ إنه كان يعتبر ذلك الأمر صحوة للأمة للتغيير نحو الأحسن، وهو ما أكده بقوله: “ثورات الربيع العربي نادت بالمبادئ التي يدعو إليها الإسلام”، مشيرًا إلى أن “دور العالِم المسلم هو العمل على إحياء الأمة وعدم تركها للمستبدين”.
لكن يبدو أن رأي الشيخ القرضاوي لم يكن مستساغًا لدى العديد من المشايخ وعلماء الدين الذين يعتبرون هذه الثورات “خروجًا على الحاكم” وهو ما يحرمه الشرع وفقًا لآرائهم المستندة إلى أدلة وبراهين شرعية – بحسب ما يدعون -، ولعل أبرزها الفتوى التي تقول “المظاهرات ليست من عمل المسلمين، ولا عُرِفَت في تاريخ الإسلام والاعتصامات، هذه من أمور الكفّار، وهي فوضى لا يرضى بها الإسلام، هذه من الفوضى! الإسلام دين انضباط، ودين نِظام، وهدوء، وليس دين فوضى وتشويش! فلا تجوز المظاهرات ولا الاعتصامات”.
لكن الشيخ القرضاوي كان قد رد على هذه الآراء مسبقًا وقبل الثورات بسنوات، قائلًا: “من حق المسلمين – كغيرهم من سائر البشر – أن يسيروا المسيرات وينشئوا المظاهرات، تعبيرًا عن مطالبهم المشروعة، وتبليغًا بحاجاتهم إلى أولي الأمر وصنّاع القرار، بصوت مسموع لا يمكن تجاهله”، وأشار القرضاوي إلى أن “صوت الفرد قد لا يسمع، لكن صوت المجموع أقوى من أن يتجاهل، وكلما تكاثر المتظاهرون، وكان معهم شخصيات لها وزنها، كان صوتهم أكثر إسماعًا وأشد تأثيرًا”، واستدل على رأيه بما قاله الله تعالى في سورة المائدة: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى}، ثم أردف الاستدلال بالآية بقول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: “المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا”.
يزيد القرضاوي في رده على تحريم المظاهرات بأن دليل مشروعية هذه المسيرات والمظاهرات الاحتجاجية أنها من أمور العادات وشؤون الحياة المدنية، والأصل في هذه الأمور هو: الإباحة وفقًا للقاعدة الفقهية القائلة “الأصل في الأشياء الإباحة”.
وفي الوقت الذي كان الكثير من علماء الدين والمشايخ وأئمة المنابر يتهافتون لتأييد الحكام، كان القرضاوي سباقًا في دعوة هؤلاء الحكام إلى التنحي، وأوضح ذلك في خطابه الموجه إلى الرئيس المخلوع حسني مبارك الذي دعاه فيه للتنحي وحيا فيه المتظاهرين ودعاهم للاستمرار بثورتهم، قائلًا: “الشعب المصري لا يطالب سوى بحقه في العيش الكريم والكسب الحلال، ولا يتأتى ذلك إلا بتغيير نظام الحكم ورحيل حسني مبارك”.
لكن الأزهر كان له رأي آخر، فقد كان موقفه مواليًا للرئيس المخلوع حسني مبارك إبان ثورة 25 يناير، وأصدر شيخه أحمد الطيب بيانًا في 3 فبراير/شباط 2011 دعا فيه الثائرين إلى التعقل بدلًا مما وصفه بتفتيت مصر، مطالبًا إياهم بالعودة إلى بيوتهم، وقبيل إعلان مبارك التنحي بساعات صرح الطيب للتليفزيون الحكومي بأن المظاهرات باتت حرامًا بعد تنفيذ الرئيس مطالب الثورة، على حد قوله.
أما المفتي المصري علي جمعة فحرم الخروج على المبارك واعتبر الثوار “خوارج يجب قتلهم”، في حين أفتى الداعية ياسر برهامي، بأن النزول للتظاهر فيه هلاك للنفس، وأن السلفية تستنكر دعوة الخروج عن الحاكم، لكنه عاد لاحقًا وشارك في المسار السياسي عبر حزب النور.
مع مرور الوقت وبعد سنتين من ثورة يناير ووصول الإخوان المسلمين إلى السلطة برئاسة الرئيس السابق الراحل محمد مرسي، انقلب الجيش المصري وأطاح بحكم مرسي، فلم يسكت القرضاوي، إذ ندد بهذا الإجراء وأصدر في عام 2013 فتوى بوجوب تأييد مرسي، وقال: “أنادي كل الأحزاب والقوى السياسية في مصر أن يقفوا وقفة رجل واحد، لنصرة الحق، وإعادة الرئيس مرسي إلى مكانه الشرعي، ومداومة نصحه”، واعتبر القرضاوي أن “من استعان بهم الفريق السيسي لا يمثلون الشعب المصري، بل جزءًا قليلًا منه”.
وعندما كانت مصر تستعد لإجراء انتخابات رئاسية أبرز مرشحيها عبد الفتاح السيسي، دعا إلى مقاطعة الانتخابات، وقال في بيان: “لا تنتخب رجل تلوث من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه بدماء الأبرياء من المصريين.. لا يجوز لكم أن تنتخبوا من عصى الله وخان الأمانة.. واجبكم أن تقولوا له لا وأن ترفضوا انتخابه”، ووصلت انتقاداته إلى مشيخة الأزهر، وقال في هذا الشأن: “لا تستمعوا إلى أصحاب العمائم المزيفة لأنهم ليسوا علماء للدين، بل هم علماء السلطة والشرطة”.
من أجل اليمن وسوريا
رغم الموقف الجلي والواضح بخصوص الثورات، فإن الشيخ كان يؤكد في كل لقاء له على رأيه بخصوص الربيع العربي، وفي بداية الثورة اليمنية في فبراير/شباط 2011 رد الشيخ القرضاوي على جمعية العلماء اليمنية الموالية للرئيس علي عبد الله صالح آنذاك، التي أصدرت فتوى تحريم الخروج على الحاكم بالقول أو الفعل، وادعت إجماع علماء الأمة على عدم جواز الخروج على الحكام بإطلاق.
قال القرضاوي حينها: “الشعب اليمني اليوم في نزاع مع حاكمه الجاثم على صدره منذ ثلاثة وثلاثين سنة، ومنذ سبعة أشهر انطلق مئات الآلاف والملايين في شوارع سبع عشرة محافظة معترضة عليه، معارضة لوجوده، فلا بد من الرجوع إلى الله ورسوله، وذلك بالتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في أمره، فكيف يريد حاكم أن يبقى والناس لا تريده؟! وحسبه مئات الألوف في الشوارع ليلًا ونهارًا ينادون برحيله”.
أردف القرضاوي قائلًا: “الحاكم المطلوب طاعته هو الذي يحبه الناس ويطلبونه، كما في حديث مسلم: “خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم”، رواه مسلم في كتاب الإمارة عن عوف بن مالك الأشجعي، وهذا الحاكم هو الذي يستجيب لهم فيما يطلبون منه، ويقيم لهم شرائع الله وييسر عليهم أمرهم، والحاكم الذي ينشر الظلم وينهب المال ويهمل الشعب ويزور الانتخابات ويقرب أسرته وأصهاره وأتباعه، فليست طاعته من المعروف في شيء”.
ثم ما لبث أن وصل قطار الربيع إلى سوريا، ذلك البلد التي لم يكن أحدًا يتخيل أن ينتفض شعبها لشدة القمع والطغيان فيها، حتى انتفض الشيخ القرضاوي على منبره، قائلًا “اليوم وصل قطار الثورة إلى محطة كان لا بد أن يصل إليها وهي محطة سوريا، ولا يمكن أن تنفصل سوريا عن تاريخ الأمة العربية”، وأكمل القرضاوي في خطبته: “قال بعضهم: إن سوريا بمنأى عن هذه الثورات، وكيف تكون بمنأى عن هذه الثورات؟! أليست جزءًا من الأمة؟! أليست جزءًا من سنن الله؟! ألا تجري عليها قوانين الله في الكون والمجتمعات؟! سوريا مثل غيرها بل هي أولى من غيرها بهذه الثورات”.
ما تكلم به القرضاوي جاء مخالفًا لمشايخ نظام الأسد وعلى رأسهم الشيخ الراحل محمد سعيد رمضان البوطي الذي وقف مدافعًا عن الأسد ونظامه إلى أن قتل، لا بل زاد البوطي وأوغل في الاصطفاف مع نظام الإجرام، وما كان منه إلا أن قال إن الشيخ القرضاوي “وقف في صف الغوغاء ولم يسمع من الحكومة السورية”، وتساءل البوطي في أحد دروسه: “لماذا آثر المنبر الأول منبر الغوغاء؟ لماذا آثرَ الإثارة وهو يعلم أن هذه الإثارة لا تفيد شيئًا؟”، يقصد القرضاوي.
رد القرضاوي على البوطي كان بتوجيه بالنداء إلى علماء سوريا “أنادي علماء سوريا جميعًا: كفى ما مضى من السكوت والصمت. إلى متى تصمتون؟! لا بد أن تتكلموا، لا بد أن تقولوا الحق، لا بد أن تقفوا مع الشعب. حرام عليكم. حرام عليك يا شيخ بوطي. يا بوطي حرام عليك أن تؤيد هذا الظالم، وأن تقف ضد الشعب، وأن تدافع عن الباطل، لا يجوز لعالم أن يدافع عن الباطل، ولن يدافع عنه إلا بباطل”.
القرضاوي لم يكن شيخًا تحت الطلب
بعد النكبات المتتالية التي منيت بها الدول العربية من انقلاب على ثوراتها وانتكاسات خلقت حالة من التشاؤم، إلا أن الشيخ القرضاوي ظل ثابتًا على ما بدأه من دعم الثورات وينافح عنها في ظل من كان يقول “دمرتم أوطانكم بخروجكم على الحكام”، ويقول القرضاوي في هذا السياق إن الأمة الإسلامية تحتاج إلى “إعادة تأهيل لتحرير الأوطان”، وأوضح أن ما جرى في “الربيع العربي أحبطه الغرب الذي يدير المنطقة حاليًا ويثير فيها القلاقل”.
ثم تم الهجوم على الشيخ يوسف القرضاوي على خلفية الحصار السعودي الإماراتي البحريني المصري لدولة قطر، فقد كان أحد أبرز المستهدفين من إعلام هذه الدول، فتم وضعه على “لائحة الإرهاب” وبدأت القنوات والمواقع الاستهانة والاستهزاء بالشيخ واتهامه بالإرهاب، ليرد القرضاوي في تغريدة على صفحته في موقع تويتر، “حملنا على عاتقنا في العقود الماضية مقاومة الميل نحو التشدد والتطرف الآتي من هناك، والذي يحدث الفوضى على الساحة الإسلامية. واليوم نوضع على قوائم الإرهاب؟!”.
حملنا على عاتقنا في العقود الماضية مُقاومة الميل نحو التشدد والتطرف الآتي من هُناك، والذي يُحدث الفوضى على الساحة الإسلامية .. واليوم نُوضع على قوائم الإرهاب؟!
رمتني بدائها وانسلت!!— يوسف القرضاوي (@alqaradawy) November 25, 2017
مواقف الشيخ القرضاوي من الربيع العربي ليست وليدة عام 2011، إنما هي امتداد لمسيرة عقود من العمل في الشأن العام والدخول في مضمار المقاومة وحمل هموم الأمة، وهو الذي سجن 4 مرات أولها عندما كان مراهقًا في العهد الملكي، ومرتين في عهد الرئيس المصري جمال عبد الناصر في يناير/كانون الثاني سنة 1954، ثم في نوفمبر/تشرين الثاني من السنة نفسها، حيث استمر اعتقاله نحو عشرين شهرًا.
ومنذ ذلك الحين كان ملمًا بالشأن السياسي المحلي والإقليمي والعالمي، وما لبث أن كبر وبدأ ينفتح على الحياة حتى سافر وتجوّل في العالم كله، وشاهد أحوال الناس والبلدان، من أجل ذلك يقول ابنه عبد الرحمن: “يستطيع المرء أن يتفهم إدلاءه برأيه في الشأن العام.. صحيح أنني ما زلت أرى أننا بحاجة لوضع بعض الحدود التي توضح الفارق بين ما هو سياسي وما هو ديني.. لكنني في النهاية أتفهم معنى أن يقضي الإنسان حياته مهتمًا بالشأن العام.. سواء كان فقيهًا أو قسيسًا أو شاعرًا أو ممثلًا أو راقص باليه!”.
لم يرض القرضاوي أن يكون شيخًا تحت الطلب وأن يذيع فتاوى توافق أهواء السلاطين والحكام، إنما صدح بما اجتهد به، بعد بحث وتمحيص واستقراء واستدلالات، ثم كان قريبًا من أمته وهو العالم بحالها قائلًا: “العالم المسلم هو جزء من أمته ولا يجوز أن يكون العالم في واد والأمة في واد آخر.. مهمة العالم أن يبعث الأمة ولا يتركها فريسة للذئاب والحكام المستبدين، لذلك كان لا بد أن نتجاوب مع الأمة عندما بدأت ثورات الربيع العربي”.