“أتمنى لو كنت أستطيع الذهاب إلى هناك -المسجد الأقصى- أو يحملوني على كرسي متحرك لأشارك في الجهاد، ثم تأتيني طلقة تفصل هذا الرأس عن هذا الجسد ليكون ذلك في سبيل الله”.. إحدى أمنيات الشيخ يوسف القرضاوي خلال سنوات حياته الأخيرة.
لم يكن الشيخ القرضاوي الذي توفي عن عمر ناهز 96 عامًا، بعيدًا يومًا عن القضية الفلسطينية، بل بقيَ دومًا مناصرًا لها ومدافعًا عنها بالتذكير بها والدعوة والفتاوي الدينية، أو حتى بالقصائد التي نسجها لها وعنها خلال فترة اعتقاله السياسي في مصر.
ارتبط العلامة القرضاوي، المعروف بانتمائه إلى جماعة الإخوان المسلمين، بحركات المقاومة الإسلامية في فلسطين، خصوصًا حركة حماس التي كانت الأقرب له وهو الأقرب لها من ناحية الفتوى والتشريع والمنهج المتّبع. وخلال هذه السنوات، لم يغفل فيها القرضاوي ذكر القضية الفلسطينية أو إسنادها حتى في مراحل حياته الأخيرة، حيث بقيَ عند مواقفه الرافضة للتطبيع مع الاحتلال تحت أي سبب كان، متمسّكًا بنهج المقاومة كخيار وحيد لتحرير فلسطين.
ارتباط مبكّر
ارتبط الشيخ الراحل بقضية فلسطين مبكرًا، حيث خرج عام 1940 في المظاهرات احتجاجًا على وعد بلفور، وسعى خلال تلك الفترة للالتحاق بالمجموعات التي تأسست للقتال في فلسطين، إلا أن مرشد الإخوان المسلمين الأول، حسن البنا، رفض السماح للفتية بالمشاركة في القتال ممّن كانوا في الإعدادية والثانوية.
للقرضاوي خُطَب عديدة في دعم القضية الفلسطينية ونصرتها، وله كذلك قصائد شعرية حماسية معبِّرة، وله فتاوى تتعلق بالقضية الفلسطينية.
زار القرضاوي فلسطين لأول مرة في نهاية الخمسينيات، وصلّى بأهل غزة خلال شهر رمضان المبارك، كما حضرت فلسطين في مساحة من كتبه ومؤلفاته المتنوّعة، وأفردها بكتاب حمل عنوان “القدس قضية كل مسلم”.
وشارك الشيخ القرضاوي بقوة في المؤتمرات والفعاليات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية، وكانت فتاويه المرجع الأساسي في كفاح الشباب الفلسطيني وجهادهم، خصوصًا في فترة الانتفاضة الثانية عام 2000 التي شهدت ذروة العمليات الاستشهادية.
وانطلق القرضاوي في نظرته إلى القضية الفلسطينية من منطلق إسلامي، فهو يرى “أن فلسطين وقف إسلامي اغتصبها اليهود وشرّدوا أهلها، وأن السبب الحقيقي للمعركة معهم هو الاحتلال، وبأن الصلح مرفوض معهم، إذا كان مبنيًّا على الاعتراف لهم بأن ما اغتصبوه هو حق لهم”.
وللقرضاوي خُطَب عديدة في دعم القضية الفلسطينية ونصرتها، وله كذلك قصائد شعرية حماسية معبِّرة، وله فتاوى تتعلق بالقضية الفلسطينية منها ما يدور حول العمليات الاستشهادية، ومنها ما يخصّ الأسرى داخل السجون، وفتوى السفر لزيارة المسجد الأقصى، والسلام مع الكيان الصهيوني، والتطبيع.
ويرى الراحل القرضاوي أن أرض فلسطين أرض مباركة بنصّ القرآن الكريم، والسنّة النبوية الشريفة، وأنها وقف إسلامي لا يحلّ لأحد أن يتنازل عنها، كما يرى أن الجهاد فرض عين على أهل فلسطين حتى يعمُّ المسلمين كافة لتحريرها.
“آثرت أن أحتفظ بديني وأحتفظ بمبدئي وأثبت على موقفي وأقول لكل ظالم جبار متحدياً:
ضع في يدي ّ القيد ألهب أضلعي
بالسوط ضع عنقي على السكّين
لن تستطيع حصار فكري ساعةً
أو نزع إيماني ونور يقيني”#يوسف_القرضاوي_في_ذمة_الله pic.twitter.com/XvVNAmK7rg
— نون بوست (@NoonPost) September 26, 2022
ومن أبرز مواقف الراحل القرضاوي “أنه لا يمكن تحرير فلسطين إلا بالجهاد الشامل والطويل بكل مراتبه، وأن القتال إحدى هذه المراتب”، في الوقت الذي رفضت كل فتاويه التطبيع تحت جميع أشكاله، سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا.
لم يتوقف دور رئيس الاتحاد العام السابق لعلماء فلسطين في اهتمامه بقضيتها على الخُطَب والفتاوي والدعاء على المنابر، بل تعدّاه إلى رعايته المباشرة لمؤسسات وأنشطة وفعاليات دعم مادي، مثل ائتلاف الخير ومؤسسة القدس الدولية وتنظيم حملات تبرُّع ودعم.
وساهم الدور الذي قام به القرضاوي خلال هذه السنوات من حشد الدعم المالي للفلسطينيين من أجل نصرة قضيتهم، في زيادة مكانته في قلوبهم، حيث يحتل مكانة وازنة لا سيما بين أنصار الحركات الإسلامية على صعيد حماس والجهاد الإسلامي.
وإلى جانب ذلك، زار القرضاوي قطاع غزة المحاصر على رأس وفد علماء من المسلمين عام 2013 في زيارة وصفها بالتاريخية، تخللها مهرجان كان الأكبر له أقامته حركة حماس، التي كانت تحسب نفسها في حينه على جماعة الإخوان المسلمين.
ومع مرور السنوات ورغم تقدُّمه في السن، إلا أنه بقيَ يدعو إلى حشد الدعم المالي والتبرع للمقاومين في فلسطين، من أجل مقاومة الاحتلال والعمل على تحرير فلسطين بالسلاح.
فلسطين في قلب الفتاوي والتشريع
كان لفلسطين حضور بارز في فتاوى الشيخ القرضاوي، والتي أثار بعضها الفصائل الفلسطينية ضدّه لا سيما حركة فتح، التي كانت دائم الاتهام له بالانحياز لحركات المقاومة الإسلامية وتحديدًا حركة حماس، وهو ما كان يجعلها لا تتقبّل الكثير من الفتاوي الصادرة عنه.
تستند فصائل المقاومة في عملها إلى الفتاوي الصادرة عن القرضاوي كثيرًا، نظرًا إلى ما ترى فيه أن نهجه يتوافق مع النهج المتّبع في فلسطين.
ولعلّ أبرز الفتاوي التي أثارت السلطة وفتح ضد الشيخ القرضاوي، فتواه الصادرة عام 2012 بتحريم زيارة المسلمين للمسجد الأقصى تحت الاحتلال الإسرائيلي، كونها تندرج في إطار التطبيع مع الاحتلال وبمثابة قبول بالأمر الواقع.
في المقابل، رأت السلطة في حينه أن هذه الفتوى تتعارض مع الواقع، وأن هذه الزيارات التي قد يقوم بها المسلمون للأقصى من شأنها أن تدعم المقدسيين، وهو ما رفضه الشيخ حينها مؤكدًا أن الضرر العائد أكبر من حجم الفائدة.
أما الفتوى الأخرى فقد أعاد القرضاوي عام 2016 تحديث فتواه، التي أجاز فيها خلال مطلع انتفاضة الأقصى تنفيذ العمليات الاستشهادية بالتفخيخ، بعد أن تطوّرت المقاومة الفلسطينية على صعيد القدرات العسكرية التي باتت تمتلكها.
ورأى العلّامة القرضاوي أن حالة التطور التي وصلت لها المقاومة يمكن أن تغنيها عن تنفيذ هذه العمليات، وبالتالي لا حاجة إليها إلا في حدود ضيقة تقررها الحالة والحاجة فقط، وهو ما سبّب هجومًا من بعض خصومه عليه.
وتستند فصائل المقاومة في عملها إلى الفتاوي الصادرة عن القرضاوي كثيرًا، نظرًا إلى ما ترى فيه أن نهجه يتوافق مع النهج المتّبع في فلسطين، القائم على الوسطية وعدم المغالاة أو التشدُّد، وهو ما تسير عليه أغلب الفصائل.
ومع رحيل القرضاوي يمكن القول إن القضية الفلسطينية خسرت أحد أكبر العلماء الداعمين لها خلال العقود الأخيرة، خصوصًا أنه سخّر وقته وعلمه وحياته لدعمها ونصرتها بكل السُّبل والوسائل، أملًا في تغيير الواقع القائم.