في نهاية العقد الخامس من القرن الماضي، حين كان القرضاوي في منتصف الثلاثينات من عمره، نشر كتابه الأول “الحلال والحرام في الإسلام”، الذي أذاع اسمه وصيته على صعيد الساحة الفكرية الإسلامية، وهو أشهر كتبه وأكثرها إثارة للجدل.
كان كتابه “الحلال والحرام في الإسلام” بحقّ ثورة فكرية في المجتمع الإسلامي، حيث هزَّ بقوة أركان الجمود الفقهي في المدارس المذهبية الدينية في كل الدول الإسلامية، وواجه سيلًا من الانتقادات، بزعم تساهله في الفُتيا والأخذ بالتيسير، لكن ذلك صبَّ في زيادة التصاق الشباب وكل من يبحث عن التجديد الفقهي بالقرضاوي.
قسّمَ يوسف القرضاوي الكتاب إلى 4 مباحث، الأول عن مبادئ الإسلام في شأن الحلال والحرام، عبر مقارنتها مع المفاهيم في الجاهلية عن الحلال والحرام، وقارن الإسلام مع الديانات الأخرى السماوية النصرانية واليهودية، أو الديانات الوثنية والثنوية والمزدكية والزرادشتية.
المبحث الثاني عن الحلال والحرام في الحياة الشخصية للمسلم، في الطعام والشراب والملبس وأنواع العمل والحِرَف، أما المبحث الثالث عن الحلال والحرام في الزواج وحياة الأسرة، ثم المبحث الرابع الحلال والحرام في الحياة العامة للمسلم، مثّل الموقف من المعتقدات والتقاليد، والعلاقات الاجتماعية، واللهو والترفيه، وعلاقة المسلم بغير المسلم.
إلا أن عاصفة الانتقادات للكتاب لم تغيِّر موقفه، حيث أعلن القرضاوي بصراحة ووضوح أن ما يعتمده في الفقه والفكر هو “التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة”، واستمرَّ يوسف القرضاوي بالكتابة ليتحوّل إلى الكتابة في مواضيع الفكر الإسلامي، ليقترب من صفة العالم الموسوعي ويكتب في علم الأصول والسيرة والتفسير.
وقد حثَّ الخطى طوال حياته باحثًا ومفكّرًا لإيجاد حلول ناجعة لمشاكل المجتمع الفكرية والفقهية المعاصرة، عبر مجموعة كبيرة من المؤلفات والرسائل والمحاضرات واللقاءات، ومثّل كتابه “في فقه الأولويات: دراسة جديدة على ضوء الكتاب والسنّة” نقلة نوعية في مجال تصحيح مسار الفكر الإسلامي، والدعوة والعمل الإسلامي والحركات الإسلامية.
نشر يوسف القرضاوي كتابه قبل منتصف العقد التاسع من القرن العشرين، ويقول عن كتابه هذا: “”فقه الأولويات” هو واحد من “ألوان الفقه” التي أطالب بها في برنامجي التجديدي الإصلاحي للأمة، فهناك فقه السُّنَن، وفقه المقاصد، وفقه المآلات، وفقه الموازنات، وفقه الاختلاف، وفقه الواقع، وفقه التغيير، وفقه الأولويات”.
وأضاف: “وقد سمَّيتُ فقه الأولويات قبل ذلك في بعض كتبي بـ”فقه مراتب الأعمال”، وذلك في كتابي “الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف”، ثم رأيت أن “فقه الأولويات” أوفق بما أريد من هذا المصطلح”، (من “مذكرات القرضاوي سيرة ومسيرة”، ص 204).
و”تحاول هذه الدراسة أن تلقي الضوء على مجموعة من الأولويات التي جاء بها الشرع وقامت عليها الأدلة، عسى أن تقوم بدورها في تقويم الفكر، وتسديد المنهج، وتأصيل هذا النوع من الفقه، وحتى يهتدي بها العاملون في الساحة الإسلامية والمنظِّرون لهم، فيحرصون على تمييز ما قدَّمه الشرع وما أخَّره، وما شدَّد فيه وما يسَّره، وما عظَّمه الدين وما هوَّن من أمره، لعلّ في هذا ما يحدّ من غلوّ الغلاة، وما يقابله من تفريط المفرِّطين، وما يُقرِّب وجهات النظر بين العاملين المخلصين” (من “فقه الأولويات: دراسة جديدة على ضوء الكتاب والسنّة”، المقدمة).
يحتوي الكتاب على 11 فصلًا تتفاضل بالأهمية ومن أهمها الفصل التاسع، وهو الأولويات في مجال الإصلاح، فتعال انظر معي مجسات الاستشعار عند يوسف القرضاوي واستباقه الحدث، حيث يقول في الصفحة 225 من كتابه “فقه الأولويات: دراسة جديدة على ضوء الكتاب والسنّة”:
“إن معركتنا الحقيقية في داخل أرضنا يجب أن تكون مع هؤلاء الغلاة حقًّا من العلمانيين وبقايا الماركسيين، الذين لبسوا اليوم لباس الليبرالية الغربية، والذين جنّدوا أقلامهم وأسلحتهم كلها لشنِّ حرب على صحوة الإسلام وانبعاثه الجديد، وتشويه دعوته والتشويش على دعاته، واختراع مصطلحات جديدة لتنفير الناس منه مثل الإسلام السياسي أو الأصولية، والإيقاع بينهم وبين الأنظمة الحاكمة لاستنزاف قوى البلاد في صراعات دامية، لا تكاد تنتهي إلا لتبدأ من جديد في صورة أخرى وباسم آخر”.
“إن تحويل المعركة عن هذا المسار، ومحاولة اختراع أعداء من الإسلاميين أنفسهم ممّن يخالفون بعض الناس في فروع الفقه أو حتى في فروع العقيدة أو في أولويات العمل أو في المواقف من القضايا الجزئية المختلفة، يعتبر غفلة شديدة عن حقيقة العدو الذي يتربّص بالجميع، ويريد أن يضرب بعضهم ببعض وهو يتفرّج عليهم ثم يضربهم جميعًا في النهاية الضربة القاصمة، فمن فعلَ ذلك من الدعاة إلى الإسلام عن جهل فهو مصيبة، لأن الجهل بمثل هذه القضية خطر كبير، ومن فعل ذلك عن علم وقصد فهي مصيبة أعظم وخطرها أكبر، لأنها تكون بمثابة الخيانة للإسلام وأمّته وصحوته”.
فها هو القرضاوي يستشعر أهمية الخطر وأين مكمنه، كما يرصد التحول الاستراتيجي في السياسة العالمية من معاداة التشدد إلى معاداة الوسطية، حسب قوله، كما يشير إلى متجه جديد إلا وهو التقريب بين المذاهب الإسلامية، الذي تحرك به بقوة دافعًا إياه بعد أن اُنتقد على اشتراكه بالتقريب بين الأديان.
وأصدر يوسف القرضاوي في السنة الأولى من القرن الواحد والعشرين كتابًا تحت عنوان “غير المسلمين في المجتمع الإسلامي”، أكّد فيه أن الموقف الإسلامي في التعامل معهم يقوم على مقومات أساسها العدالة والتسامح.
إن اهتمام القرضاوي بالحوار مع الاتجاهات الدينية والفكرية والسياسية الأخرى، قد سبق اهتمامه بالحوار والتقارب المذهبي بين المسلمين، إلا أن يوسف القرضاوي كما قلنا اندفع للتقريب بين السنّة والشيعة، حيث أقامَ حوارات ومناقشات وندوات، ليقرَّر أن يكون نائب رئيس اتحاد علماء المسلمين من الشيعة الإمامية، واستمرت هذه اللقاءات والحوارات لسنوات (انظر مركز البحوث المعاصرة في بيروت، بحث بعنوان “خطاب الدكتور القرضاوي حول التقريب والتبديع: مطالعة وتحليل ونقد”، كتابة مشتاق اللواتي).
تجاوزت رحلة يوسف القرضاوي في التأليف النصف قرن، ليكون رقمًا مهمًّا في قائمة العلماء الموسوعيين في القرنَين العشرين والواحد والعشرين.
إلا أن ما يميز القرضاوي هو مرونته واعترافه بالأخطاء وتراجعه عنها، ومن الأخطاء التي تراجع عنها القرضاوي (حسب رأيه) موضوع التقريب بين الشيعة والسنّة، واعترف جهارًا بأنه تمَّ استغلاله من قبل المرجعيات الشيعية، وأن دعوتهم للتقارب هي محاولة لنشر التشيُّع بين المجتمعات السنّية، واتهمهم بمحاولة اختراق المجتمعات المغلقة سنّيًّا كمصر ونشر التشيُّع فيها (انظر مؤتمر الدوحة لتقريب المذاهب، يناير/ كانون الثاني 2007).
أثار القرضاوي مجموعة من التساؤلات، واتهمه الكثير في فكره، لكن أعداد مؤيدي منهجه وتلامذته بالملايين في أنحاء العالم، ولعلّ أبرز ما يميز الشيخ يوسف القرضاوي تلك القدرات الذهنية التي تجدها في ومضات كثيرة من كتبه، بالإضافة إلى جرأة عالية في التصريح بما يراه حقًّا.
وهكذا تجاوزت رحلة العلامة يوسف القرضاوي في التأليف النصف قرن، ليكون رقمًا مهمًّا في قائمة العلماء الموسوعيين في القرنَين العشرين والواحد والعشرين، وليضع المفاتيح بيد من يرغب في السير على خطاه، من خلال المئات من الكتب والرسائل التي تركها شاهدة على مسيرة عظيمة من العطاء الفكري.