اتسمت علاقة الشيخ يوسف القرضاوي بجماعة الإخوان المسلمين بنوع من الخصوصية والتفرد، فهي لم تكن كغيرها من العلاقات أحادية الاتجاه بين عضو وتنظيم أو تابع ومرجعية، بل كانت في معظمها علاقة تكاملية، مدار ثنائي المسار، نهر له منبعان ومصب.
ورغم أن القرضاوي لم يُعرف عنه انتماء حركي أو فكري غير الجماعة، فإنه لم يكن يومًا ذلك العضو الممتثل لها على طول الخط، المستسلم لمسارها الفكري والأيديولوجي دون نقاش أو جدال، فهناك الكثير من نقاط الاشتباك شهدتها تلك العلاقة الممتدة على مدار أكثر من 75 عامًا.
في كتابه “الإخوان المسلمون سبعون عامًا من الدعوة والتربية” يوثق الشيخ الراحل علاقته بالجماعة فكريًا وكيف أنها كانت مرجعيته الأساسية في كثير من الشؤون، بل إن تلك العلاقة كانت نموذجًا يستوجب الاقتفاء لما سلكته من معارج ومرت به من محطات أخرجت في النهاية عالمًا بهذا القدر وتلك المكانة المرموقة.
وما إن ترجل الشيخ، مغادرًا الحياة في هدوء، حتى خرجت أبواق خصومه تتهمه بأنه المرجعية الكبرى لأهواء الإخوان السياسية، محملين إياه مسؤولية الدماء التي سالت على مدار السنوات الـ 12 الماضية، متوهمين أنه دار إفتاء الجماعة وقطبها السياسي الأكبر، وفي هذا التقرير سيتم إلقاء الضوء على تلك العلاقة الجدلية بين القرضاوي والإخوان، في محاولة لفض حالة الاشتباك المشتعلة والوقوف على نقاط الالتقاء وتقاطعات الخلاف بين الطرفين.
الهروب من فخ التبعية
بداية وقبل الغوص في أسبار تلك العلاقة المتشابكة لا بد من التأطير لمبدأ راسخ ولبنة محورية في جدار هذه العلاقة، وهو ما يتعلق بخروج القرضاوي عن قضبان التبعية للجماعة، فلم يكن يومًا باحثًا عن منصب أو جاه أو سلطان داخل التنظيم، رغم أنه كان أحد أقطابه ممن يشار لهم بالبنان.
القرضاوي الذي انضم في سن مبكرة للإخوان وتعرض بسببهم إلى السجن 3 مرات: الأولى في يناير/كانون الثاني 1954 ثم في نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، أما المرة الثالثة فكانت عام 1963، وتراوحت فترات الاعتقال بين شهرين إلى 20 شهرًا، وكان المرجعية الفقهية الأبرز لهذا الكيان، رفض منصب المرشد مرتين في واقعة لم تحدث من قبل.
المرة الأولى عام 1976 حين خلا منصب المرشد الثاني بعد وفاة حسن الهضيبي وعُرض عليه خلافة الهضيبي كمرشد للجماعة لكنه رفض، وظل الإخوان دون مرشد لمدة عامين تقريبًا، أما المرة الثانية فكانت بعد وفاة المرشد مصطفى مشهور عام 2002، حينها عرض عليه مأمون الهضيبي التنازل عن منصب المرشد له لكنه رفض للمرة الثانية، حيث كان يميل القرضاوي إلى لعب دور “اللاعب الحر” في الملعب الإخواني، فلا يتقيد بخطة أو تكتيك محدد يُملى عليه، وإنما يبقى يتحرك وفق معتقداته الخاصة وأفقه الواسع، وهو ما سمح له دخول الملعب أكثر من مرة والخروج منه مرات، لكن دون أن يغادر الفريق أو يحترف لدى فرق أخرى كما هو حال غيره من رموز التيار الإسلامي.
مدرسة الإخوان الفقهية
كان القرضاوي في نظر جماعة الإخوان جامعة الفقه الميسر والجسر الكبير الذي سمح للكيان بالانتقال من فخ الجمود إلى دروب المرونة المتزنة، ومن التشبث بتلابيب التراث إلى الالتحاق بالعصرنة والعولمة دون الإخلال بالمرتكزات الإسلامية الثابتة، فكان فاكهة الفقهاء وقبلة الباحثين وقطب الدعوة الأبرز لسنوات طوال.
وينسب للقرضاوي أنه صاحب الفضل في إخراج الفقه من الخاص إلى العام، وهي المعضلة التي لطالما عرقلت الإخوان عن تحركاتهم وأنشطتهم لا سيما في ظل الاصطدام العنيف مع بعض الملفات والمسائل التي وجدت الجماعة فيها مأزقًا كان من الممكن أن يكلفها الكثير، فكانت رؤى الشيخ المخرج الآمن لهم من تلك المطبات، حيث تشابك مع كل تلك المسائل بمرونة فقهية كان لها صداها في تجنيب الحركة الإسلامية برمتها ويلات الحرج.
وصلت العلاقة بين الطرفين في أوج قمتها حين كان الملعب منحصرًا في المسائل الفقهية والدينية، فكان القرضاوي المدرسة الأم لتقريب الفقه وتبسيطه للناس حتى بات سهل المنال والفهم، ليس لدى المسلمين فقط، لكن من غير المسلمين كذلك، فكان كتابه “الحلال والحرام في الإسلام” الصادر عام 1959 نقطة الانطلاق الأولى نحو ريادة تلك المدرسة الفقهية الجديدة التي يعتبرها البعض امتدادًا للمدرسة الإصلاحية التي قادها سيد سابق وغيره من أقطاب الحركة الإسلامية وفطاحلها العظام.
وكرس العالم الراحل جل حياته للزود عن الإخوان ومنهجهم الدعوي، إيمانًا منه بقيمة رسالتهم الدينية ونشاطهم الخيري الذي كان مضرب المثل وموطن الإعجاب لدى جموع الحركات الإسلامية داخل مصر وخارجها، مستندًا في ذلك إلى أرضيته الأيديولوجية العقدية التي تتشابه حد التطابق مع الأسس الأولى التي بنيت عليها الجماعة.
واختار القرضاوي وحده – رغم وعورته – طريق الصدام المبكر مع الملفات الجدلية التي كانت تقف حجر عثرة أمام الجماعة في معركتها مع العلمانيين والليبراليين، فدخل في اشتباكات حادة مع المسائل ذات الرؤى المتباينة حتى بين علماء المسلمين ومذاهبهم المختلفة، وعلى رأسها حكم الغناء والموسيقى وعمل المرأة ومشاركتها السياسية ومفهوم الجهاد، العام والخاص، والموقف من الحاكم المستبد، والتعامل مع المؤسسات المالية والبنوك، وغير ذلك من القضايا الحساسة التي نجح من خلال ما أدلاه بشأنها في رفع الحرج والتيسير على الناس وهو ما زاد من رصيده الاجتماعي، داخل الدوائر الدينية وخارجها، ما أهله لأن يكون مرجعًا مهمًا ومحوريًا لطلبة العلم حتى من داخل مؤسسة الأزهر ذاتها التي تتقاطع في كثير من مساراتها مع منهجية الإخوان.
مؤطر الجماعة التربوي
تجاوزت علاقة القرضاوي بالإخوان حاجز الدور الدعوي الشامل والجسر الفقهي الرصين، إلى آفاق رحبة أخرى، حاول من خلالها أن يقدم للجماعة عصارة خبراته الحياتية ورؤيته نحو بناء كيان شمولي أكبر منه تيار ديني بحت، فاختار أن يكون – بجانب أنه جامعة فقهية – مؤطر الجماعة التربوي.
وبينما كان يثري الكيان بأمهات الكتب في شتى المجالات الفقهية والعقدية والشرعية، كان في مسار مواز يؤدي دور التربوي والمربي والناصح الأمين، فساهم بشكل محوري في وضع اللبنات الأولى للبناء التربوي لأعضاء الجماعة، وتدشين جدران الكيان الاجتماعية والفردية، الخاصة والعامة.
ولأجل تحقيق هذا الهدف الأعم جاءت سلسلة مقالاته المطولة التي جاءت تحت عنوان “ثقافة الداعية” التي كانت تصدر في صورة مقالات منفردة في مجلة الدعوة التابعة للإخوان، ثم تم تجميعها في كتاب خاص بها يحمل نفس الاسم، أعقب ذلك بمؤلفات أخرى أقرب إلى رسائل تربوية منها “الوقت في حياة المسلم” ثم “ظاهرة الغلو في التكفير”، ويعد كتابه “التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا” المرجعية ذات الموثوقوية الكبرى لدى التنظيم.
ولم يدخر الشيخ وقته ولا جهده في تعزيز الجانب التربوي لدى طلابه وأبناء الجماعة، فكان لا يكل ولا يمل من عقد اللقاءات التربوية المطولة، التي كانت تجمع بين الدين والدنيا، علوم الشرع وعلوم الحياة، التراث والمدنية، كما كان يسلط الضوء على المسائل الحياتية داخل الأسرة من تربية ومأكل ومشرب وأخلاق وقيم وتعاملات وغيرها من التفاصيل التي تكون مجتمعة هيكل الأسرة المسلمة، اللبنة الأولى في المجتمع المسلم الأعم والأشمل.
وكانت مؤلفاته في هذا الشأن المنهج الأكثر حضورًا لدى الدورات التربوية التي كانت تجريها الجماعة داخل فروعها ولجانها في شتى محافظات مصر، وليس من المبالغة القول إن الأجيال الحاليّة لشباب الإخوان خاصة وشباب الحركات الإسلامية والمجتمع المسلم بوجه عام ترعرعوا على كتب ومؤلفات القرضاوي، واستقوا فكرهم ومنهج حياتهم من معينه ومداده الذي لم يتوقف، ولن يتوقف حتى بعد رحيله.
التغريد مرحليًا خارج السرب الفقهي
في مقاله المنشور على الموقع الرسمي للقرضاوي، يستعرض الباحث في الحركات الإسلامية، حسام تمام، بعض المواقف التي غرد من خلالها الشيخ خارج سرب الإخوان الفقهي، مختلفًا معهم، ومعارضًا لبعض آرائهم، بما يبرهن أنه ما كان يومًا “إمعة” لفكر أو منهج ما، حتى لو كان منهج الجماعة التي تربى في كنفها.
الاشتباك الأول كان في موضوع الحقوق الاجتماعية والسياسية للمرأة، حيث أيد القرضاوي ما توصل إليه الكاتب عبد الحليم أبو شقة في كتابه “تحرير المرأة في عصر الرسالة” بشأن إباحة عمل المرأة ومنحها المزيد من الحقوق، وهو ما خالف ما استقر عليه الجماعة من تشدد وقتها، بل إن الشيخ خالف برأيه هذا رأي المؤسس حسن البنا، حين أجاز عمل المرأة في المجال السياسي وإقرار حقوقها السياسية كاملة من مشاركة وتصويت وترشح للانتخابات وخلافه.
الاشتباك تعاظم أكثر حين سبح القرضاوي ضد التيار الحركي الإسلامي في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حيث أجاز نشأة الأحزاب السياسية وتعددها، وفتح الباب أمام مرونة سياسية أثارت جدلًا كبيرًا وسجالًا ساخنًا على موائد الفكر والنقاش بين الحركات والتيارات الإسلامية.
ثم جاءت أزمة سيد قطب لتؤكد حرص القرضاوي على التمسك بثوابته بصرف النظر عن الخط العام للجماعة، فحين تم تدشين ما سمي بـ”التيار القطبي (نسبة إلى الشيخ سيد قطب) التحق به كثير من أعضاء الإخوان ممن انبهروا بالأطروحات القطبية التي كانت تميل إلى التشدد والغلو، غير أن القرضاوي رفض أن يسير خلف الركب، متشبثًا بثوابت الحركة وما أطلق عليه “التيار البناوي” (نسبة إلى المؤسس حسن البنا).
وبينما كان الإخوان يرفعون مؤلفات سيد قطب وأطروحاته إلى عنان السماء، وجه القرضاوي سهام النقد والتمحيص لتلك الأطروحات التي كان يراها غاية في التشدد في مقال نشره في جريدة الشعب المصرية، ثمانينيات القرن الماضي، تلاه ببعض الرسائل والمقالات النقدية الأخرى، وهو ما أثار ضده قيادات كبيرة داخل الإخوان والحركة الإسلامية بوجه عام، وكانت واحدة من أشرس المعارك الفكرية التي واجهها الشيخ في حياته.
معارضة وصول الإخوان للحكم
رغم أن القرضاوي كان أحد الداعمين للربيع العربي 2011 والخروج على الأنظمة المستبدة والثورة على الحكومات الفاسدة، وكان عراب الانتفاضات في مصر وسوريا واليمن، كما يطلقون عليه، فإنه عارض طموحات الإخوان السياسية المتمثلة بالوصول إلى السلطة.
ينقل طلابه عنه أنه وعلى هامش لقاء جمعهم به في منزله بالقاهرة حين قدم إلى مصر عقب ثورة يناير/كانون الثاني 2011، أنه نصحهم بدعم المرشح الرئاسي (المعتقل حاليًّا) عبد المنعم أبو الفتوح، المنشق عن الجماعة، في مواجهة مرشح الإخوان، محمد مرسي، المدعوم من قيادة الحركة وأعضائها بشكل كامل.
كان القرضاوي يرى أن الإخوان لم يكونوا مؤهلين بعد لحكم مصر في ذلك الوقت، وأن نشاطهم الدعوي والخيري هو الأفضل لهم والأكثر استمرارية والأشمل نفعًا، وكان يرى أن الوقوف بجانب أبو الفتوح، المنشق عن التنظيم، هو الخيار الأخف من وصول الجماعة للسلطة، وهو ما أثار الانتقادات ضده، رغم أنه دعم مرسي في المرحلة الثانية بعدما خرج أبو الفتوح من المنافسة.
وهنا يقول الباحث في الحركات الإسلامية، حسام تمام: “القرضاوي امتلك القدرة على تجاوز الإطار التنظيمي وعقباته، لكن دون الوقوع في مأزق الاضطرار للخروج عليه ومن ثم الاصطدام به، فهو استطاع إنجاز انتقال هادئ من المركز إلى التخوم ومن التخوم إلى خارج التنظيم بتدرج ودون صدام”، وكان الشيخ يدرك قيمة وجوده في أكثر من موقع داخل الجماعة لكن دون الانخراط في مسارها الأيديدلوجي على طول الخط، وهي الاستقلالية التكاملية وليست الصدامية كما حدث مع آخرين.
وقد دفع القرضاوي جراء تلك العلاقة ثمنًا باهظًا من مكانته لدى العالم أجمع، حسبما قال الكاتب الصحفي عبد العظيم حماد، رئيس تحرير الأهرام الأسبق: “لولا الصراع السياسي الناجم عن توارث عقيدة الإصلاح والنهضة بالاستيلاء على السلطة والوصاية على المجتمع سلمًا أو عنفًا لدى التنظيمات الإسلامية المسيسة، لكان للشيخ يوسف القرضاوي أعظم إسهام في تجديد الفقه أو لعمّت اجتهاداته لدى كل المسلمين، لكن الخصومات السياسية أخذت من مكانته الكثير بغير حق”.
ويلخص القرضاوي نفسه حياته في كلمات موجزة ضمن خطبة مطولة قال فيها: “عشت في قطر بحمد الله منتصب القامة، مرفوع الهامة، محفوظ الكرامة، لا يستطيع أحد أن يتهمني بأني نافقت يومُا في حياتي، لو كنت أحب أن أنافق أو أسير في ركاب السلطان لبقيت في موطني الأصلي، وبقليل من التنازلات لوصلت إلى أعلى المناصب التي وصل إليها من هم دوني بكثير، ولكني أثرت أن احتفظ بديني واحتفط بمبدئي وأثبت على موقفي وأقول للطغاة، أقول لكل ظالم جبار متحديًا، ضع في يدي القيد، ألهب أضلعي بالسوط، ضع عنقي على السكين، لن تستطيع حصار فكري ساعة أو نزع إيماني أو نور يقيني، فالنور في قلبي وقلبي في يد ربي وربي ناصري ومعيني، سأعيش معتصمًا بحبل عقيدتي وأموت مبتسمًا ليحيا ديني”.