يتّفق خبراء التربية على أن الطفل هو اللبنة الأولى نحو بناء جدار المجتمع القويم، ومن ثم إن الاهتمام بمدخلاته وروافد تشكيل عقله ووعيه وحسّه من الأهمية والخطورة بمكان، ولا بدَّ أن تحتلَّ مكانة متقدمة في قائمة أولويات القائمين على أمور الدول والحكومات، والمهتمين بالشأن العام والتخطيط للمستقبل.
وما يمكن للشعوب يومًا أن تنهض دون نهضة أطفالها وتنشئتهم تنشئة جيدة، واختيار نوافذ التغذية العقلية والاجتماعية بعناية فائقة، على أمل التحكم بالمدخلات التي تقود في النهاية إلى المخرجات المطلوبة التي تتماشى مع الهوية الثقافية والإرث الحضاري، وتربط بينه وبين مستجدات العصر ومقوّمات النمو والازدهار.
وتعدّ الدراما واحدة من أبرز الروافد التي تشكّل عقل ووعي الطفل، إن لم تكن -مع الأسرة والمدرسة- الرافد الأخطر والأكثر تأثيرًا، بل إنها تتفوق في بعض الأحيان على الرافدَين الأولَين، لما تخاطب في الصغار من حواسّهم وطموحاتهم وخيالاتهم، ومن ثم تحقق السبق والصدارة.
ويذهب النقّاد والتربويون معًا إلى أن الاهتمام بدراما الكبار وإهمال الصغار كمن يحرث في أرض بوار، يهتمّ بالسطح ويترك الأعماق خاوية، فتكون النتيجة جدب وتصحُّر، وفي أحسن الأحوال تسطيح توعوي مشين.
ومن ثم، وفي ظل المستجدات التكنولوجية الأخيرة التي حوّلت العالم إلى أشبه بالكفّ الصغير، بات الحديث فيه عن الخصوصية وهمًا، والتمسك بالإرث الثقاقي مهمة شاقة كمن يمسك بالجمر، كان لا بدَّ من وضع دراما الطفل العربي تحت مجهر الاهتمام، الرسمي والشعبي، على أمل تشكيل وعي الأطفال بشكل قويم يتناسب وهويتنا العربية من جانب، والتصدي لتحديات التغريب ومخاوف الانسلاخ الثقافي من جانب آخر.
دراما الطفل العربي.. واقع متدنٍّ
“لم يكن الطفل العربي على رادار الإنتاج الدرامي العربي، ونعاني من ندرة كبيرة في المحتوى المقدَّم للصغار، وهو ما ينذر بمستقبل أكثر خطورة للأجيال القادمة”.. بهذه الكلمات علّق الناقد الفني السيد عبد الفتاح، رئيس تحرير موقع “أوسكار بالعربي” المتخصص في الشأن الفني، على دراما الطفل في المنطقة العربية، لافتًا إلى أن هناك تهميشًا وتسطيحًا كبيرَين لمرحلة الطفولة في كل المجالات، ومن بينها الفن والمحتوى الإعلامي.
وأوضح عبد الفتاح، في حديث خاص لـ”نون بوست”، أن خارطة الإنتاج الفني والدرامي في الوطن العربي السنوية تكاد تخلو من عمل واحد يستهدف الأطفال، منوّهًا أن الدول العربية تنتج سنويًّا ما لا يقلّ عن 30 فيلمًا سينمائيًّا وأكثر من 50 مسلسلًا، ليس من بينهم أي محتوى يستهدف الطفل.
وكشف أن الأعمال الخاصة بالطفل، والتي يتابعها الصغار هذه الأيام، إما تعود لسنوات طويلة مضت أو بعضها مدبلج عن محتوى غربي أو شرقي، وهو ما يحمل في طيّاته خطورة فادحة، محذّرًا من تبعات هذا التجاهل لدراما الطفل على المدى البعيد، إذ من المرجّح أن يخرج للأضواء أجيال ممسوحة الهوية سطحية الثقافة مشوَّهة الانتماء.
جانب آخر تطرّق إليه الناقد الفني المصري، شكّل محورًا مهمًّا في تراجع حضور دراما الطفل عربيًّا، وهو ما يتعلق بعامل الربح والخسارة، إذ يتعامل المنتجون في الغالب مع أي عمل فني بهدف تجاري بحت، وتحقيق الأرباح من وراء تلك الأعمال من خلال نجوم الشبّاك والقصص التي تداعب أهواء وخيالات ومشاعر وغرائز الجمهور، ومن ثم تغيب الأعمال التي تستهدف الطفل من هذا الماراثون كونها لا تحقق العائد المتوقع، ما يجعل من إنتاجها مغامرة تكبّد صاحبها الخسائر.
ووفق حديث رئيس تحرير موقع “أوسكار بالعربي” الفني، فإن التعويل على إنتاج أعمال درامية خاصة بالأطفال يكون في الأساس مسؤولية حكومية في المقام الأول، ذات هدف قومي بحت، بعيدًا عن البُعد التجاري التسويقي، مستشهدًا ببعض الأعمال القليلة ومنها المسلسل المصري الشهير “بكار” المنتَج عام 1998 للمخرجة الراحلة منى أبو النصر، واستمرَّ حتى عام 2007 لكنه توقف فجأة دون إبداء أسباب، كذلك مسلسل “يوميات ونيس” الذي وإن كان لا يعدّ دراما طفل، لكنه يستهدف توجيه رسائل تربوية جيدة للصغار في سياق درامي محترم، بعيدًا عن الابتذال والتقليد.
أُسُس بناء دراما طفل جيدة
في ورقته البحثية المنشورة بالعدد 658 من مجلة “مسرحنا” في أبريل/ نيسان 2020، والمعنونة بـ”إشكاليات دراما الطفل”، يتناول الكاتب المتخصص في أدب الطفل، مجدي مرعي، 4 محاور أساسية يمكن من خلالها بناء دراما طفل جيدة وعلى أُسُس قويمة، تحقق الهدف المنشود في تشكيل عقل ووعي الصغار، وتصقل مواهبهم وتمنحهم القدرة والطاقة على الإبداع والرقي والنهوض بمجتمعاتهم.
المحور الأول يتعلق بالتخطيط، حيث وضع الخطوط العريضة للمحتوى المقدم، والذي لا بدَّ أن يتوافق مع القيم التربوية المنبثقة بالخلفية الدينية والثقافية للمجتمع العربي، مع الوضع في الاعتبار التركيز على المحتوى الذي يشجّع الأطفال على بناء وعيهم العقلي ونموهم الجسدي من خلال التشديد على المحفزات، وتحويل المادة الدرامية من مجرد مادة للترفيه إلى مادة تربوية في المقام الأول.
المحور الثاني خاص بالتنفيذ ووضع جدول زمني وحدثي لترجمة الخطوط العريضة للخطة الموضوعة، مع التأكيد على ضرورة أن يتناغم التنفيذ مع المواسم السنوية كموسم رمضان والأعياد وخلافه، بحيث يتمّ استهداف محتوى محدد ذي أهداف واضحة، مع تهيئة الأجواء والبيئة اللازمة، وتوفير الدعم المادي اللازم لذلك بشكل احترافي.
الاعتماد على الأعمال المدبلجة للأطفال يحمل الكثير من المخاطر والتهديدات، منها ما يتعلق بالأخلاق والآخر بالهوية والثالث بالعقيدة، أما الخطر الرابع فيتعلق بالفطرة الإنسانية السوية.
ثم ثالثًا يأتي الشكل كأحد مرتكزات عملية تنفيذ بناء عمل درامي خاص بالطفل بشكل قوي، وهو الذي يجب أن يراعي بعض الاعتبارات منها اللغة المستخدمة وضرورة أن تحمل جرسًا محببًا للطفل، وتصاغ ببساطة بعيدة عن التغريب وبعيدة عن المفردات التى أُدخلت حديثًا إلى عالمنا وبلغة يفهمها دون ضجر.
كذلك “أن يمتزج الحوار بالحركة، فالحوار بمفرده يبعث على الملل إذا استغرق فترة زمنية طويلة، ويبقى الخيار الأفضل هو أن يمتزج الاثنان معًا ويتوافقا”، مع الوضع في الاعتبار بعض المسائل الأخرى كالأداء والديكور والإضاءة وغيرها من كماليات العمل ومبهراته.
ومن أهم محاور الشكل “المضمون المقدم”، والذي يجب أن يتوافق مع القيم الثقافية والإرث الحضاري للمجتمع العربي، وأن يكون امتدادًا للمتوارث من الأخلاقيات والمثل والسلوكيات الجيدة، التي تبني طفلًا قويمًا قادرًا على تحمُّل المسؤولية وحمل أمانة المستقبل بقوة واقتدار.
ورابعًا تأتي “المتابعة”، ويقصد بها “مطابقة الخطة مع ما يجرى تنفيذه، ورصد العقبات الطارئة والبحث عن حلول لها، والسلبيات التى ظهرت والتى ربما تحتاج الى تعديلات فى الخطة، وتقسيم العمل إلى مراحل وخطوات، لا يعني ذلك الجمود بل هي من المرونة بما يسمح لها بالنظر فيها على ضوء معطيات الواقع”.
وأخيرًا التقييم، وهو الحلقة الأخيرة في بناء العمل الدرامي للأطفال، حيث مراجعة ما تحقق من الأهداف المنشودة وأوجُه الإنجاز والقصور، بما يساعد في إكمال العمل وفق الأبجديات الموضوعة أو تغييره للأفضل.
الأعمال المدبلجة وتهديد الهوية الثقافية
الاعتماد على الأعمال المدبلجة للأطفال يحمل الكثير من المخاطر والتهديدات، جمعها الخبير التربوي، عماد الدين الرشيد، في 4 مسارات حسب نوعية تلك التهديدات، فمنها ما يتعلق بالأخلاق والآخر بالهوية والثالث بالعقيدة أما الخطر الرابع فيتعلق بالفطرة الإنسانية السوية.
وعن أبعاد الخلل الذي تحمله تلك الأعمال المدبلجة، أنها أولًا صُنعت لغير العرب والمسلمين وفي بيئات وثقافات مختلفة، ولأطفال ومجتمعات تختلف في الشكل والمضمون عنها في المجتمع العربي، هذا بجانب أن تلك الأعمال استندت في مضمونها على أخلاقيات الغرب والشرق على حد سواء، وفي الدوبلاج لا تُراعى الفوارق بين المنظومة القيمية للدول المنتِجة ونظيرتها في الدول المستهلِكة، وهنا تختلط الأمور وتنقلب التوازنات بما يهدد الطفل الذي يفتقد لحائط الصدّ التوعوي، الذي يستطيع من خلاله تقييم المحتوى الذي يتلقّاه.
وعن دور هذه النوعية من الأعمال على أخلاقيات الطفل العربي، يشير الرشيد إلى أنها تروّج لبعض السلوكيات التي تتعارض مع المجتمع العربي كالتعرّي على سبيل المثال، وهو ما يتضح من خلال بعض الأعمال الشهيرة، مثل مسلسل “ساسوكي” و”فلنستون” و”موكا موكا”، وهي المسلسلات التي يظهر أبطالها في مظهر لا يتلاءم مع أخلاقيات الطفل، كما تروّج تلك الأعمال لما يُسمّى بـ”علاقات الصداقة والحب” بين المراهقين والمراهقات دون سند ديني أو شرعي، وهو ما يتعارض مع المنظومة القيمية الإسلامية.
التأثير السلبي يمتدّ من الأخلاق إلى الهوية، وذلك من خلال بعض النقاط، على رأسها التمرد على القيم بدعوى الشجاعة والتحرر، كذلك ترسيخ حق اليهود، كما ذكر أحد الكتّاب اليهود في مقال له عام 1996 بمناسبة مرور 50 عامًا على تدشين الشخصيتَين الكرتونيتَين الشهيريتَين “توم وجيري”، اللتين أنتجتهما شركة “تيرنر” اليهودية.
حيث قال كاتب المقال إن صناعة هاتين الشخصيتَين كانت بهدف تكريس حق اليهود في فلسطين المحتلة، من خلال التأثير على اللاشعور، “فكل الناس يُفضّلون صاحب البيت، ولا يفضّلون الوافد، وهم أرادوا المُشاهد باللاوعي أن يتقبّل الوافد ويقدّمه على صاحب البيت، وما الذي يربّيه الناس في بيوتهم، القط أم الفأر..؟”، بحسب تعبير الخبير التربوي عماد الدين الرشيد.
ليس كل شيء يجب أن يخضع لمفاهيم الربح والخسارة، ونظريات السوق والتجارة، فهناك مسائل ذات أهداف سامية، يفترض أن تفتح الخزائن أمامها دون انتظار المردود المالي.
الخطر يندرج كذلك على العقيدة، لا سيما أن إنتاج معظم تلك الأعمال إنتاج أجنبي لدول غير مسلمة، ما يجعل من مضمونها تهديدًا مباشرًا على عقيدة ودين الطفل، مع الوضع في الاعتبار امتلاك اليهود لكبرى شركات الإنتاج الخاصة بدراما الطفل، ومن أهم مظاهر التأثير في العقيدة الترويج لمفهوم تعدُّد الآلهة وتشويه القدر.
وفي الأخير تأتي الفطرة السوية في ذيل قائمة ضحايا الأعمال المدبلجة، ويعني بالفطرة هنا المؤهّلات والقدرات التي خلق الله الإنسان عليها دون تعديل أو تغيير، إذ تقوم تلك الأعمال بالعبث بتلك الفطرة بما يهدد الصحة النفسية للطفل، ومن أبرز الآثار في هذا الشأن الترويج للعنف والبلطجة والسرقة، ويأتي على رأس الأعمال التي تروج لتلك المفاهيم “أبطال الديجيتال”، “القناص”، “النمر المقنع”، “ميغا مان”، “باتمان” و”إكس مان”.
يقول الخبير الاجتماعي محمود الضبع في مقاله المنشور بصحيفة “الأهرام” المصرية، إن أدب الأطفال وما ينبثق عنه من أعمال درامية وفنية وإعلامية يعدّ مدخلًا أساسيًّا من مداخل بناء شخصية المستقبل، في إشارة إلى الطفل، وإحدى أبرز وسائط التربية والتنشئة، ولذا فهو يحتاج إلى عناية فائقة وأن يوضع موضع الاهتمام والعناية من قبل الجميع، حماية لمستقبل الأوطان والمجتمعات العربية من مخاطر التغريب، في ظل حزمة التحديات التي يواجهها الطفل العربي من غزو ثقافي وانسلاخ للهوية وتسطيح للوعي.
ليس كل شيء يجب أن يخضع لمفاهيم الربح والخسارة، ونظريات السوق والتجارة، فهناك مسائل ذات شأن قومي وأهداف سامية، يفترض أن تُفتَح الخزائن أمامها دون انتظار المردود المالي، ومنها إعداد الطفل السوي وحمايته من مخططات التهميش والغزو، وذلك من خلال اختيار المحتوى الملائم له لتشكيل وعيه على أُسُس قيمية وأخلاقية ثابتة لا تتغير ولا تتبدّل ولا تتأثر بالمحتويات الأجنبية، التي قد تستهدف عمدًا تفريغ المجتمعات العربية والإسلامية من مستقبلها البشري، وتجهيل صغارها والسيطرة على عقلهم بمحتوى يتعارض مع الإرث الثقافي والقيمي للمجتمع العربي المسلم.
وفي ظل التكنولوجيا الهائلة وخروج مفاهيم التحكم والمراقبة عن السيطرة، لا بدَّ أن تكون دراما الطفل على طاولة النقاش الحكومي العربي في أقرب وقت، هذا إن كان لدى تلك الحكومات النية في حماية أبنائها من الانسلاخ، وإلا فما عليها سوى تركهم للمحتوى الأجنبي الذي بدوره يفعل أضعاف ما يفعله السلاح.