تمثل الملاحم والحكايات الشعبية الشرقية واحدةً من أكثر المواد القصصية التي عالجتها السينما في منتجات بصرية، فقد استلهمت سلاسل تجارية كثيرة من قصص ألف ليلة وليلة وعلاء الدين والسندباد وعلي بابا وغيرها من الأسماء التي تتصدر الملصقات الدعائية، ولم تقتصر الأقصوصة والجو الشرقي على الأفلام التجارية فقط، بل ألهمت مخرجين عظماء مثل بازوليني في “ليال عربية” عام 1974، وفيلم الرسوم المتحركة “ألف ليلة وليلة” للمخرج الياباني إيشي ياماموتو، وثلاثية المخرج البرتغالي ميجيل جوميز “ليال عربية”.
بالجانب إلى الكثير من المعالجات والقصص الأخرى التي تستلهم تفاصيل عالمها من ألف ليلة وليلة على عدة مستويات، وهذا ليس غريبًا، لأن الكتاب زاخر بالحكايات التي تحمل طابعًا غرائبيًا يصلح للشاشة ويدنو من الطبيعة الترفيهية للأفلام التجارية كما حدث في أكثر من عمل تجاري شهير.
يستدعي المخرج الكبير جورج ميلر هذا النوع من العوالم في فيلمه الأخير، يصبغ قصته بصبغة شرقية، ويوازي بحكيه الأقاصيص المروية في ألف ليلة وليلة، يستحضر طقوسًا وأجواءً معروفةً تنتمي لعوالم بعينها، ويوفق بينها في صورة معاصرة لتيمة المصباح وجني المصباح، يقتبسها عن عمل أدبي “الجن في عين العندليب” للكاتبة والشاعرة أنتونيا سوزان بيات، وهي مجموعة قصصية مكونة من خمس قصص أسطورية قصيرة.
يختار مخرج “ماكس المجنون” واحدةً منها ويحولها إلى مروية بصرية جميلة، ليعود مرة أخرى إلى السينما بعد غياب أكثر من ست سنوات كاملة، بفيلم يحمل ثقله الزمني بين طيات عنوانه “ثلاثة آلاف عامًا من الشوق”، لكنه في الحقيقة أخف من عنوانه، يتحرك بنسق سريع وينتقل بين الحدود الزمنية بشكل يمنح المشاهد إيقاعًا مميزًا يبقيه متحفزًا للنهاية.
ومع كل قفزة زمنية يتكون عالم جديد كليًا، بأزياء وصور وثقافة ولغة وإيقاع وحبكة جديدة، ربما هذا ما يميز السردية، بيد أنه على العكس أيضًا، يؤخذ عليه بطريقةٍ ما، فهو يحصر نفسه في عوالمه بشكل حصري، وهذا يفقد المعالجة قوتها الحداثية والمعاصرة، ويزيحها نحو النمط التقليدي للحكايات السحرية.
تسافر آليثيا بيني (الممثلة تيلدا سوينتن) المتخصصة في علم السرديات والحكايات إلى مدينة إسطنبول لتحضر أحد المؤتمرات الأكاديمية، وخلال تلك الزيارة القصيرة تشتري تذكارًا بسيطًا من أحد البازارات، قنينة زجاجية مغلقة، تكتشف فيما بعد أن البلورة الزجاجية الصغيرة تحتوي على جني مارد (الممثل إدريس ألبا) سيحقق لها ثلاث أمنيات كما جرت العادة في معظم القصص الشعبية في الشرق، تحفز آليثيا – المتخصصة في الحكي – الجني على سرد حكايته، لتجري الأحاديث وتتدفق الصور من ثلاثة آلاف عام، تنقطع وتتصل في مواضع زمانية معينة، ثم ترتد إلى الواقع مرة أخرى.
يتحرك الفيلم في مساحة الجني، يراهن المخرج على القدرة الحكائية لإدريس ألبا، ويوظف تيمة الصوت أو الراوي بشكل يدير المشاهد ويمرر المعلومات للمتفرج، فالسردية كلها مبنية على الاستماع وعرض تاريخ موازٍ.
في بعض الأوقات يبدو الفيلم سماعيًا، رغم المجهود العظيم المبذول في الجانب البصري والمؤثرات، ربما يعود ذلك إلى الإيقاع ذاته، لأن المخرج في حاجة لتمرير مجموعة معلومات ضرورية في وقتٍ قصير، لهذا يتحرك الفيلم أكثر في منطقة سماعية، وهذا يحد من التجربة الإبداعية، لكنه ينتج تجربة أقرب إلى الحميمية، لا تحتاج إلى الكثير من الاجتهاد الفكري لتفكيك نصٍ أو صورة، فقط الاستماع والاستمتاع بالحكي، كأن والدتك تروي لك حكاية قبل النوم.
تقع المعضلة في كون الجني منبوذًا من عالمه، لأنه صرف قبل تحقيق الأمنيات الثلاثة لمالكيه أو صرف بناءً على أمنية من الأمنيات الثلاثة، ما يدفع الجني إلى محاولة تحقيق الأمنيات الثلاثة والعودة إلى عالمه الطبيعي، فالعالم البشري يؤذيه مثلما يؤلمه البقاء في قنينة سحرية.
ومن خلال هذه الرغبة في التحرر، يقص على آليثيا حكايته، وهي بدورها تتأثر بالحكاية، فهي على الجانب الآخر شخصية انطوائية ووحيدة، تراكم الحكايات وتتعايش بينها، تختار الانعزال على الاجتماعية، لذلك تطور شعورًا بالتعلق، وتحاول إقناعه بالبقاء معها، إنسان وجني، ثنائي خرافي توحده فطرة الحكي.
فالجني يمتلك مهارة الحكي، وآليثيا تدرس التقنيات الحكائية وتحاول المؤالفة بين الأقاصيص وبعضها، إلى جانب أن الاثنين وحيدان: أحدهما نبذ منذ ثلاثة آلاف عام، وكسر قلبه على يد بلقيس الجميلة، والأخرى في عمر الإنسان الفاني، جربت الحب والزواج، وخرجت خائبة الرجاء، إذًا فالشخصيتان يوحدهما الكثير من العناصر، رغم التباينات الزمنية والجسدية والقوى المادية.
هذا النوع من القصص يعتمد في حكيه على الذروات الثانوية، ما يبرر وجود الكثير من الشخصيات داخل الفيلم، جميعها ثانوية تقريبًا ما عدا شخصيتين: الجني وآليثيا، حضور كم هائل من الشخوص داخل السردية يخلق نوعًا من التشتت، لكن على الجانب الآخر يضفي الكثير من المتعة ويرفع الإيقاع.
فالمخرج ليس بحاجة لقضاء الوقت في التأسيس وتطوير الشخصيات، بقدر حاجته لرفع النسق وإنتاج صور وأقاصيص ممتعة للمشاهد، أي أن التقنية السردية ذاتها حداثية وتجارية، تكسب قيمتها من تكثيف الحكايات الصغيرة على هامش الخط السردي الأساسي للجني، بيد أنها تحصر السردية في جيب غرائبية الجني، فهو من يملك القدرة على تحريك الحكاية وتمرير القصص والانتقال بينها، ما يهمش دور آليثيا في السرد بشكل يفقدها بريقها، وشخصية آليثيا ذاتها تفتقد للديناميكية والحيوية التي تطبع عالمها وعالم الفيلم أيضًا.
ورغم امتلاكها القوة الكافية لتحديد مصير الجني، فإن السردية لا تتورط في اللحظة الآنية إلا بشكل ثانوي، ما يفقد المعالجة جزءًا من قيمتها، من المرجح أن الالتزام بالأساس الأدبي هو ما خلف هذه النقاط، لكن ميلر مخرج كبير ويدرك ما يتعاطى معه ببصيرة نافذة، كان من الممكن أن يمد قصته إلى أرجاء العالم الحاليّ، أن يورط الشخصية والجمهور في الحاضر أكثر من الماضي.
المفترض أن تكون المعالجة معاصرة أكثر، تتخطى حدود النسق الحكائي التقليدي التي سارت على نهجه هوليوود، وتكشف مناطق جديدة وتخوض في مساحات طازجة، لكنه فضل المكوث في المنطقة الآمنة، وأسقط فيلمه على فكرة الاختلاف والقبول والكراهية وغيرها من الأفكار ذات السياق الحداثي.
يبني المخرج حبكته على العلاقات الرومانسية، يطوع الفنتازيا لخلق لحظة رومانسية تحمل في طياتها بنيةً جنسيةً وطموحًا غرائبيًا، فمع القفزات الزمنية تحدث تغيرات في شكل العلاقة بين الجني والفتاة التي يوهب نفسه لها، لكنها في النهاية تتوجه ناحية الجنس، سواء كانت العلاقة الجنسية خارجية، أي بين الفتاة ورجل آخر، أم بين الفتاة والجني بشكل مباشر في ارتباط عاطفي وجسدي، فالعوالم المرصودة تتعاطى مع الجنس كشيء أساسي، تصور المرأة كوعاء جنسي في أغلب الحقب الزمنية الماضية.
تلك اللقطات تزيح هذه النوعية من المنطقة العائلية الساذجة، وتخلق عالم أكثر قساوة وعنفًا مقارنة بما تنتجه ديزني في نفس النوعية، لكنه على الجانب الآخر لا يخلق حبكة محكمة وقوية، لتتحمل كل هذه الشخصيات، حتى العلاقة بين الشخصيتين الرئيسيتين كانت باهته وباردة، رغم الأداء الجيد لكلا الممثلين، لكنهما لا يتقاطعان بشكل يصنع ذروةً، بل يتقاربان ويسيران على خط موازٍ، يخفقان عاطفيًا، ويحاولان العيش معًا، لكنهما يفتقدان للزخم، بالإضافة إلى أن شخصية آليثيا ذاتها تبقى غامضة، لا نعرف عنها إلا لمحات بسيطة، حتى تخصصها في الحكايات لم يؤثر على القصة ولم يمنح خصوصية للحكي.