بشكل شبه يومي، تتكرر أخبار الاقتحامات للمسجد الأقصى من قبل جماعات المستوطنين، وتزداد وتيرتها وقت الأعياد اليهودية، وما يشاهَد عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي من أسراب اليهود المتدينين يدخلون المسجد وهم يرتدون لباس الكهنة البيضاء، بينما يتصدى المرابطون المقدسيون لمنعهم الدخول بالتكبير والتهليل.
هذه الاقتحامات ليست وليدة السنوات الأخيرة، بل سياسة ممنهَجة منذ الاحتلال الإسرائيلي لمدينة القدس عام 1967، حيث بدأت باقتحام عبر دبابة عسكرية ومن ثم اتخذت عدة طرق حتى تطورت لتأخذ شكلها الأخير، بالصلوات التلمودية والسجود الملحمي والنفخ بالبوق والرسم على جدار حائط البراق عبارات وصور توراتية مضيئة.
وفي تسعينيات القرن الماضي بدأت جماعات صهيونية متطرفة تنظّمها وتحشد مستوطنين وتدفع لهم المال للمشاركة، وذلك في سبيل تعزيز الرواية التوراتية “مقتحمون أكثر.. هيكل أقرب”، فهي تؤمن بأن زيادة عدد اليهود المقتحمين للأقصى ستعجّل بقرار إسرائيلي يسمح لهم الصلاة داخله، وبعد ذلك سيصبح من السهل المطالبة بطرد المسلمين وتدمير المسجد وبناء الهيكل مكانه.
وغالبًا لم تمضِ تلك الاقتحامات بشكل عادي، بل كانت الشرارة التي أشعلت الانتفاضات والمجازر، فهي بدأت من منطلق ترسيخ فكرة السيطرة على الأقصى، حتى أصبحت جزءًا رئيسيًّا من عقيدة المشروع الصهيوني.
وفي هذا السياق، يستعرض “نون بوست” تاريخ وشكل الاقتحامات للمسجد الأقصى، وأبرز الأحداث التي وقعت حينها، وأبرز الجماعات الصهيونية التي تدعمها.
ماذا يعني الاقتحام؟
يعني الاقتحام الدخول إلى المكان بقوة، وهذا ما يفعله المستوطنون في الأقصى تحت حماية شرطة الاحتلال، حيث خلع الأبواب وتدنيس المسجد ومحاولة كسر الشبابيك وتخريب الزخارف، ومحو كل شي يوحي بالهوية البصرية الإسلامية للأقصى.
ومع مرور السنوات، بات الاقتحام يُطلَق على من يحمل فكرة تغيير واقع الأقصى فيزيائيًّا، فتحوّل من اقتحام المكان بالآليات العسكرية إلى من يقتحمه بأفكار وعقلية تعززان الرواية اليهودية، لتغيير الوضع القائم.
وعن أوقات الاقتحام، فهي، بعيدًا عن الأعياد اليهودية ومواقيتها، تكون بشكل يومي ما عدا الجمعة والسبت، وأيام الأعياد والمناسبات الدينية الإسلامية، كعيدَي الفطر والأضحى أو يوم الإسراء والمعراج.
وتختلف ساعات الاقتحام بين فصلَي الصيف والشتاء، في الصيف تكون عند الساعة السابعة والنصف صباحًا حتى الحادية عشرة وتُعرف بالفترة الصباحية، ومن ثم تأتي فترة ما بعد صلاة الظهر من الواحدة والنصف حتى الثانية والنصف بعد الظهر. وتبدأ شتاءً الفترة الصباحية عند السابعة لتنتهي عند العاشرة والنصف، وتبدأ فترة ما بعد الظهر من الثانية عشرة والنصف حتى الواحدة والنصف ظهرًا.
لأن مدة الاقتحام اعتبرها المستوطنون قصيرة ولا تلبّي مطامعهم، تمَّ تطويرها لتجوب الأقصى بكامله وتستهدف بشكل أساسي المنطقة الشرقية منه.
وفيما يتعلق بأعداد المقتحمين في الأيام العادية تكون بالعشرات، لكنها تصل إلى الآلاف في “مواسم التصعيد”، خاصة الأعياد الدينية والمناسبات الوطنية، وتشير المعطيات إلى أن العام الماضي والممتد من سبتمبر/ أيلول 2021 حتى سبتمبر/ أيلول 2022، شهد اقتحام أكثر من 55 ألف مستوطن للمسجد الأقصى.
أما عن مسار المقتحمين، يبدأ من باب المغاربة غربًا، مرورًا بمحاذاة المصلّى القبلي، ثم السير باتجاه السور الشرقي للمسجد، وعند وصولهم يقف المستوطنون جنوب باب الرحمة مقابل الصخرة، فهي وفق مزاعمهم البوابة الشرقية الرئيسية للهيكل، حيث يبدأ أحد المستوطنون بالإرشاد التاريخي والديني للمكان وفقًا للرواية الصهيونية، كما يصلي المقتحمون صلاة سرّية عن طريق التمتمة أو الانبطاح أرضًا.
ولأن مدة الاقتحام اعتبرها المستوطنون قصيرة ولا تلبّي مطامعهم، تمَّ تطويرها لتجوب الأقصى بكامله وتستهدف بشكل أساسي المنطقة الشرقية منه، الأمر الذي استفزَّ مشاعر المقدسيين ومن بعدها استنفر المرابطون وبقُوا يتصدون لعرقلة أي اعتداء أو اقتحام.
وبعد الانتهاء من صلواتهم، يكملون مسيرهم بمحاذاة السور الشمالي للمسجد، ثم ينعطفون جنوبًا حتى الوصول إلى باب القطانين، ليتمكّنوا من رؤية مصلّى قبة الصخرة بوضوح، وبعدها يغادرون من باب السلسلة، وأغلبهم يمشي وهو ينظر باتجاه قبة الصخرة وظهره للباب.
تاريخ الاقتحامات.. تسلسل الأحداث فترة 1967-2022
بداية، إن أبرز الاقتحامات التي تشعل فتيل الأحداث لتبلغ ذروتها تكون من قبل وزراء ونواب بالكنيست وأفراد الشرطة والمستوطنين، ومحاولتهم أداء طقوس دينية، وهو ما يؤدي إلى توتر في المسجد، فضلًا عن سلسلة قرارات تهدف إلى الهيمنة عليه وتقسيمه زمانيًّا ومكانيًّا بين المسلمين واليهود، وهذه أبرزها:
– يونيو/ حزيران 1967: احتلال “إسرائيل” الجزء الشرقي من مدينة القدس عبر آليات عسكرية، ووضع العلم الإسرائيلي على قبّة الصخرة، ثم تمَّ إنزاله بأمر من الحكومة التركية آنذاك.
– يونيو/ حزيران 1967: أقام الحاخام الأكبر لجيش الاحتلال الإسرائيلي، شلوم غورن، صلاة دينية في ساحة المسجد الأقصى.
– أغسطس/ آب 1979: حاولت جماعة “عرشون سلمون” الاستيطانية اقتحام الأقصى.
– يناير/ كانون الثاني 1981: اقتحم أفراد حركة “أمناء جبل الهيكل” المسجد.
– أبريل/ نيسان 1982: اقتحم الجندي الإسرائيلي هاري غودمان المسجد، وأطلق النار على المصلين.
– يوليو/ تموز 1982: اعتقال أحد نشطاء حركة “كاخ” المحظورة، بتهمة التخطيط لنسف مصلّى قبة الصخرة.
– أغسطس/ آب 1989: سمحت شرطة الاحتلال للمتطرفين بأداء الصلوات عند الأبواب الخارجية للمسجد.
– أكتوبر/ تشرين الأول 1990: استشهد 21 فلسطينيًّا وأُصيب المئات في مجزرة داخل المسجد الأقصى أثناء تصديهم للمستوطنين، حيث اشتعل الفتيل بسبب اقتحام جماعي من متطرفين يحاولون وضع ما يُسمّى حجر الأساس للهيكل، فتصدى أهل بيت المقدس، ويُعرَف الحدث تاريخيًّا بـ”مجزرة المسجد الأقصى”.
– سبتمبر/ أيلول 1996: لمنع التدنيس اندلعت انتفاضة النفق، بعد أن أُعلن عن افتتاح الاحتلال نفق أسفل الجدار الغربي للمسجد، ما فجّر ما عُرف بـ”هبة النفق”.
– سبتمبر/ أيلول 2000: اقتحم رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، أرئيل شارون، الأقصى، ما أدّى إلى اندلاع الانتفاضة الثانية.
– يوليو/ تموز 2017: أغلقت شرطة الاحتلال يومَي 14 و15 أبواب المسجد بشكل كامل.
– أكتوبر/ تشرين الأول 2021: سمحت محكمة صلح الاحتلال بما سمّتها “الصلاة الصامتة” في الأقصى.
– مايو/ أيار 2022: سمحت محكمة صلح الاحتلال للمستوطنين بأداء صلواتهم التلمودية بـ”صوت عالٍ”.
– سبتمبر/ أيلول 2022: محكمة الصلح تسمح بنفخ البوق وأداء الشعائر اليهودية عند مقبرة باب الرحمة وسور الأقصى الشرقي.
ويتضح من تسلسل الأحداث الهامة لتاريخ الاقتحامات، أن اشتعال الفتيل تطوّرَ بفعل المحاولات الصهيونية للاقتحام بشكل جماعي عام 1990، في حين يمكن القول إن العقدَين الأخيرَين يطلق عليهما “العشرون السوداء”، حيث بعد دخول شارون أصبح اقتحام الأقصى عملًا تسعى دولة الاحتلال لجعله أمرًا واقعًا وبمسارات متعددة.
وتصاعدت الاقتحامات من عام 2000 حتى عام 2020 بشكل كبير، في محاولة لفرض التقسيم الزماني للأقصى بين المسلمين واليهود، أما اللحظات الحاسمة منذ عام 2021 حتى يومنا هذا تعدّ الأخطر من حيث الفعاليات والأعداد، فالاقتحامات باتت تحتوي ممارسات عقائدية توحي بعزم الاحتلال الانتقال بشكل جدّي الى مرحلة “الهيكل” المزعوم.
من ينظّم اقتحامات المستوطنين للأقصى؟
بعدما كانت عمليات الاقتحام فردية ثم تحولت لدخول منظَّم، خاصة وقت المناسبات الوطنية الإسرائيلية والدينية اليهودية، وتزايدت أعداد المقتحمين، إلا أنهم لا يشكّلون سوى 5% من المجتمع الإسرائيلي، خاصة أن من تبقى لا يؤمنون بفكرة دخول الأقصى لعدم وجود فتوى توراتية تبيح لهم ذلك.
وهناك جماعات دينية متطرفة تعمل على جلب المستوطنين وحثّهم على اقتحام الأقصى، مستغلة النواحي الدينية الأيديولوجية لتحقيق مكاسب سياسية لفرض سيطرتها على حكومتها.
وبعد عام 1996، حين كانت السياسات الإسرائيلية تتحفّظ من قيام المجموعات اليهودية المتطرفة مثل “أمناء جبل الهيكل” بزيارات جماعية واستفزازية ومدنِّسة للمسجد الأقصى، أصبح أفراد الشرطة الإسرائيلية مرافقين ومنظِّمين ومدافعين عن هذه الزيارات، التي هدفت إلى تثبيت وجود يهودي دائم في المسجد الأقصى.
ولتسهيل وتشجيع الزيارات، أزالت سلطات الاحتلال الإسرائيلي اللافتات التي وُضعت بعد عام 1967، والتي تمنع اليهود من دخول المسجد الأقصى أو الصلاة فيه.
وتُشَنُّ حملة ممنهَجة من قبل المؤسسة الإسرائيلية الرسمية، المدعومة بقطعان المستوطنين الذين ينتمي بعضهم إلى ما يُسمّى بالتيار الديني الوطني، على المسجد الأقصى، بهدف خلق واقع جديد يتمثل بتقاسم المسجد مع المسلمين.
ومن أبرز وأخطر الجماعات الداعمة للاقتحام بشكل مستمر: أمناء جبل الهيكل، ونساء من أجل الهيكل، وحرّاس الهيكل، وعصبة الدفاع اليهودية “كاخ” والحركة من أجل بناء الهيكل.
وما رفع وتيرة الاقتحامات أيضًا هو عمليات التطبيع العربي التي جرت في السنوات الأخيرة، وبقاء المقدسي وحيدًا يدافع عن الأقصى، لذا بات الحمل عليه أكبر حيث اليقظة عبر الرباط الدائم، لإفشال الاعتداءات الإسرائيلية القادمة وأي مخططات من شأنها تغيير ملامح الهوية الإسلامية والعربية للمسجد.