ترجمة وتحرير: نون بوست
تخيل أنك تمشي في حديقة عامة في طريقك إلى المنزل عائدا من العمل فتسمع موسيقى صاخبة تصدح من مكبّر صوت محمول؛ تلتفت فترى مجموعة صغيرة من المراهقين وعندما تشيح بنظرك بعيدًا للحظة تسمع صرخة وحين تستدير تجد أن أحد المراهقين ملقى على الأرض. هل أصيب بجروح؟ تشعر بزيادة خفقان قلبك وتتساءل ماذا حدث؟ هل سقط أم أُسقِط؟ هل يجب أن تتوقف وتسأل عما إذا كان يحتاج إلى مساعدة؟ هل يجب أن تبحث عن ضابط شرطة؟ أم ينبغي عليك الابتعاد بسرعة لتجنب التعرض للمتاعب؟
في إطار هذا السيناريو، من المرجح أن يغيّر دماغك بعضًا من أنماط نشاطه لأنه ولّد تصورًا لما كان يدور من حولك، وكيف شعرت حيال الموقف ودوافعك للانخراط في سلوك جديد نتيجة لذلك. وإحدى أكثر الحقائق إثارة للاهتمام – وربما المثيرة للجدل – حول كيفية عمل الدماغ في مثل هذه الحالة، هي أن نشاط دماغك يختلف اعتمادًا على ما إذا كان الأولاد من نفس عرقك.
إنه نوع من التحيز لكنه يحدث دون التفكير الواعي أي أنه تحيّز عفوي، يتغلغل في مناطق مختلفة من الدماغ وله نتائج واسعة النطاق على كيفية تفكيرنا وشعورنا وإدراكنا وردود أفعالنا تجاه بيئتنا. إن التحكم في طريقة تفكيرنا وشعورنا وإدراكنا وردود أفعالنا أمر صعب للغاية، وذلك رغم كل الكتب الموجودة في قوائم أفضل المؤلفات مبيعًا التي تزعم وجود طرق للسيطرة على عقلك الداخلي. وبينما تأمل ألا يكون حادث الأطفال هذا مهمًا، فإنه على الأرجح سيكون كذلك؛ على الأقل فيما يتعلق بما يحدث في عقلك.
وفي حين أن هذا التحيز اللاإرادي أو اللاإداركي يختلف عما قد نعتبره تمييزًا عنصريًا صريحًا – حيث نعامل الأشخاص من أعراق مختلفة بشكل مختلف – إلا أنه يدحض الادعاء القائل إنه يمكننا “رؤية ما وراء العِرق”. لكن بحكم طبيعة أدمغتنا، فإننا لا نستطيع والسؤال المطروح: هل يمكننا فعل أي شيء حيال ذلك؟
البشر: البقاء والازدهار
منذ الانتهاء من مشروع الجينوم البشري في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تمكن العلماء أخيرًا من التخلص من فكرة أن العِرق ظاهرة بيولوجية. يوجد تباين جيني داخل العرق أكثر بكثير من الاختلاف بين الأعراق المختلفة. نعم، هناك اختلاف في لون الجلد في الجنس البشري، ويمكن تفسير هذا الاختلاف من خلال كمية الأشعة فوق البنفسجية التي تعرض لها كل فرد خلال عصور ما قبل التاريخ والتكيف الجيني الناتج عن ذلك. ومصطلح “العِرق”، كما يُفسّره الناس، هو بناء اجتماعي وثقافي.
لذلك، إذا كان العرق غير بيولوجي فلماذا أدّعي أن هناك آلية بيولوجية في الدماغ تجعلنا عرضة للتمييز العنصري؟ أنا لا أفهم حقًا. ترتبط الآليات التي سأشرحها بقدرتنا على البقاء والازدهار خلال عصور ما قبل التاريخ. هذه التكيّفات مجتمعة – مع أن كل واحد منها في الواقع لا يرتبط مباشرة بالتمييز العنصري – قد تكمن وراء بعض التحيز العنصري الذي يحدث عندما نتفاعل مع بعضنا البعض.
مقارنةً بالعديد من الأنواع الأخرى، فإن البشر ليسوا مؤثرين جدًا في سطح المعمورة. فالعديد من الأنواع الأخرى أسرع وأقوى منّا؛ إذ تمتلك الكثير من الكائنات أسلحة ودفاعات طبيعية نفتقر إليها: فالضفدع الذهبي، على سبيل المثال، ينتج سمًّا كافيًا لقتل عشرات البشر أو أكثر. ومع ذلك، فإننا في العصر الحديث نستبعد مزايا الأنواع الأخرى بسبب كل الأدوات والأسلحة التي بنيناها. السرعة والقوة والأنياب والمخالب والهياكل المدرعة لا تقارن بما يمكن أن يفعله الإنسان بالبندقية. (البشر المسلحون مقابل الحيوانات الأخرى يشبهون إلى حد كبير فريق نيويورك يانكيز في مواجهة فريق كرة “تي-بول” في المدرسة الإعدادية). ولكن إذا عدنا بالزمن للوراء قبل أن يخترع البشر ويصنعوا تلك الأدوات التي غيرت كوكبنا، فقد كنا بطيئين، ونُصنّف ضمن أنواع الرئيسيات الضعيفة والناعمة التي تكافح من أجل البقاء.
لماذا ازدهر البشر؟ أولاً، نجونا بفضل بقائنا في مجموعات. وهذه السمة – مجموعات صغيرة من الأنواع تعمل معًا لتعزيز البقاء – ليست فريدة من نوعها بالنسبة للبشر إذ تعجّ مملكة الحيوان بأنواع وجدت تكيّفات تعمل فيها الحيوانات الفردية معًا من أجل مصلحتها العامة، انظر فقط إلى مستعمرة النمل أو سرب من الأوز. من خلال آليات الانتقاء الطبيعي يكون البقاء والتكاثر لأنسب الأنواع على حساب تلك الأقل سرعة مثلًا، غير أن ما يجعل تلك الأقل سرعة تنجو قد يعتمد على مدى جودة أداء المجموعة.
مثل العديد من هذه الأنواع، فإن البشر “إقليميون” يدافعون عن منازلهم ومصادر الغذاء المحتملة ليس فقط من الحيوانات الأخرى وإنما من البشر الآخرين أيضًا. ويكمن الاختلاف الرئيسي للبشر في أننا ننجب ذرية أقل بكثير من العديد من الأنواع الأخرى، وأن أطفالنا يحتاجون إلى قدر هائل من الرعاية والدعم والحماية خلال السنوات القليلة الأولى من حياتهم. نتيجة لذلك، كان هناك ضغط تطوري هائل على البشر ليس فقط لتطوير دافع فطري لحماية مجموعة الفرد من الآخرين، وإنما أيضًا ليكون قادرًا على توقع تصور الآخرين والاستجابة له بسرعة، حتى يتمكن المرء من تحديد من هو جزء من المجموعة ومن ليس كذلك. وإحدى المناطق التي ربما تكون قد نشأت نتيجة لهذه القوى هي منطقة من الدماغ تسمى “التلفيف المغزلي” التي يعتقد علماء الأعصاب أنها ضرورية لقدرتنا على التعرف على الوجوه والاستجابة لها، وعلى الأرجح هي خاصة بالبشر دون سواهم.
أما السمة الرئيسية الثانية التي سمحت على الأرجح للبشر الأوائل بالازدهار هي قدرة أدمغتنا على تصنيف الأشياء وإدراك الأنماط في بيئتنا. ومرة أخرى، تمتلك الأنواع الأخرى هذه القدرة ويمكن رؤيتها بسهولة في الرئيسيات الأخرى مثل القردة. هذه القدرة مفيدة بشكل لا يصدق في أنشطة مثل جني الفواكه: لن تحتوي الشجرة المنتجة للفاكهة دائمًا على ثمار ناضجة، وبالتالي يمكن للحيوان تمييز الشجرة المثمرة، والتعرف على وقت نضج الثمار يعد ميزة كبيرة عن باقي الحيوانات الأخرى التي تحاول هي الأخرى الحصول على الفاكهة.
تقوم الخلايا العصبية في أدمغتنا بتغيير الخصائص التواصلية “لفهم” الرابط بين السلوك ولون البشرة، واستجابةً تولد تباينا في نشاط الدماغ بناءً على تلك الصفة الجسدية. ونتيجة لذلك، يظهر تحيّز لا شعوري
في حين أن الفص الجبهي الذي نشأ في الرئيسيات يبدو حاسمًا في مهمة التصنيف، تشير تجارب رسم خرائط الدماغ عند البشر إلى أن قدرتنا على تصنيف مجموعة واسعة من العناصر تحدث على نطاق واسع من مساحة الدماغ لدينا. ربما ليس من المستغرب إذن أن يكون لدى الرئيسيات الآكلة للفاكهة أدمغة أكبر بكثير من الرئيسيات الأخرى.
بعد أن طوّر البشر أدمغة أكبر حجما، أصبح الدماغ البشري متناغما جدا فيما يتعلق بتصنيف الأشياء الفردية في فئات عامة؛ فمثلا، تشير دراسات التصوير الحديثة للأطفال إلى أن منطقة من التلفيف المغزلي التي يُطلق عليها اسم “منطقة شكل الكلمة المرئية” لديها القدرة على الاستجابة للأنماط وتصنيف المحفزات البصرية حتى تتصل بمراكز لغتنا. وفي حين تطورت هذه المنطقة من الدماغ قبل بداية القراءة والكتابة بوقت طويل، فقد سمحت القدرة الفطرية على الاستجابة السريعة للأنماط والتصنيف بتنمية المهارات البشرية مثل القراءة. وهو ما له أهمية فيما يتعلق بالطريقة التي نستجيب بها للاختلافات العرقية التي يمكننا ملاحظتها: أليس من سمات التمييز الميل إلى تحديد القيمة على أساس الانتماء إلى فئة محددة بدلا من الجدارة الفردية؟
إن القدرة على التعلم الترابطي تعد السمة النهائية للدماغ التي من المحتمل أن تكون حاسمة للبشر الأوائل. وتُعتبر قدرة الخلايا العصبية على تغيير كيفية تواصلها مع بعضها البعض استجابة لما يعاني منه الكائن من الخصائص الأساسية للأدمغة. كما توجد هذه العملية، التي تُعرف بالمرونة العصبية، حتى في دودة بسيطة تسمى بـ “الديدان الخيطية” التي لديها تحديدا 302 خلية عصبية. وقد كشفت إحدى التجارب أن الديدان الخيطية يمكن أن تتعلم ربط الرائحة بوجود الطعام، وهي تفعل ذلك عن طريق تغيير إطلاق الناقل العصبي الذي يُعرف بـ “السيروتونين”.
يتمتع البشر- كنوع لديه 86 مليار خلية عصبية – بالقدرة على التعلم الترابطي، حيث منحتنا القدرة على تعديل سلوكياتنا مزايا هائلة مثل تعلم اللغة وتطوير أدوات جديدة من شأنها أن تغير بيئتنا. كما يسمح التعلم الترابطي بربط الأشياء التي حدثت في الماضي وتوقع ما قد يحدث في المستقبل.
يبدو هذا الأمر إيجابيا، إلا أن هناك مشكلة. فعلى سبيل المثال، عرف العلماء منذ فترة طويلة أن هذا الارتباط يمكن أن يتشكل حتى لو لم تكن الأشياء المرتبطة ذات صلة؛ ففي تجربة النيماتودا، أنشأ العلماء ارتباطا مُصطنعا بين الرائحة والطعام. وفي حين لم تكن الرائحة المُختارة مرتبطة بشكل طبيعي بالطعام – إلا أن هذه التجربة كانت مُقنعة للغاية، حيث لم تتفطن الخلايا العصبية إلى أن هذا الارتباط خاطئ.
لك أن تتخيل الآن ثقافة تنشئ الروابط – إما عن قصد أو عن غير قصد – للسلوك السلبي بناءً على صفة جسدية محددة مثل لون البشرة، حيث تقوم الخلايا العصبية في أدمغتنا بتغيير الخصائص التواصلية “لفهم” هذا الارتباط واستجابةً تولد تباينا في نشاط الدماغ بناءً على تلك الصفة الجسدية. ونتيجة لذلك، يظهر تحيّز لا شعوري.
من أين يأتي التعاطف
لطالما ساعدتنا هذه السمات الدماغية الثلاث – القدرة على إدراك ما إذا كان شخص ما جزءًا من مجموعتنا، وتصنيف الأنماط وإدراكها، وتكوين روابط بين الأشياء التي مررنا بها وواجهناها – على النجاح في بيئتنا. وقد تطورت هذه السمات في شكلها الحالي لدى الإنسان الحديث خلال الأوقات التي لم يكن فيها ما يسمى بـ “العِرق” موجودا، حيث لم يكن هناك أي اتصال بين البشر في عصور ما قبل التاريخ مع بشر آخرين ذوي لون بشرة مختلف، لذلك لم يكن هناك سبب لبناء مفهوم العرق اجتماعيًا. ولكن مع إيجاد الإنسان الحديث للعِرق كوسيلة لتصنيف البشر إلى فئات مختلفة، ومع تقديم عدد كبير من المعلومات بشكل روتيني حول السلوكيات والنتائج المرتبطة بالأشخاص على أساس العرق، قد تؤدي هذه السمات الدماغية إلى آليات تعزز التمييز العنصري.
بالعودة إلى السيناريو الذي أشرت إليه في البداية: إذا ما كان الأولاد من عرق مختلف عن عرقك، فسرعان ما سيدرك عقلك أنهم ينتمون إلى مجموعة مختلفة ويصنفهم على أنهم ينتمون إلى عرق معين، وسيدرك أن نمط السلوك المختلف يؤدي إلى العنف وسيربطه بأمثلة أخرى وبنتائج سلبية لطالما قرأت أو سمعت عنها. وبغض النظر عن شعورك الواعي تجاه التمييز العنصري، يمكن أن يؤدي تأثير هذه الآليات إلى اختلافات في نشاط الدماغ التي من شأنها أن تؤثر على كيفية إدراكك للموقف والشعور به والاستجابة له، وهو ما سيؤثر باختصار على مدى تعاطفك مع هؤلاء الأولاد.
على مدى العقد الماضي، أجرى علماء الأعصاب تجارب ذكية أوضحت أن التحيز يحدث في نشاط الدماغ عندما يراقب المرء الأفراد الذين يعانون من الألم بناءً على ما إذا كانوا من نفس العرق أو عرق مختلف. وتستجيب التجربة النموذجية لسلسلة من الصور أثناء تصوير أدمغة الأشخاص باستخدام ماسح التصوير بالرنين المغناطيسي، حيث يرى الشخص بعض الصور التي يوجد فيها شيئ مؤلم مثل ضغط إبرة على خد شخص ما. ويتم قيس ومقارنة نشاط الدماغ حسب ما تم اكتشافه في كمية الدم المؤكسج الذي يتم توصيله إلى مناطق مختلفة من الدماغ.
قمنا بإنشاء مفهوم العرق كوسيلة لتصنيف الناس – ويجب أن نعمل على إيجاد طريقة نفكك بها هذه الآلية التي أصبحت وسيلة نعرف بها أنفسنا.
وجدت الدراسات اختلافات ثابتة بإحدى مناطق الدماغ التي تسمى القشرة الحزامية الأمامية، وهو ما يُعد أمرا مهما نظرا لما نلاحظه من نشاط متزايد عندما نتخيل أننا نشعر بالألم بأنفسنا. كما تشير حقيقة نشاط هذه المنطقة عند مشاهدة الآخرين وهم يعانون من الألم إلى أنها تساعد في خلق شعورنا بالتعاطف. وقد تمكنت تقنيات أخرى، مثل استخدام مخطط كهربية الدماغ (EEG) لقياس النشاط الكهربائي في الدماغ، من عزل الاختلافات في نشاط الدماغ بسبب التحيز العنصري، التي تحدث في حوالي 150 مللي ثانية، أسرع من وعينا الذي يمكن أن يسجل ما يحدث بالفعل.
من الواضح إذن أن هذا الأمر يختلف تمامًا عن أي شكل من أشكال التمييز العنصري فيما يتعلق بقرار عدم توظيف شخص ما أو الموافقة على قرض منزل على أساس العرق. ففي هذه الأشكال من التمييز، يقرر الأفراد بوعي الانخراط في سلوك مختلف بناءً على عرق شخص ما. وعلى النقيض من ذلك، يشير السيناريو الذي قدمته سابقا إلى تحيز لا يؤدي بالضرورة إلى سلوك علني.
وفي حين أنه يمكننا تطبيق القوانين للتأثير على السلوك الفاضح، لا يمكننا تنظيم أفكارنا ومشاعرنا وتصوراتنا بنفس الطريقة. وبالتالي، أين يكمن الجانب المشرق الوحيد في هذه السحابة المظلمة؟ لقد قمنا بإنشاء مفهوم العرق كوسيلة لتصنيف الناس – ويجب أن نعمل على إيجاد طريقة نفكك بها هذه الآلية التي أصبحت وسيلة نعرف بها أنفسنا.
المصدر: ديسكورس ماغازين