كتب شيخ الأزهر، أحمد الطيب، في صفحته الرسمية على تويتر وفيسبوك، الجمعة 9 سبتمبر/ أيلول 2022، ناعيًا الملكة إليزابيث الثانية، ملكة بريطانيا، التي وافتها المنية في الثامن من الشهر ذاته، باللغتَين العربية والإنجليزية، قائلًا: “أتقدم بخالص العزاء إلى الملك تشارلز، والعائلة الملكية، وشعب المملكة المتحدة في وفاة الملكة إليزابيث الثانية، تلك الشخصية المؤثرة التي قضت حياتها في خدمة بلادها، واجتهدت في الارتقاء بشعبها”.
ومع إعلان وفاة الرئيس المؤسِّس للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وعضو مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر، الشيخ يوسف القرضاوي، الذي رحل عن الدنيا في هدوء الكبار، في 26 سبتمبر/أيلول الجاري، كان الجميع في انتظار نعي مشابه، رغم الفوارق بين الحالتَين، فالأولى كانت على رأس دولة استعمرت بلدان إسلامية عدة وفي سجلها انتهاكات مروعة بحق المسلمين، أما الآخر فهو أحد أعلام وأقطاب الأمة الإسلامية ومداد علم لا ينكره منصف وإرثه لا تخطئه عين أينما حل المسلمون.
وحتى كتابة هذه السطور لم يخرج عن الأزهر، شيخًا ومؤسسة، أي كلمة بحق العالم الراحل، وهو ابن الأزهر البار وأحد رموزه الكبار، رغم برقيات النعي التي انهمرت من كافة دول العالم، رؤساء ووزراء وعلماء وشخصيات عامة ومؤسسات (بعضها كان على خلاف معه)، تنعي الفقيد الراحل وتقدِّر له جهده ودوره في خدمة المشروع الإسلامي.
صمتُ الأزهر، وهو المؤسسة العالمية التي يفترض أن تمثل جميع المسلمين في عموم الأرض، أعادَ مجددًا الحديث عن استقلاليته المفقودة ورضوخه للسلطة الحاكمة في مصر، والذي تحوّل إلى ترمومتر يحدد توجهات وسياسات ومواقف المشيخة التي تحتل المكانة الكبيرة لدى الملايين من المسلمين.
وهذه المكانة بلا شك ستتأثر كثيرًا بتلك التبعية التي تنقل هذا الكيان العظيم من موقعه العالمي الرفيع إلى إدارة تابعة لنظام سياسي ما، يأتمر بأمره وينتهي بنهيه، وهو ما يتماشى بشكل أو بآخر مع مخطط تسطيح الأزهر وتقزيم دوره وتقليم أظافره وضرب سمعته وصورته في مقتل، وهو المخطط الذي طالما شكا منه أقطاب المشيخة.
رضوخ لا يليق
شنَّ عدد من الكتّاب هجومًا على شيخ الأزهر والمؤسسة لما وصفوه بـ”الرضوخ لأوامر السلطة في مصر”، فيما يتعلق بالامتناع عن نعي القرضاوي، وهو موقف النظام الحالي في البلاد الذي يتعامل مع الراحل على أنه أحد أقطاب جماعة الإخوان، فيما وضعه قضاؤه على قائمة الإرهابيين.
يشير الكاتب الصحفي، وائل قنديل، إلى أن القرضاوي وبإجماع كافة الآراء واحد من علماء الأمة الكبار، ممّن أفنوا حياتهم في خدمة الفقه والدين، لافتًا إلى أنه وفق المقاييس العلمية يحتلّ مكانة تفوق مكانة شيخ الأزهر ذاته، لما أثرى به المكتبة الإسلامية بعشرات المجلدات في الفقه والشريعة، كان لها دورها في إحداث زلزال مدوٍ في مسار التجديد والوسطية المنشودة، “ناهيك عن كونه مجسّدًا لحالة العالم الحاضر في كل معارك الشعوب الإسلامية، ضد الاستعمار والاستبداد، ضاربًا المثل في كيف يكون الدين للحياة”.
وأضاف قنديل في مقال له أنه “لا يليق بمقام الأزهر الشريف، ولا مكانة إمامه الأكبر، أن تكون مواقفه تبعًا لمواقف السلطة الحاكمة في مصر، يذهب إلى حيث تتّجه رياحها، ولا يتكلم في شأنٍ يخصّ الأمة إلا إذا هي تكلمت، وإن تكلم فلا ينطق إلا بما يحاكي كلامها ويتناغم مع مواقفها”، منوّهًا أن شيخ الأزهر ذاته كان أحد المهرولين للتقرب من القرضاوي عام 2011، متوددًا إليه لرئاسة هيئة كبار العلماء التابعة للمشيخة، “لتكون معنيةً بانتخاب شيخ الأزهر المقبل، بحسب التعديلات الأخيرة في قانون الأزهر”.
والقرضاوي أحد أبناء الأزهر، حيث حصل على العالمية من كلية أصول الدين بجامعة الأزهر عام 1953 وكان ترتيبه الأول بين أقرانه، ثم حصل على إجازة التدريس من كلية اللغة العربية في العام التالي مباشرة، فيما حصل على تمهيدي ماجستير عام 1960 ثم الدكتوراه من كلية أصول الدين عام 1973 بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى.
كما كان العالم الراحل عضوًا في هيئة كبار العلماء التابعة للمشيخة منذ عام 2011 وحتى يونيو/ حزيران 2013، حين تقدم باستقالته اعتراضًا على مشاركة شيخ الأزهر في الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخَب محمد مرسي، حيث أعلن استقالته كتابةً قال فيها: “أتقدّم أنا يوسف عبد الله القرضاوي باستقالتي من هيئة كبار العلماء إلى الشعب المصري العظيم، وليس لشيخ الأزهر، ويوم تعود للشعب حريته، ويرَدّ الأمر إلى أهله، فإن على علمائه أن يختاروا شيخهم وهيئة كبار علمائهم بإرادتهم الحرّة المستقلة”.
افتضاح للاستقلالية المزعومة
تعدّ قضية استقلال الأزهر عن السلطة السياسية في مصر من القضايا الجدلية الخاضعة للسجال بين الحين والآخر كلما استدعى الأمر، فالبداية كانت أفضل حالًا حين كانت تتمتّع تلك المؤسسة بالاستقلال المالي، معتمدة على مواردها التي كانت تأتيها من الأوقاف وميزانيتها الخاصة، فيما كان منصب شيخ الأزهر يتمّ اختياره بالانتخاب منذ استحداثه إبّان العصر العثماني.
وكانت مكانة شيخ الأزهر لا تقلّ مطلقًا عن مكانة الوزراء وحكّام الولايات، بل تجاوزت في بعض الأحيان أن كان رصيده الشعبي يفوق رصيد الوالي، هذا بخلاف المكانة المرموقة التي تتمتّع بها المؤسسة والمنتسبون إليها في شتى البلدان الإسلامية، وليس داخل مصر فقط.
وفي العهد الملكي كان شيخ الأزهر يشارك في صناعة القرار السياسي للدولة المصرية، وكان رأسًا برأس إلى جوار الحاكم على مائدة حوار واحدة برعاية الباب العالي، لكن ما أن جاءت الجمهورية وسيطر العسكر على مقاليد الحكم في مصر، بدأ الأزهر بمرحلة أفول واضحة المعالم، جرّاء تقزيم ممنهَج لنفوذه وتسطيح لدوره وتهميش لرموزه وتجاهل لشيخه.
شيئًا فشيئًا بدأت خطة إجهاض استقلالية المشيخة وتقزيم دورها تجني ثمارها، وها هو الطيب يغض الطرف عن نعي أحد أعلام المؤسسة الإسلامية العالمية، في الوقت الذي نعاه الجميع، حلفاء وخصوم، خشية استثارة غضب السلطة.
ومع بداية ستينيات القرن الماضي، جاء إلغاء هيئة كبار العلماء التي كانت تختار شيخ الأزهر بحسب إعادة تنظيم قانون الأزهر، كأول ضربة مدوية في جدار استقلالية المشيخة التي تحولت مع مرور الوقت إلى أداة في أيدي السلطة، توظّفها لخدمة أجندتها السياسية طيلة عهدَي أنور السادات ومبارك.
ومع ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، استبشر الناس خيرًا بعودة الاستقلالية النسبية للأزهر، حين أصدر المجلس العسكري قرارًا بتعديل قانون 1961 والتعامل مع الأزهر كهيئة مستقلة وإعادة اختيار شيخ الأزهر بالانتخاب مرة أخرى من بين أعضاء هيئة كبار العلماء عن طريق الاقتراع السرّي.
فيما منحه دستور 2014 بعض الاستقلالية في مادته السابعة التي تنص على أن “الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقله يختص دون غيره بالقيام على كافة شؤونه، وهو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية، ويتولى مسؤولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم، وتلتزم الدولة بتوفير الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه، وشيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، وينظّم القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء”.
وعلى مدار السنوات الثمان الماضية شهدت العلاقة بين رئيس الدولة وشيخ الأزهر موجات من المد والجزر، ومعاركًا ضارية بين الحين والآخر، انتصر فيها الطيب حينًا والسيسي أحايين أخرى، لكن ظل للأزهر بريقه وسطوته، مستعيدًا شعبيته المتراجعة من خلال إعلائه دومًا راية الاستقلال وأن يكون كيانًا لكل المسلمين وليس أداة في أيدي السلطة، كما كان في السابق.
وشيئًا فشيئًا بدأت خطة إجهاض استقلالية المشيخة وتقزيم دورها تجني ثمارها، وها هو الطيب يغضّ الطرف عن نعي أحد أعلام المؤسسة الإسلامية العالمية، في الوقت الذي نعاه الجميع، حلفاء وخصوم، خشية استثارة غضب السلطة، وتماشيًا مع توجهها العام، فيما يتبارى لنعي ودعم المرضيّ عنهم سلطويًّا، ما يضع الاستقلال المزعوم على المحك ويسحب من رصيد الأزهر الكثير والكثير قبل إطلاق رصاصة الرحمة الأخيرة، والتي يجهّز لها منذ فترة بأن توكَل صلاحية تعيين شيخ الأزهر لرئيس الجمهورية، حينها سيكتب هذا الكيان شهادة وفاته رسميًّا.
ليس الأزهر وحده
لم يكن الأزهر وحده الذي التزم الصمت في نعي القرضاوي، فهناك العديد من المؤسسات والكيانات التي عمل بها الشيخ لكنها لم تحرك ساكنًا ولم يصدر عنها حرف واحد بحق العالم الراحل، على رأسها مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، والذي كان الشيخ عضوًا به، ناهيك عن الحكومة السعودية ذاتها.
وبدلًا من تقديم النعي أو حتى التزام الصمت، خرجت بعض الحسابات الإلكترونية المنسوبة لشخصيات مقرَّبة من الديوان الملكي السعودي لتهاجم الشيخ من خلال عشرات التغريدات، أبرزها الحساب الشهير “الردع السعودي” الذي يتابعه أكثر من مليون و400 ألف متابع.
كذلك حساب “ملفات كريستوف” الشهير الذي يغرّد منه متخفيًا المستشار السابق في الديوان الملكي سعود القحطاني، وأيضًا الكاتب الصحفي عضوان الأحمري، رئيس تحرير صحيفة “إندبندنت عربية”، المقرَّب من ولي العهد السعودي، وعبد اللطيف آل الشيخ المعروف بقيادة “الذباب الإلكتروني” على تويتر.
الموقف ذاته لدى هيئة الرقابة الشرعية لمصرف فيصل الإسلامي بالبحرين والتي كان يرأسها الشيخ، بجانب مجلس الأمناء لمنظمة الدعوة الإسلامية في أفريقيا، والهيئة الشرعية العالمية للزكاة في الكويت، وكلها كيانات كان الشيخ عضوًا فيها لكنها هي الأخرى التزمت الصمت رضوخًا للموقف الرسمي لحكومات دولها.
وعلى الجانب الآخر، قدّم حكام وأمراء وكيانات وشخصيات عامة برقيات التعازي في وفاة فقيه القرن كما يلقّبه البعض، يأتي في مقدّمتهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي عزّى نجل الراحل عبد الرحمن القرضاوي في اتصال هاتفي أجراه معه، قائلًا إن المرحوم “لم يتنازل طوال حياته عمّا آمن به، وكان خير مثال يحتذى به للتوفيق بين مبادئ الإسلام والحياة”، داعيًا له بالقول: “أكرمه الله الجنة وتغمده برحمته”، كما غرّد رئيس البرلمان التركي، مصطفى شنطوب، في برقية تعزية عبر حسابه في تويتر، قائلًا: “تلقيت بحزن نبأ وفاة الشيخ القرضاوي أحد كبار العلماء، أتمنى له الرحمة من الله وأعزّي أقاربه والعالم الإسلامي”.
تجاهُل الأزهر لتقديم واجب العزاء ونعي القرضاوي لن يقلل من قيمته وقامته، فالجنازة الغفيرة التي أقيمت له وتظاهرة الحب التي شهدتها منصات التواصل الاجتماعي في كافة دول العالم، وبرقيات النعي الحارة التي سطرها كبار العلماء والشخصيات العامة، كافية لإثبات مكانة العالم الراحل.
ومن تركيا إلى قطر، حيث نعى نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، القرضاوي، في تغريدة قائلاً إنه “أفنى عمره في خدمة دينه وأمّته”، كما نعته وزارة الأوقاف القطرية كذلك، فيما غرّدت شخصيات عامة في دفتر عزاء الراحل، أبرزهم الكاتب القطري جابر الحرمي، الذي غرّد قائلًا: “برحيل القرضاوي، فقدت الأمة أحد أبرز علمائها الكبار الذي عُرف بدفاعه عن قضايا الأمة”.
كما نعاه أمير الجماعة الإسلامية في باكستان، سراج الحق، في تغريدة له باللغة العربية، قائلاً إنه “وهب حياته لخدمة الإسلام والتربية والدعوة، والدفاع عن قضايا الأمة”؛ فيما غرّد حزب العدالة والتنمية في المغرب ناعيًا الشيخ، وتقدّم بـ”أحرّ التعازي لأسرة الفقيد، وللأمة الإسلامية على هذا المصاب الجلل”، معتبرًا إياه “أحد الرواد الكبار لمنهج الوسطية في العالم العربي والإسلامي”؛ وفي تونس، نعى في بيان له رئيس حزب حركة النهضة، راشد الغنوشي، القرضاوي، مؤكدًا أن “فقيد الأمة وهب حياته مبيّنًا لأحكام الإسلام، ومدافعًا عن أمته، مؤكدًا مبدأ الوسطية”.
ومن مصر، نعته أسرة الرئيس الأسبق الراحل محمد مرسي في بيان خاص، مؤكدةً أنه “أفنى حياته في العلم والتعليم والإصلاح والاجتهاد وكان مدرسة للإسلام الشامل، وناضل بقول الحق من أجل أمته ودينه”، كما نعته جماعة الإخوان المسلمين التي كان أحد أعلامها رغم الخلافات بينهما، فيما نعاه عشرات الشخصيات المصرية بينهم معارضون في الخارج، مثل جمال حشمت وحمزة زوبع ومحمد محسوب والإعلامي معتز مطر.
ومن فلسطين، نعاه رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، وحركة الجهاد، في بيانَين منفصَلين، مشيران إلى أنه “كرّس حياته مدافعًا عن القضية الفلسطينية”، ومن العراق نعاه الحزب الإسلامي العراقي في بيان خاص، قائلًا إنه “مثّل الفكر والفقه الإسلامي الوسطي”، كما نعاه كل من العالم الليبي علي الصلابي، والأكاديمي الموريتاني محمد المختار الشنقيطي، والداعية الكويتي نبيل العوضي، والسياسي الكويتي ناصر الدويلة، والعالم أحمد الريسوني، ومحمد راتب النابلسي، وعلي القره داغي، في بيانات منفصلة.
تجاهُل الأزهر لتقديم واجب العزاء ونعي القرضاوي لن يقلل من قيمته وقامته، فالجنازة الغفيرة التي أُقيمت له وتظاهرة الحب التي شهدتها منصات التواصل الاجتماعي في كافة دول العالم، وبرقيات النعي الحارة التي سطرها كبار العلماء والشخصيات العامة، كافية لإثبات مكانة العالم الراحل في صدور محبيه وأنصاره وتلامذته والمنصفين من مفكري الأمة وعلمائها، لكن هذا التجاهل ينتقص حتمًا من مكانة المؤسسة الأكبر في العالم الإسلامي ويضع سمعتها على المحك، فهل يدرك القائمون عليها خطورة المنزلق الذي يساقون إليه قبل فوات الأوان؟