في الوقت الذي شهدت فيه بغداد ليلة الثلاثاء إجراءات أمنية مشددة قامت بها الحكومة العراقية، تمثلت بقطع أغلب الجسور والطرق المؤدية إلى المنطقة الخضراء، بعد إعلان مجلس النواب عن عقد جلسة جديدة للمجلس، للتصويت على قبول استقالة رئيس المجلس وانتخاب نائب أول له؛ كان العراق في صباح اليوم التالي على موعد مع موجة جديدة من الاستهدافات الإيرانية لقرى ومناطق داخل إقليم كردستان، بحجّة استهداف مواقع عسكرية تعود لجماعات مسلحة كردية إيرانية معارضة تتواجد في الإقليم، حيث أعلن الحرس الثوري الإيراني في بيان له عن إطلاق 73 صاروخًا بالستيًّا و20 طائرة مسيَّرة انتحارية، في عملية الاستهداف هذه.
ورغم تصويت مجلس النواب على رفض قبول استقالة رئيس المجلس محمد الحلبوسي، إلا أن الأمور أخذت بالتصعيد، بعد محاولة جماهير تابعة للتيار الصدري عبور الحواجز الأسمنتية لدخول المنطقة الخضراء، ترافقَ ذلك مع إطلاق 4 صواريخ كاتيوشا من مناطق شرق القناة مستهدفة مبنى المجلس، ما دفع برئاسة المجلس إلى رفع جلستها حتى إشعار آخر، في مشهد يعكس حجم الصراع السياسي الذي يشهده العراق اليوم، وهو ما يشير بدوره إلى إمكانية بدء موجة جديدة من الصراع الدامي، على غرار ما حدث يومَي 28 و29 أغسطس/ آب الماضي.
إذ إن إصرار قوى الإطار التنسيقي الشيعي على المضيّ بعملية تشكيل الحكومة، رغم التحفظات التي أبداها التيار الصدري على مرشح الإطار لرئاسة الوزراء، محمد شياع السوداني، قد يدفع بالتيار للمراهنة مرة أخرى على الحلول المتطرفة، خصوصًا بعد أن ردّت المحكمة الاتحادية صباح يوم الأربعاء الدعوة المقدمة للطعن في دستورية استقالة نواب الكتلة الصدرية من المجلس، حيث أصبحت مساحة المناورة أمام التيار الصدري بعد قرار المحكمة ضيقة جدًّا، ولم يعد أمامه سوى المراهنة على الشارع، أو القبول بالعرض السياسي المقدَّم من قبل قوى الإطار للاشتراك بالحكومة.
ولا شك أن هناك العديد من العقبات التي تقف بدورها أمام قبول التيار الصدري بالعرض الإطاري، وهي أن التيار في حالة اشتراكه بالحكومة المقبلة سيتحول من طرف رئيسي إلى مشارك، بعد أن كان يملك غالبية مقاعد المكون الشيعي.
ليس هذا فحسب، بل أن التيار بقبوله الاشتراك بالحكومة سيكون محرَجًا أمام جمهوره الذي ساعده على الفوز بالأغلبية، ودعمَه في خياره الذهاب نحو الشارع، وهو ما يفسّر بدوره الخطأ الاستراتيجي الكبير الذي وقع به التيار الصدري بانسحابه من العملية السياسية.
الحلبوسي يعيد تشكيل المشهد
الخطوة السياسية التي قام بها الحلبوسي بتقديم استقالته من رئاسة المجلس، تعبِّر بدورها عن نقلة سياسية من محور لآخر، دون إثارة حفيظة أحدهم، فبعد أن كان الحلبوسي حليفًا للتيار، أصبح اليوم حليفًا للإطار، خصوصًا بعد أن رفضت غالبية قوى الإطار استقالته.
كما أن عودته مرة أخرى لرئاسة المجلس، ستفرض على قوى الإطار التعامل معه بشروط سياسية جديدة، أهمها التي أعلن عنها سابقًا، والمتمثلة بانسحاب الحشد الشعبي من المدن المحررة، وإعادة إعمارها، وهي الشروط ذاتها التي سيحاول الأكراد تطبيقها، عندما يحين موعد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية.
وعلى هذا الأساس، فإن الاختبار الحقيقي لما عُرف بـ”تحالف إدارة الدولة” المكوّن من الإطار التنسيقي والسيادة والديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، الذي أُعلن عنه بداية الأسبوع الجاري، سيكون في جلسة انتخاب الرئيس، فالتيار الصدري قد يكون على موعد جديد مع التصعيد، ولم يكن تصعيده يوم الأربعاء أمام بوابات المنطقة الخضراء، سوى خطوة أولى في خطوات تصعيدية أخرى قد تشهدها العملية السياسية في المرحلة المقبلة، وتحديدًا إن جلسة إعادة الثقة بالحلبوسي شرعنت وجود الإطار داخل مجلس النواب، وحقّه الدستوري بتشكيل الحكومة.
الحرس الثوري يُربك المشهد
مثّل القصف الصاروخي الذي قامت به القوة الصاروخية التابعة للحرس الثوري، في مناطق كويه التابعة لأربيل في إقليم كردستان، مدخلًا مهمًّا قد يلعب دورًا في تعقيد عملية الاتفاق بين الإطار التنسيقي والكتل الكردية، إذ لطالما طالبت السلطات في إقليم كردستان بضرورة أن تتوقف عملية قصف الإقليم، سواء القصف الذي يقوم به الحرس الثوري، أو القصف الذي تقوم به فصائل مسلحة تابعة لإيران، بل اعتبرت الأمر شرطًا للمضيّ في أي تفاهمات لتشكيل الحكومة المقبلة.
وفي هذا السياق أيضًا، تحاول إيران إيجاد مبرر جيد لتحويل الأزمة الداخلية التي تمرُّ بها إلى أزمة خارجية، بعد تصاعُد حدّة الاحتجاجات الداخلية على خلفية مقتل الناشطة الإيرانية الكردية مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق، بسبب مخالفتها شروط ارتداء الحجاب، وكذلك تفاقم الوضع الصحي للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي.
وذلك عبر تصدير مشهد إعلامي للداخل الإيراني، بأن ما يجري هو عملية إرهابية تقوم بها جماعات مسلحة معادية للجمهورية، تحاول توظيف الاحتجاجات بتحويلها إلى أعمال فوضى مسلحة، وهي فرضية دعمتها وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيراني الأسبوع الماضي، عندما اعتقلت ما يقارب الـ 300 متظاهر بحجّة إثارة الفوضى.
ففي الوقت الذي دخلت فيه إيران بعلاقات تحالف مهمة مع حزب العمال الكردستاني (PKK) في سنجار وقنديل، لتوظيفه في صراعها الإقليمي مع تركيا، فإنها في الوقت نفسه دخلت في صدام مع أذرع هذا الحزب في إيران، وتحديدًا حزب الحياة الحرة الكردستاني “البيجاك” وحزب كوملة الكردستاني.
بل الأكثر من ذلك أن إيران تحاول الحفاظ على حالة الصدام معها، من أجل توظيفها كأوراق ضغط ضد إقليم كردستان، واستخدامها في أوقات الأزمات مع الإقليم، رغم إعلان هذه الأحزاب إمكانية أن تدخل في حوارات مع إيران، والعودة للعمل في الداخل الإيراني وإلقاء سلاحها.
ورغم حالة التنديد الإقليمي والدولي لعملية الهجوم الإيراني الأخير، وإعلان الحكومة العراقية تسليم مذكرة احتجاج للسفير الإيراني في بغداد، إلى جانب بيان بعثة الأمم المتحدة “اليونامي” الذي دعت فيه إلى احترام مؤسسات الدولة العراقية وصيانة مؤسساتها الدستورية، فإن كل هذه الخطوات تشير بدورها إلى أن العراق سيكون معرّضًا للمزيد من التطورات الخطيرة، خصوصًا في ظل احتدام الخلاف الداخلي وسعي إيراني لتصدير الأزمة، مع غياب أي جهد حكومي عراقي للحفاظ على السلم الأهلي ووضع حد لانتهاك السيادة العراقية.