يذكُر العلامة الراحل يوسف القرضاوي أنه لما بدأ بإلقاء دروسه الفقهية في قريته صفط تراب أثار زوبعة من الجدل بين عموم الناس، وكان حينها لم يبلغ الـ 19 من عمره، بدأ القرضاوي يبتعد في دروسه عمّا يعرفه أهل قريته من آراء المذهب الفقهي الواحد، فبدأ بالتيسير على الناس وتعليمهم أن هناك فسحة في دينهم يستطيعون الأخذ بها دون أن يتشنّجوا لرأي فقهي واحد، بالإضافة إلى الابتعاد عن الحشو لما لا حاجة للناس بمعرفته، وكل ذلك في إطار الأدلة الشرعية الواضحة المستقاة من الكتاب والسنّة، وفقًا لما ذُكر في سيرته.
ومنذ أن بدأ بيفاعته، سار القرضاوي على نهج التيسير ورفع الحرج مع الانضباط للدليل الشرعي، ثم بعد أن غادر هذه الحياة كان أهم ما في وصيته لعلماء الأمة: “أن يضعوا نُصب أعينهم وصية النبي صلى الله عليه وسلم، لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري حين بعثهما إلى اليمن وقال لهما: “يسِّرا ولا تُعسِّرا، وبشِّرا ولا تُنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا””، كما دعا العلماء أن يكون شعارهم الرفق لا العنف، والتساهل لا التشدُّد، ويوضّح في وصيته أن “التساهل الذي أعنيه، هو التساهل في الفروع والوسائل، لا في الأصول والأهداف، وعلى هذا الأساس يجب أن نعامل الناس”.
ولما كان التيسير أبرز ما جاء به القرضاوي في فتاويه للناس، كان أيضًا أساسًا من أساسات التجديد الديني الذي سعى له ومنهجًا لرسالته، ويشرح الشيخ محاور برنامجه بالقول:
“فقه الأولويات هو واحد من ألوان الفقه التي أطالب بها في برنامجي التجديدي والإصلاحي للأمة، فهناك فقه السنن، وفقه المقاصد، وفقه المآلات، وفقه الموازنات، وفقه الاختلاف، وفقه الواقع، وفقه التغيير، وفقه الأولويات”، ويعتبر القرضاوي أن من معالم الوسطية: تأكيد الدعوة إلى تجديد الفقه القرآني والنبوي.
في حديثه لـ”نون بوست”، يقول الدكتور وصفي عاشور أبو زيد، رئيس مركز الشهود الحضاري للدراسات الشرعية والمستقبلية: “لا شك أن هذه الألوان من الفقه موجودة في تراثنا، لكن للشيخ يوسف القرضاوي الفضل في تسليط الضوء عليها وإبرازها للوجود والحديث عنها بشكل منفرد ومستقل، ببيان معالمها ومجالاتها وتطبيقاتها المختلفة في الفقه الإسلامي والواقع المعاصر”.
وبحسب الدكتور أبو زيد، فإن ما أهّل القرضاوي لسبر أغوار صنوف الفقه هذه، هو “عمقه الفقهي والأصولي وموسوعيته العلمية والثقافية، وتكوينه الراسخ بتلمذته لعدد كبير من مشايخ الأزهر الأعلام، وأيضًا مشايخ الحركة الإسلامية التي انتمى إليها في مطلع شبابه”.
تجديد الدين بالدين وللدين
من أجل البحث في برنامج القرضاوي، لا بدَّ أولًا من إلقاء نظرة على فلسفته في التجديد الديني والاجتهاد، حيث يرى الشيخ – رحمه الله – أن “تجديد الدين ثابت بالنص ولكنَّه ليس الاجتهاد بعينه، وإن كان الاجتهاد فرعًا منه ولونًا من ألوانه، فالاجتهاد تجديد في الجانب الفكري والعلمي، أما التجديد فيشمل الجانب الفكري والجانب الروحي والجانب العملي، وهي الجوانب التي يشملها الإسلام، وهي: العلم والإيمان والعمل”.
وينطلق القرضاوي في فلسفته تلك من حديث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: “إن الله يبعث لهذه الأمَّة على رأس كل مئة سنة من يُجدِّد لها أمر دينها”، وفي هذا الإطار يقول إن “المجدِّد الحقيقي هو الذي يجدّد الدين بالدين وللدين، أما من يريد تجديد الدين من خارجه، أي بمفاهيم مستورَدة وأفكار دخيلة، ويجدده لمصلحة الغرب أو الشرق، فهو أبعد ما يكون عن التجديد الحق”.
انطلاقًا من هذه الفلسفة، برز القرضاوي في صدارة دعاة التجديد في العصر الحديث، فقد دعا إلى نهضة شاملة في العالم الإسلامي في كل المجالات لـ”تخليص العقلية الإسلامية والواقع الإسلامي من الركود”، إذ ينظر إلى أن كثيرًا من المسلمين المؤهَّلين للاجتهاد “أحجموا منذ زمن بعيد عن القيام به بسبب تلكم الدعاوى التي نادت بأن باب الاجتهاد والتجديد مغلق”.
يحدد القرضاوي ماهية التجديد التي يريدها في برنامجه، بداية من تجديد الإيمان ومن ثم العمل على تجديد الفضائل، ليتمَّ العمل على تجديد معالم شخصية الأمة، للبدء بإنشاء الجيل المسلم الذي يقود إلى جيل النصر المنشود، وقد أصّل لهذا الأمر عبر قوله: “وأمتنا أحوج ما تكون اليوم إلى من يجدد إيمانها، ويجدد فضائلها، ويجدد معالم شخصيتها، ويعمل على إنشاء جيل مسلم يقوم في عالم اليوم بما قام به جيل الصحابة من قبل، وهو الذي سميناه جيل النصر المنشود”.
ويتّخذ القرضاوي من الشيخ التركي سعيد النورسي، ومؤسس حركة الإخوان المسلمين حسن البنا، والشيخ أبو الأعلى المودودي، أمثلة إصلاحية تجديدية يمكن إكمال مسيرتهم، والناظر في مسيرة هؤلاء أنهم انتهجوا طرقًا مختلفة في التجديد، منهم المتصوف ومنهم السلفي ومنهم من جمع الخصلتَين وأضفى عليها الطابع الحركي، وهو حسن البنا.
في سياق الحديث عن الشيخ القرضاوي، يقول إبراهيم إسماعيل، وهو أحد طلاب الشيخ يوسف القرضاوي، إن “دعوات الإصلاح والتجديد بالظهور بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فقد مرّت على الأمة الإسلامية عدة قرون غابت فيها الحيوية العلمية، وحصلت فجوة سلوكية بين ما يريده دين الله منهم وبين ما عليه دنيا الناس، وكانت جميع تلك الدعوات تتفق على التخلص من آثار الفهم السطحي للدين، والسلوك غير الإيجابي في حياة المسلمين، فكانت بمجملها دعوات إصلاح للواقع الديني، وإحياء جديد له في نفوس المتدينين”.
ويشير إسماعيل خلال حديثه لـ”نون بوست” إلى أن “دعوات الإحياء والإصلاح التي كان له رواد كثر أرادت أن تنهي حالة الفصام النكد بين الدين والحياة، ولعلّها بلغت أوجها مع الإمام يوسف القرضاوي، فقد أمدّ الله بعمره فأدرك وتتلمذ على نخبة واسعة من أولئك العلماء، فكان امتدادًا لهم وكأنه كان خلاصة جهودهم في هذا المسعى”، مضيفًا أن الشيخ كان “يبحث عن فاعلية الدين في الحياة، وعن أثر الإيمان في السلوك”.
ويردف إسماعيل أنه “يمكننا ملاحظة أن برنامجه على “الجزيرة” حمل اسم “الشريعة والحياة”، وله كتاب بعنوان “الإيمان والحياة” وكتاب آخر عنوانه “التحذير من العرف الخاطئ والخداع اللفظي والتركيز على العقيدة وتأثيرها في العمل”، ومثلها كثير في أنشطة الشيخ وأعماله، وكلها تراعي جانب الوصل بين الدين والحياة، أو بين الفكرة الدينية والمطلب السلوكي المنسجم معها، وقد كان هذا الوصل من مميزات جيل الصحابة”.
ومن هذا المنطلق أراد الشيخ رحمه الله التوسُّع في المفهوم الأصلي للفقه، وهو الفهم الدقيق للأحوال والوقائع، فبالفَهْم الدقيق يحصل الوعي، ويتم التخطيط والعمل، ويحدث التغيير، لذلك تحدّث الشيخ عن فقه السنن كي يفهم المسلمون معادلات الفاعلية والتأثير، فلكلّ أمر شروطه، والنوايا الطيبة لا تكفي وحدها في معادلات التغيير، وسنن الله لا تحابي أحدًا.
لم يتبنَّ القرضاوي في منهجه التجديدي طرح النظريات فقط، بل جمع إليها التطبيق والعمل، وهو ما سنتحدث عنه في السطور التالية، إذ كان يؤصّل لفقه معيّن ثمّ يدشن له مؤسسات تجعله معاشًا في حياة الناس وواقعهم، كما ذكرنا.
فقه الأولويات
اعتمد يوسف القرضاوي في برنامجه الفقهي الإصلاحي على وضع قواعد بيّنة وواضحة في فقه الأولويات، الذي جعله يرتّب كل مناحي حياة المسلم واعتمد عليه في أبواب الفقه الأخرى، وكذلك ارتبط فقه الأولويات بفقه الواقع وفقه الموازنات، وبيّن القرضاوي وجوب وضع كل شيء في مرتبته، فلا “يؤخر ما حقه التقديم، أو يقدم ما حقه التأخير، ولا يصغّر الأمر الكبير، ولا يكبّر الأمر الصغير”.
أصّل القرضاوي لفقه الأولويات عبر كتابه الذي صدر عام 1994، وسماه “فقه الأولويات: دراسة جديدة في ضوء الكتاب والسنّة”، ويرى أن هذا النوع من الفقه واحد من ألوان الفقه التي أراد أن تكون ضمن برنامجه التجديدي الإصلاحي للأمة الإسلامية.
أما عن فلسفة القرضاوي في فقه الأولويات، فقد اعتمدت على “تقدير الأمور والأفكار والأعمال، وتقديم بعضها على بعض، وأيها يجب أن يُقدّم، وأيها ينبغي أن يُؤخَّر، وأيها ترتيبه الأول، وأيها ترتيبه السبعين، في سلّم الأوامر الإلهية والتوجيهات النبوية”، ويقول إنه أصدر الكتاب بسبب “اختلال النِّسب واضطراب الموازين – من الوجهة الشرعية ولا سيما مع ظهور الخلل في ميزان الأولويات عند المسلمين في عصرنا”.
ويرتّب القرضاوي فقه الأولويات بحسب عدّة أمور، وهي أولوية الكيف على الكمّ، بقوله: “من الأولويات المهمة شرعًا: تقديم الكيف والنوع على الكمّ والحجم، فليست العبرة بالكثرة في العدد، ولا بضخامة في الحجم، إنما المدار على النوعية والكيفية”، بعد ذلك يتحدث عن أولوية العلم والعمل بقوله: “ومن أهم الأولويات المعتبرة شرعًا: أولوية تقديم العلم على العمل؛ فالعلم يسبق العمل، وهو دليله ومرشده”، ويشير إلى أن من مكمّلات أولوية العلم على العمل: أولوية الفهم على مجرد الحفظ.
كما يؤكد القرضاوي على أولوية المقاصد على الظواهر، ويذكر في كتابه أن “آفة كثير ممن اشتغلوا بعلم الدين: أنهم طفوا على السطح، ولم ينزلوا إلى الأعماق؛ لأنهم لم يؤهّلوا للسباحة فيها، والغوص في قرارها، والتقاط لآلئها؛ فشغلتهم الظواهر عن الأسرار والمقاصد، وألهتهم الفروع عن الأصول”، ويشير الشيخ إلى أن من مكمّلات هذا الجزء “أولوية الاجتهاد على التقليد”، فالعلم عند السلف “هو العلم الاستقلالي، الذي يتبع فيه الحجة”.
وتأكيدًا على منهجه في الفتوى، يرى القرضاوي أن من الأولويات أولوية التخفيف والتيسير على التشديد والتعسير، وتبيّن ذلك من فتاويه التي كان يقول لعموم الناس بالأيسر، وكان يراعي الشيخ في فتاويه “تغير الفتوى بتغير الزمان”، مع مراعاته لسنّة التدرج من حيث “تعيين الهدف، ووضع الخطة، وتحديد المراحل بوعي وصدق”.
فقه الواقع
في أحد المؤتمرات انطلق يوسف القرضاوي في كلمته من مبدأ كان ينادي به في أحد أنواع الفقه التي لطالما تحدث عنها، وهو بأنه “لا يمكن لأمتنا أن تستشرف المستقبل وهي تجهل الحاضر.. للأسف أمتنا تجهل حاضرها!.. لكي ننطلق إلى المستقبل؛ لا بدَّ أن نعايش هذا الحاضر ونفقهه.. أنا دائمًا أنادي بـ”فقه الواقع”.. فقه الواقع أي فقه الحاضر.. نعايش الحاضر.. رحم الله امرءًا عرف زمانه واستقامت طريقته.. لا بدَّ أن نعرف زماننا لننطلق منه إلى المستقبل.. نحن لا نعرف حاضرنا.. الذي يعرف حاضرنا وواقعنا هم أعداؤنا”.
ويرى الدكتور القرضاوي أن فقه الواقع “مبني على دراسة الواقع المعيش، دراسة دقيقة مستوعبة لكل جوانب الموضوع معتمدة على أصحّ المعلومات وأدقّ البيانات والإحصاءات”، إذًا فقه الواقع يمكن أن يعرّف كالتالي: “هو الفهم العميق لما تدور عليه حياة الناس وما يعترضها وما يواجهها”.
ويقول الدكتور يوسف القرضاوي: “لا ينبغي أن نجعل أكبر همّنا مقاومة كل شيء جديد وإن كان نافعًا، ولا مطاردة كل غريب وإن كان صالحًا، وإنما يجب أن نفرّق بين ما يحسن اقتباسه وما لا يحسن، وما يجب مقاومته وما لا يجب، وأن نميز بين ما يلزم فيه الثبات والتشدد، وما تقبل فيه المرونة والتطور”.
ثم ينكر القرضاوي على المشايخ والعلماء الذي لا يأخذون بفقه الواقع ويقرّعهم بقوله: “رأينا فقهاء الأوراق يقاتلون على أشياء يمكن التسامح فيها، أو الاختلاف عليها، أو تأجيلها إلى حين، ويغفلون قضايا حيوية مصيرية، تتعلق بالوجود الإسلامي كله، وهؤلاء قوم قد لا ينقصهم الفقه، ولئن جاز تسميتهم (علماء) فلا يجوز تسميتهم (فقهاء) لو كانوا يعلمون”.
فقه مقاصد الشريعة
يعتبَر القرضاوي أبرز من تكلم في فقه مقاصد الشريعة خلال العصر الحالي، ويعتبره البعض أنه المنظّر والمفكّر فيه، والقارئ في كتب القرضاوي يرى أن الفكر المقاصدي يتضح بكل ما يكتب خاصة بالأمور الفقهية والفتاوى، خاصة أنه يعتمد على هذا النوع من الفقه في مجال تعليله للأحكام، معتمدًا على المقاصد بالترجيح والوصول إلى الأحكام الشرعية، ثم أن القرضاوي يعتبر وجود فقه المقاصد هو “شرط أساسي لا بدَّ من توافره كي يبلغ الفقيه درجة الاجتهاد”.
وقد اتخذ القرضاوي من التيسير في الفتوى منهجًا له لأنه يرى ذلك من مقاصد الشريعة، وتوسّع القرضاوي في فقه المقاصد على اعتباره أنه أبو كل ألوان الفقه كما يقول: “وفي رأيي أن فقه المقاصد هو أبو كل هذه الألوان من الفقه؛ لأن المعنيّ بفقه المقاصد هو: الغوص على المعاني والأسرار والحكم التي يتضمنها النص، وليس الجمود عند ظاهره ولفظه، وإغفال ما وراء ذلك”.
ومن مؤلفات الشيخ التي يظهر فيها اهتمامه بالمقاصد: “المدخل لدراسة الشريعة”، و”كيف نتعامل مع القرآن العظيم”، و”كيف نتعامل مع السنّة النبوية”، و”السياسة الشرعية”، و”شريعة الإسلام”، و”مدخل لمعرفة الإسلام”، و”فقه الأولويات”، و”فقه الأقليات”، و”فقه الدولة في الإسلام”، وأخيرًا صدر له كتاب عن دار الشروق بعنوان: “دراسة في فقه مقاصد الشريعة بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية”.
فقه الأقليات
في بلاد المسلمين
كذلك كان الشيخ القرضاوي من أبرز علماء المسلمين في عصره الذين تحدّثوا في فقه الأقليات، سواء عن المسلمين في الدول غير المسلمة أو عن غير المسلمين في الدول المسلمة، وتعدّى ذلك الحديث عن الأقليات السياسية وكيفية التعامل معها، يشار إلى أن القرضاوي اهتم اهتمامًا واضحًا بموضوع حقوق غير المسلمين في المجتمع المسلم، خاصة في ظل الأزمات المعاشة والناتجة عن هذا الأمر، وأصّل القرضاوي لحقوق الأقليات بعد الاستدلالات الشرعية.
طرح القرضاوي تسمية “غير المسلمين في المجتمع الإسلامي” لكتابه، والتغيير الأول في هذا الكتاب كان بطريقة عرض العنوان، إذ أنه ذكر “غير المسلمين” ولم يذكر المصطلح الشرعي “أهل الذمّة”، ويعلل القرضاوي ذلك: “لما أصبحت كلمة “أهل الذمّة” غير مقبولة عند إخواننا من مواطنينا من أهل الكتاب الذين يعيشون بين ظهرانينا، وهم من بني جلدتنا، ويتكلمون بلساننا، ويشعرون بأن هذه الكلمة توحي بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، ولهذا لم أرَ بأسًا من حذف هذا العنوان الذي ينفر منه الأقباط في مصر والسودان، والمسيحيون في بلاد الشام وغيرها”.
ويرى القرضاوي أن لأبناء الأقليات في بلاد المسلمين حقوقًا، من أهمها حق حماية الدين والأبناء وحماية الدماء والأموال والأعراض، ومن ثم تكلم عن حق تأمينهم عند العجز والشيخوخة، إضافة إلى حق حرية التديُّن، وفي الحياة العامة لهم حقوق العمل والكسب والالتحاق بالوظائف العامة.
المسلمين في بلاد غير المسلمين
تحدّث القرضاوي عن المسلمين في دول غير المسلمين، ولعلّ آراءه لم يوافقها الكثيرون، وقد تحدّث في هذا الباب أنه “من الخير للمسلمين، ومن الخير للغربيين: أن يكون هناك وجود إسلامي في الغرب، يتعامل الغربيون معه مباشرة دون وسيط، على خلاف ما يراه بعض المتشددين من المسلمين: أنه لا يجوز الإقامة في هذه البلاد”.
ويرى القرضاوي أن الوجود الإسلامي ضروري في الدول غير المسلمة، وذلك لتبليغ الإسلام وإسماع صوته، كما أنه ضرورة لحضانة مَن يدخل في الإسلام ومتابعته وتنمية إيمانه، ثم إن هذا التواجد يقوم بالدفاع عن قضايا الأمة الإسلامية، والأرض الإسلامية، في مواجهة القوى والتيارات المعادية والمضللة، ولا بدَّ أن يكون للمسلمين تجمعاتهم الخاصة في ولايات ومدن معروفة، وأن تكون لهم مؤسساتهم الدينية والتعليمية بل الترويحية.
لكن القرضاوي حذّر من الذوبان ودعا إلى المحافظة دون الانغلاق، قائلًا: “حاولوا أن يكون لكم مجتمعكم الصغير داخل المجتمع الكبير، وإلا ذُبتم فيه كما يذوب الملح في الماء. اجتهدوا أن يكون لكم مؤسساتكم الدِّينية، والتربوية، والثقافية، والاجتماعية، والترويحية، وهذا لا يتمُّ إلا بالتحابِّ والتعاون، فالمرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه، ويد الله مع الجماعة”.
نتيجة اهتمام الشيخ القرضاوي بالمسلمين في الغرب، أسّس لـ”المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث” بهدف إيجاد تقارب بين علماء المسلمين في أوروبا والعمل على توحيد الآراء الفقهية فيما بينهم حول القضايا الفقهية المهمة، كما كانت أحد أهداف المجلس “إصدار فتاوى جماعية تسدّ حاجة المسلمين في أوروبا وتحلُّ مشكلاتهم، وتنظم تفاعلهم مع المجتمعات الأوروبية، في ضوء أحكام الشريعة ومقاصدها”، كما إصدار البحوث والدراسات الشرعية، التي تعالج الأمور المستجدة على الساحة الأوروبية بما يحقق مقاصد الشرع ومصالح الخلق.
الاقتصاد الإسلامي في نظر القرضاوي
دخل الشيخ يوسف القرضاوي للحديث عن الاقتصاد في الإسلام وفقهه، وعني به من الناحية النظرية ومن الناحية التطبيقية، حيث ضمّ إنتاجه من الكتب عددًا من التصنيفات في المجال الاقتصادي الإسلامي، لعل أهمّها هو كتاب “فقه الزكاة”، بالإضافة إلى كتاب “مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام”، و”بيع المرابحة للآمر بالشراء” كما تجريه المصارف الإسلامية، وكتابه “فوائد البنوك هي الربا الحرام”.
يقول الشيخ محمد الصغير عن كتاب “فقه الزكاة”: “عند مطالعة “فقه الزكاة” ستدرك أن إنتاج الإمام القرضاوي في التأليف لو اقتصر على هذا السفر الفريد، لحصّل به رتبة الأئمة المجتهدين، والمصلحين المجددين”.
ومن الناحية التطبيقية، فقد كان القرضاوي من أشد المساندين لفكرة قيام البنوك الإسلامية، وقد وضع على عاتقه أن يتعاون مع الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، ووفقًا لموقعه الرسمي فقد عملَ “مستشارًا شرعيًّا متطوّعًا لأول بنك إسلامي، وهو بنك دبي الإسلامي، ثم أصبح عضوًا للهيئة العامة للرقابة الشرعية بدار المال الإسلامي في جنيف، وشركة الراجحي للاستثمار بالمملكة العربية السعودية، وهو كذلك رئيس هيئة الرقابة الشرعية لكل من: مصرف قطر الإسلامي بالدوحة، بنك قطر الدولي الإسلامي، مصرف فيصل الإسلامي بالبحرين وباكستان، بنك التقوى في لوجانو بسويسرا، وعضو مجلس إدارة بنك فيصل الإسلامي المصري، وعضو مؤسس بجمعية الاقتصاد الإسلامي بالقاهرة”.
وقد بيّن عن سرّ اهتمامه بالاقتصاد الإسلامي قائلًا: “إن اهتمامي بالاقتصاد الإسلامي جزء من اهتمامي بالشريعة الإسلامية، والدعوة إلى تحكيمها في جميع مجالات الحياة، وإحلال أحكامها محل القوانين الوضعية والأنظمة المستوردة”.
فقه الائتلاف
بذل الشيخ القرضاوي الكثير في محاولات التقريب والحوار بين المسلمين داعيًا إلى نبذ الفرقة والتعاون في المشتركات، وفي هذا الباب يرى الشيخ القرضاوي أن “التأليف بيد الله، أما محاولة الائتلاف والإصلاح فهي من عمل الإنسان، وهو مطلب إسلامي جعله الله من دلائل الإيمان”، ويشير إلى أن “الفرقة والتنازع وعدم الائتلاف، كل ذلك يقطع الروابط التي جاء بها الإسلام”.
وينظر الشيخ إلى أن وجود الاختلاف في الأعراق، وفي اللون، وفي الثقافة، وفي الحضارة، وفي الانتماء، وفي الفكر، وكذلك في الدين، لا حرج فيه ولا عيب، ولا قدرة أصلًا على تغييره، لكنه يشدد على أن القضية والحرج ومناط الاجتهاد في التغيير يكمن في أن يتحول هذا الاختلاف إلى تنازع وفرقة، ويقول: “الدين يُعلّم الجميع كيف تكون طريقة استمالة الآخر للوصول إلى هدف أعلى وأسمى وهو التوحد والتعاون على الأقل في نقاط الالتقاء، وفي المساحات المشتركة”.
حديث الشيخ القرضاوي عن الائتلاف له أكثر من مناسبة، خاصة الدعوات بالتقارب مع أهل المذاهب الأخرى في الإسلام، ويعرَف عن الشيخ القرضاوي أنه سعى إلى تقريب وجهات النظر بين الشيعة والسنّة في عدة مواطن، ويرى أن “التقريب الحقيقي أن يجتمع العلماء من هنا ومن هناك، بإرادة حرة بعيدًا عن هيمنة أية جهة، وينشئوا مجمعًا يستطيعون من خلاله عمل مراجعات شاملة لكل الأفكار والرؤى التي تحتاج للمراجعة، فهذه هي الطريقة العملية كي يتحول التقريب والائتلاف من الفكر إلى حيز التنفيذ”.
كما أبدى الدكتور القرضاوي غير مرة عن عدم ارتياحه إزاء نتائج المؤتمرات الهادفة للتقريب بين المذاهب الفقهية، واصفًا إياها بأنها “مؤتمرات للمجاملات”، لكنه كان يشدد على أهمية تواصل الحوار لحماية الأمة من المخاطر، ويُذكر أنه قال إنه “ليس من مصلحة السنّة ولا الشيعة أن تقع حرب، وعلينا جميعًا تفويت الفرصة على أعداء الأمة من خلال وأد الفتنة المذهبية، أيّ حرب تعلن ضد إيران فأنا مع إيران، هذا موقف مبدئي. لكن هذا لا يعني أن نفرّط بحقوق مجتمعاتنا الإسلامية”.
ومن الناحية التطبيقية، فقد حضر الشيخ القرضاوي العديد من المؤتمرات التي تدعو للتقارب بين السنّة والشيعة، وبادر أكثر من مرة في هذا الطريق خاصة في زيارته إلى طهران في عهد الرئيس السابق محمد خاتمي، لكن باءت كل محاولات الشيخ القرضاوي بالفشل، رغم صموده في هذا الطريق لسنوات ومواجهته للكثير من انتقادات مشايخ السنّة لسلوكه هذا الطريق.
لكن اختلفت نظرة الشيخ القرضاوي بعد انطلاقة الربيع العربي وعبث إيران وأدواتها في المنطقة بمستقبل الشعوب والدول، حيث قال: “وإيران أيضًا عدوتنا! عدوة العرب.. قتلى سوريا قتلهم الإيرانيون والصينيون والروس والجيش السوري وحزب الله الذي يرسل رجاله للقتال بسوريا تباعًا”، هذا كان موقف الشيخ القرضاوي من التدخل الإيراني وتدخل حزب الله اللبناني في سوريا ضد الشعب السوري، وأعلن في إحدى كلماته أنه كان مخدوعًا بفكرة المقاومة التي ينتهجها حزب الله اللبناني.
وشنَّ القرضاوي هجومًا لاذعًا على الحزب الذي شارك بمعارك النظام وقتل السوريين، ووصف الشيخ الراحل زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله بـ”نصر الطاغوت”، كما وصف حزبه بـ”حزب الشيطان”، بسبب تدخلهما عسكريًّا في سوريا إلى جانب الرئيس بشار الأسد، وأردف القرضاوي قائلًا: “الآن عرفنا ماذا يريد الإيرانيون… يريدون المجازر المستمرة والمدبَّرة لقتل أهل السنّة”.
واعترف القرضاوي بأنه كان مخطئًا عندما ساند في وقت سابق الشيخ حسن نصر الله، وقال: “دافعت عن من يسمّى حسن نصر الله وحزبه حزب الطاغوت وحزب الشيطان، ووقفت أمام مشايخ السعودية أدافع عنهم ويبدو أن مشايخ السعودية كانوا أنضج مني”، ويقصد موقفهم من حزب الله.
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
توجّه الشيخ القرضاوي من صميم فلسفة فقه الائتلاف إلى أن يجمع علماء المسلمين في إطار المشتركات المتفق عليها، ضمن مؤسسة يصل بها لمنظومة متكاملة يستطاع من خلالها أن يحققوا فيها الائتلاف، فكان تأسيسه للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عام 2004، ويضم الاتحاد حاليًّا آلافًا من العلماء وطلاب العلم من المسلمين من مذاهب مختلفة سنّية وشيعية وإباضية، ولكن يغلب عليه الطابع السنّي بشكل واضح.
قام الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وفق أسس عدة، وهي الإسلامية والعالمية والشعبية والاستقلالية عن أية حكومات أو دول، بالإضافة إلى قيامه على أُسُس علمية ودعوية، متبنّيًا منهج الوسطية والحيوية في طرح الأفكار الدينية، كما يهدف الاتحاد بشكل أساسي إلى “بيان موقف العلماء من الأحداث المهمّة والاستحقاقات التي قد تطرأ في العالم، ومن أجل ذلك وضع لنفسه محدداتٍ منهجيةً ومعالمَ يحافظ فيها على التوازن والموضوعية والمصداقية والاستقلالية فيما يصدر عنه، ويضمن قبوله مرجعية يعتمد عليها المسلمون في النوازل”.
وفي هذا الإطار يتحدث الشيخ القرضاوي أنه “نظرًا لتغير شؤون الحياة عمَّا كانت عليه في الأعصار الماضية، وتطور مجتمعات اليوم تطورًا هائلًا في الأفكار والسلوك والعلاقات، فإن عصرنا الحاضر أحوج ما يكون إلى الاجتهاد وذلك بعد الثورة التكنولوجية التي يشهدها العالم، وكان من جرّائها أن طُرحت قضايا جديدة كل الجدّة، مثل: أطفال الأنابيب، وزرع الأعضاء، ونقل الدم، وما جدّ في العلاقات الدولية والأنظمة المالية والاقتصادية من أشياء لم يعرفها السابقون أو عرفوا بعضها في صورة مصغّرة جدًّا”.
وشدد القرضاوي على ضرورة الاجتهاد الجماعي، عبر قوله إن “الاجتهاد الذي نحتاج إليه في عصرنا هو الاجتهاد الجماعي الذي يقوم في صورة مجمع فقهي عالمي، يضم الكفاءات العلمية العالية ويصدر أحكامه بعد دراسة وفحص، بشجاعة وحرية، بعيدًا عن ضغط الحكومات وضغط العوام، ومع هذا أؤكد أنه لا غنى عن الاجتهاد الفردي الذي ينير الطريق أمام الاجتهاد الجماعي بما يقدم من دراسات متأنية مخدومة”.
أخيرًا، يقول إبراهيم إسماعيل: “الشيخ القرضاوي هو خلاصة وامتداد جهود المصلحين والإحيائيين الكبار في القرن العشرين، ولذلك هو مدين لهم بالفضل بلا شك، وقد أشار إلى كثير من أعلامهم في أعماله ومذكراته، وقد كان وفيًّا لهم بحيث استوعب جهودهم، وطوّر بعض أفكارهم وبنى عليها، والمحصلة أنه تقدم عليهم بكثرة المجالات وتنوع الميادين التي اشتغل فيها، وبذلك يكون أوسعهم اشتغالًا وأكثرهم تأثيرًا، ولا شك أنه بذلك يتفرد”.
أما الدكتور وصفي أبو زيد فقال إن “الشيخ القرضاوي هيَّأ الله له ظروفًا مكّنته من التميز والفرادة، وهي انخراطه في العمل الدعوي الحركي واطّلاعه على أوضاع الأمة وأحوالها، واشتباكه بقضاياها وإشكالاتها ومحاولاته الحثيثة للبحث عن علاج لهذه المشكلات وتلك القضايا، من خلال هدي القرآن والسنّة النبوية”.
مضيفًا: “اتخذ الشيخ القرضاوي من قطر قاعدة للانتشار العالمي من خلال إعلامها، وكتاباته التي أنتجها ومشاركته الهائلة في المؤتمرات والندوات والرحلات العلمية بالعالم الإسلامي، والمؤسسات التي أسّسها والمؤسسات التي كان عضوًا فيها، كل هذا بالإضافة إلى عمره الطويل جعل منه الوارث الأول للرسول محمد صلى الله عليه وسلم في عصرنا هذا، وهو أوفر الناس حظًّا من ميراث النبوة”.
لا تحيط هذه العجالة في تفاصيل برنامج العلامة القرضاوي، لكنها محاولة لتسليط الضوء على أبرز جوانبه، التنظيرية والتطبيقية، ومثلما كان القرضاوي مهيبًا في حياته كان حضوره في يوم رحيله، وبفقده فقدت الأمة “آخر الإصلاحيين الكبار”.