ترجمة وتحرير: نون بوست
أعادت وفاة الشابة الإيرانية مهسا (زينة) أميني في الحجز لفت نظر العالم مرة أخرى إلى قضية إلزامية الحجاب في إيران. كانت أميني البالغة من العمر 22 سنة من مدينة سقز في المنطقة الكردية شمال غرب إيران تزور عائلتها في طهران. وفي 16 أيلول/ سبتمبر، ألقت “شرطة الأخلاق” أو دورية الإرشاد القبض عليها في شوارع طهران – وهي وحدة معروفة ويخشاها الجميع في إيران – ويُرجّح أنها تعرضت للاعتداء الجسدي أثناء احتجازها ما أدخلها في غيبوبة توفيت على إثرها.
دعا مسؤولون إيرانيون، بمن فيهم الرئيس إبراهيم رئيسي، إلى فتح تحقيق لكشف ملابسات وفاتها. كما اتصل رئيسي بعائلة الضحية لتقديم تعازيه. لكن هذه الخطوة كانت غير كافية ومتأخرة، فسرعان ما اجتاحت احتجاجات واسعة النطاق جميع أنحاء البلاد – وتم الإبلاغ عن مقتل العشرات – لتكون وفاة أميني المأساوية الشرارة التي أشعلت نار الغضب والإحباط المكبوتين ضد النظام الحاكم.
وبينما تحاول أجهزة الدولة التقليل من شأن الحادث وقمع الاحتجاجات بعنف، تجمّع الصحفيون في الشتات في أماكن مثل قناة “بي بي سي فارسي” أو “راديو فاردا” لتغطية الاحتجاج بأكمله والتكهن باقتراب نهاية النظام في طهران.
انضمت حركة مجاهدي خلق والموالون للمًلكية المحيطون بنجل الشاه السابق رضا بهلوي إلى المحرضين المحترفين في الجيب العميق لمغيري النظام في الولايات المتحدة والركوب على الحدث خدمةً لأغراضهم السياسية الخاصة.
في المقابل، استغلت الجماعات المعادية للإسلام هذه الحادثة لشيطنة عادات لباس النساء المسلمات. لذلك، يجب توخي الحذر الشديد لعدم الخلط بين هذه المجموعة من العملاء المحرضين من خارج إيران والانتفاضة الحقيقية داخل البلاد. وهناك أيضًا الكثير من المتحمسين أمثال أحمد الجلبي وكنعان مكية بين المغتربين الإيرانيين.
“الأخلاق” والطبقة
إن الإرهاب الذي يمارسه الأصوليون، العنصر السلفي على غرار طالبان في النظام الإيراني، على المواطنين لا يقتصر على تنظيم قواعد لباس المرأة الإيرانية – لا سيما الإيرانيات من الطبقة الفقيرة والمتوسطة – بل يبدأ به. في المقابل، لا تهتم النساء في المناطق الأكثر ثراءً وفخامة كثيرا بمثل هذه القواعد، وحتى “شرطة الأخلاق” التي ينتمي أفرادها في الغالب إلى الطبقة الفقيرة والمتوسطة لا تجرؤ على الاقتراب منهن.
تكشف ديناميكية القوة بين الأغنياء والفقراء – الأقوياء والضعفاء – عن سخافة ممنهجة تحدد نسيج المجتمع الإيراني في ظل حكم النظام الإسلامي. لقد أدت عقود من العقوبات الأمريكية ضد إيران إلى تفاقم الفجوة المخيفة بين الفقراء للغاية وفاحشي الثراء في إيران. وجمع أنصار النظام الحاكم ومساعدوه ثروة خيالية من خلال ممارسات تجارية مشبوهة وفساد متجذّر.
في مقال نُشر في سنة 2009، لخص جواد صالحي أصفهاني، الخبير الاقتصادي الإيراني الذي يحظى باحترام واسع ومقيم في الولايات المتحدة، حالة ما بعد الثورة بإيجاز: “هناك نقاش حاد داخل إيران حول الحقائق المتعلقة بتطور المساواة. مع ذلك، تقدّم البيانات الواردة من المركز الإحصائي الإيراني دليلا على كيفية تغيّر انعدام المساواة من حيث نفقات الأسرة، والتحصيل العلمي، والوصول إلى الخدمات الصحية والأساسية. وتظهر لنا صورة مختلطة: النجاح في تحسين مستوى المعيشة ونوعية الحياة للفقراء مقابل الفشل في تحسين التوزيع العام للدخل”.
منذ نشر هذا المقال، تغيرت الأمور بشكل جذري نحو الأسوأ – ويرجع ذلك جزئيًا إلى العقوبات الأمريكية المعوقة. وفي حين أن الانتفاضة الاجتماعية خلال سنتي 2017 و2018 – بعد عقد واحد فقط من نشر المقال – كانت مدفوعة في الغالب بحالة الفقراء والوضع الاقتصادي، ربطت الانتفاضة الحالية تلك المشاكل الاقتصادية المستمرة بالمخاوف الاجتماعية للطبقة الوسطى بشأن السلوك التعسفي للدولة تجاه النساء والحجاب الإلزامي.
وحسب ما كشفته انتفاضة 2017-2018، فإن التصدعات الاقتصادية للنظام الحاكم والاحتجاجات التي أثارها مقتل مهسا أميني في الحجز تكشف عن التطلعات المحبطة لجيل مؤهل للغاية ومتشابك يتبنى مفهوما مختلفا عن أنفسهم مما تسمح لهم الدولة الشمولية بالتعبير عنه.
من الحجاب الإلزامي إلى الكشف الإلزامي
على الرغم من اندماج القضايا الاقتصادية الأخرى على قدم المساواة، إن لم تكن أكثر أهمية، إلا أن الحجاب الإلزامي للنساء الإيرانيات ضد إرادتهن يمثل محور الاحتجاجات الحالية.
من المؤكد أن هناك ملايين الإيرانيات اللواتي يرتدين الحجاب طواعية وبفخر كدليل على إيمانهن وهويتهن. لكن هناك أيضًا ملايين النساء الأخريات اللواتي لا يرغبن في أن يُفرض عليهن الحجاب بالعنف.
كان الحجاب الإلزامي الذي فُرض بعد فترة وجيزة من استيلاء الجمهورية الإسلامية على السلطة تحديًا مباشرًا للكشف الإلزامي أو كشف الحجاب، الذي فرضه رضا شاه بهلوي على الإيرانيات عندما تولى السلطة في ثلاثينات القرن الماضي. ركز الطغاة، رضا شاه وآية الله الخميني، على مراقبة أجساد النساء باعتبارها مسرحًا لأيديولوجياتهما الخاصة بالسلطة والهيمنة لتتحول إلى ساحة معركة أيديولوجية لممارساتهم السلطوية.
تم تنظيم أول احتجاج اجتماعي جماعي ضد الحجاب الإلزامي للجمهورية الإسلامية في يوم المرأة العالمي، في 8 آذار/ مارس 1979. وبعد مرور أكثر من 40 عاما، فشل النظام فشلا ذريعا في فرض ضوابطه الفاسدة المسلّطة على أجساد النساء على مواطنيه المتحدين.
يمثّل فرض الحجاب الإلزامي الذي نشهده في إيران عكس ما نراه في كثير من دول أوروبا وأمريكا الشمالية، حيث تتعرض النساء المسلمات للمضايقة بشكل منهجي إذا اخترن ارتداء الحجاب الإسلامي. لعقود من الزمان، لم يمر يوم واحد دون حدوث هجوم عنيف عنصري كاره للنساء ومتعصب ضد النساء المسلمات في أوروبا والولايات المتحدة.
وفقًا لمركز قانون الحاجة الجنوبي، وهو مؤسسة مرموقة للغاية توثق جرائم الكراهية، فإن “مجموعات الكراهية المعادية للمسلمين هي ظاهرة جديدة نسبيًا في الولايات المتحدة، ظهر العديد منها بعد الهجمات الإرهابية في 11 أيلول/سبتمبر 2001. تشوه هذه الجماعات سمعة الإسلام على نطاق واسع وتتاجر بنظريات المؤامرة التي تعتبر المسلمين بمثابة تهديد تخريبي للأمة، وهذا يولد بيئة من الخوف والكراهية والتخويف الموجه ضد المسلمين أو من يُعتقد أنهم كذلك”.
لا يمكن لأي دولة أوروبية أو الولايات المتحدة أن تندد بالسلوك التعسفي للدولة الإيرانية بينما هي تطبّق أفظع أشكال الإسلاموفوبيا التي تستهدف النساء المسلمات.
في الواقع، النساء المسلمات اللواتي يرتدين الحجاب هن الهدف الأساسي لهذه الصناعة برمتها من الإسلاموفوبيا لأنهن الأكثر بروزًا. وهذه الجرائم ليست فقط من عمل عصابة من الحمقى العنصريين الممولين جيدًا من قبل أصحاب الملايين المعادين للإسلام.
في جميع أنحاء أوروبا وكذلك في الولايات المتحدة، هناك تشريع يستهدف النساء المسلمات وحجابهن، وقد فُرض حظر كامل أو جزئي على الحجاب الإسلامي في كل من النمسا وفرنسا وبلجيكا والدنمارك وبلغاريا وهولندا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا (وفي بعض مناطق كاتالونيا) وسويسرا والنرويج وأماكن أخرى.
والولايات المتحدة ليست أفضل حالا، حيث كتبت علياء عبده في مقال رئيسي لمجلة هايستينغز لقانون العرق والفقر في سنة 2008: “يضمن التعديل الأول لدستور الولايات المتحدة حرية الدين، ومع ذلك فقد سمح المناخ الاجتماعي والسياسي والقانوني الحالي بفرض قيود مختلفة على الحجاب، وهو غطاء الرأس الذي ترتديه النساء المسلمات”.
يتحدّث المقال بعنوان “الوضع القانوني للحجاب في الولايات المتحدة” بشكل مفصّل عن “الحظر والقيودة المفروض على ارتداء الحجاب في الأوساط التعليمية، والوظائف، ودخول السجون، وصور رخصة القيادة الحكومية، والمسابقات الرياضية، والمطارات، وداخل المحكمة، مشيرا إلى ظهور اتجاه ينذر بالخطر على الصعيدين الدولي والمحلي”.
إن النزع القسري للحجاب في أمريكا الشمالية أو أوروبا أو الهند ضار مثل إجبارية ارتداء الحجاب في إيران أو أفغانستان أو أي جزء آخر من العالم الإسلامي. وعلى الرغم من أن هاتين الممارستين معاكستان لبعضهما في الظاهر، إلا أنهما متطابقتان في الواقع لأنهما تحولان جسد المرأة المسلمة إلى ساحة معركة للأيديولوجيات المتعارضة للسيطرة الجسدية والسلطة الحيوية. لذلك فإن الإصرار على اختيار ارتداء الحجاب أمر حيوي في أمريكا الشمالية وأوروبا مثل الحق في عدم ارتدائه في أماكن أخرى مثل إيران أو أفغانستان.
لم يعد العالم بأسره يسمح بالنفاق والمعايير المزدوجة التي تفرض إخضاع النساء كمواطنات من الدرجة الثانية في أوطانهن، ولا يمكن لأي دولة أوروبية أو الولايات المتحدة أن تندد بالسلوك التعسفي للدولة الإيرانية بينما هي تطبّق أفظع أشكال الإسلاموفوبيا التي تستهدف النساء المسلمات.
انتفاضة بقيادة المرأة
لقد كان السلوك العنيف للنظام الإسلامي الحاكم في إيران مقلقا ومحرجا على حد سواء بالنسبة للنساء المسلمات في إيران وخارجها اللاتي اخترن ارتداء الحجاب ويفعلن ذلك من باب الفخر والهوية. ومن المستحيل تخيل أن امرأة مسلمة ترتدي الحجاب باختيارها في الولايات المتحدة أو أوروبا أو في أي مكان آخر قد تتغاضى عن عمليات فرض الحجاب العنيفة على النساء اللواتي لا يرغبن في ارتدائه.
أطلق موت أميني في إيران انتفاضة اجتماعية واسعة النطاق في جميع أنحاء البلاد، وكشف مرة أخرى للعالم كله حقيقة النظام الحاكم الذي فرض بعنف فقها شديد القسوة قائما على التخويف والترهيب للحفاظ على قبضته الاستبدادية على السلطة. وقد تنجح أو لا تنجح أجهزة الدعاية والأمن والاستخبارات والجيش التابعة للنظام في سحق هذه الانتفاضة كما فعلت في المبادرات السابقة.
الحقيقة التي لا جدال فيها أن الجمهورية الإسلامية، كجهاز دولة، فشلت بشكل قاطع في توليد ولو ذرة من الشرعية لنفسها بعد أكثر من 40 عامًا من سرقتها لأحلام وتطلعات ملايين الإيرانيين لمستقبل ديمقراطي. ولتحقيق ذلك المستقبل الديمقراطي، فإن أهم نتيجة إيجابية يمكن أن تنبثق عن هذه الانتفاضة هي أن تقودها المرأة وتحدد مسارها وعواقبها، لكن لا ينبغي اعتبار “المرأة” مصطلحًا عامًا، حيث أن هناك تقاطعين مهمين يجب أخذهما بعين الاعتبار: وهما ديناميكيات الطبقة ورمزية الحجاب.
يجب أن يتقاطع السبب المشروع لاختيار المرأة ارتداء الحجاب أو عدم ارتدائه مع الديناميكيات بين الطبقة العاملة والطبقة الوسطى. وعندما تتحد النساء المحجبات وغير المحجبات والعاملات ونساء الطبقة الوسطى لقيادة هذه الانتفاضة، عندها فقط سنشهد ثورة في النهاية. وقبل ذلك، يجب الحذر من الحيل ومحاولات التلاعب التي يقوم بها مغيرو الأنظمة في الولايات المتحدة الذين قد يقدمون انتهازيًا مهنيًا باعتباره المتحدث الرسمي لكل شيء بخلاف مصالحهم المثيرة للشفقة.
لا أحد يتحدث باسم أميني باستثناء الأصوات الصاخبة التي يتم إخمادها من انتفاضة اجتماعية ضخمة تبحث عن شروط تحررها.
المصدر: ميدل إيست آي