تمتلئ المحاكم الأردنية بقصص وحكايات لا تنتهي، عن الطلاق أو التفريق بين الزوجَين أو الخلاف على الحضانة والنفقة والإرث، وما إن تصل إلى ساحات المحاكم، وقبل الدخول إلى جلسات المحكمة، ستلتقي بعشرات القضايا العالقة على وجوه نساء كثيرات يخضن رحلة تيه بين ردهات القاعات، وأمام قوس المحكمة، حيث يجلس قضاة كلهم ذكور، يحددون للنساء وللعائلات كيف تعيش وكيف تتزوج وتطلّق، فنحن لا نتوقف عن الذهول والصدمة والغضب حين نقرأ أحكامًا قضائية تبدو وكأنها من زمن آخر.
ولأن الأردن تختلط في تركيبته المجتمعية تقاليد دينية وعشائرية محافظة، انعكس هذا في قوانين الأحوال الشخصية التي لا تنصّ على المساواة بين الزوجَين، بل على الحقوق “التكميلية” التي تفرض على الزوجة طاعة زوجها مقابل حصولها على الدعم المالي منه، هذه القوانين في مجتمع تقليدي محافظ لا تمنح النساء خيارات كثيرة بشأن الزواج والطلاق والاستقلالية، فالمرأة قد تفقد الحق في النفقة من زوجها، على سبيل المثال، إذا كانت تعيش أو تعمل خارج المنزل من دون موافقته.
لا عزاء للأمّ
تجربة الأم شمس يوسف (38 عامًا) في السعي وراء حقوقها القانونية والشرعية في احتضان أطفالها الثلاثة وإلزام الأب بالنفقة، في ظل ضيق الحال، قد بدأت منذ عام 2016، لكن أُسقطت الدعوى 3 مرات، وعلمت الأم من خلال أحد العاملين بالمحاكم أن طليقها أحضر شهودًا أقسموا على كتاب الله بأن أولادها بحضانته وهو قائم بواجباتهم للامتناع عن دفع المصروف، وبالمرة الثانية أصدرت المحكمة قيمة نفقة 15 دينارًا فقط، بعدها اتفق الزوج وأصدقاؤه على كتابة شيكات ديون ليخدع المحكمة بأنه لا يملك الأموال.
هذه ليست معركة الأم الوحيدة أمام القضاء، بل تعرّض أطفالها بعد ذلك للخطف من حضانتها المستحقة لها وفق القانون على يد والدهم، وخلال رحلة إثبات حقها، حكمَ المدعي العام بأن الأب أحقّ بحضانة أولاده لأنه بنظر القاضي يملك المال الكافي.
وتصف بنبرة ممزوجة بالقهر والأسى كيف يخدع المحامون المرأة ويستغلون قلة خبراتها، ويتشاركون مع الطرف الآخر للنزاع ضدها، ويسمحون لأنفسهم بأن يسلبوا لقمة عيش أطفال ويحرمونهم من أبسط حقوقهم، مقابل 20 دينارًا للتحايل والافتراء.
“في كل صباح وأمام المرآة أقف وأعزّي نفسي لأنني في بلد لا قانون وأمان يحميان المرأة، بلد يقبل أن تموت المرأة وأطفالها جوعًا، أو تتجه لأعمال تنافي الأخلاق ولا يقبل إنصافها بالمحاكم ونيل حقوقها”، وفق قول يوسف.
أما الشابة والأم لطفل لم يبلغ العاَمين من العمر، دعاء الأحمد (25 عامًا)، كان نصيبها عبء الإثبات لتحديد دخل زوجها، ويكون غالبًا من استحالة الوصول إلى معرفة الدخل الحقيقي إن كان عمل الزوج ضمن القطاع الحر، وفق ما يقوله المختصون.
تقول العشرينية لـ”نون بوست”: “بعد اللجوء لحماية الأسرة نتيجة التعنيف والطرد من قبل الزوج، بدأت مطالبتي بالنفقة وكان عليّ إثبات الدخل الحقيقي كونه يعمل بالتجارة الحرة، واستغرق حصولي على حق النفقة 6 أشهر، رغم أن طفلي رضيع ولا أملك أي مصدر دخل آخر.
وتكمل أنه علاوة على ذلك، شهدت القضية الكثير من المماطلة دون مراعاة الوضع المادي للزوجة ولحاجيات الطفل الرضيع، فالقانون لم يراعِ وجود ظروف صحية طارئة يتعرض لها الطفل ويحتاج فيها لعلاج عاجل ومكلف، وهذه الظروف الصحية أهلكتها ماديًّا وقد تبلغ أضعاف النفقة.
وتسرد الأحمد كيف أن القانون لا يراعي سرعة تغير حجم الطفل وحاجته لملابس، ولا يعطي أي حلّ مع الأب الذي رفض تسليم ملابس الطفل وأنكر وجودها، وكيف حاول والد طفلها إثبات “النشوز” بكل الطرق والتهديدات، وإنكاره وجود مصادر دخل خارجية له من أجل تبخيس قيمة النفقة والامتناع عن دفعها.
درب الآلام كان طويلًا مع بدرية أبو بكر، الأم التي لا تزال تضحّي لأجل أسرتها وتعمل على إعالتها، قبلت التحدث عن تجربتها المريرة بعد سنوات من الصمت: “لأنني أصبحت قوية وقادرة اليوم أن أحكي، بدأت قصتي مع رفعي دعوى بحق النفقة لأولادي، قبل حوالي 5 أو 6 شهور من الخلاف وقيامي بطرد زوجي من المنزل نهائيًّا، عرفت أن هناك شيئًا اسمه نفقة بالقانون، وبعد ما هو رفع (الزوج) ضدّي قضية شقاق ونزاع، نصحتني قريبتي بمطالبته بالنفقة، واقترضت مبلغ 350 دينارًا لتوكيل محامٍ، حيث أقنعني أحدهم بذلك بحجّة عدم تعرضي للتحرش داخل المحكمة”.
“بالبداية كذّب أبو أولادي شهادتي بتقصيره المادي أمام القاضي، وقال إنه يصرف مبلغًا جيدًا علينا، رغم أن ما شهد به غير حقيقي إلا أن القاضي صدّقه وحكم بمبلغ 150 دينارًا فقط كنفقة تشمل تعليم ومأكل ومشرب لأولادي الخمسة، لم يدفع أي شيء منذ صدور هذا القرار، ومنذ عام 2016 حتى عام 2019 لم أعمم عليه احترامًا لأبنائي الكبار رغم اعتراضهم على ذلك”.
“بالمقابل، جميع المبالغ المترتّبة عليه من لحظة الحكم لغاية حصولي على الطلاق، إضافة إلى مستحقاتي من مؤخر وخلافه، أجبرني على التنازل عنها مقابل حصولي على الطلاق منه، وأثبتُّ أمام القاضي تهديده لي بحبس أبنائي الشباب وإجباري على التنازل، لكن القاضي لم يتحدث بكلمه، فأين القانون إذًا وإنصافه؟”، تتساءل الأم أبو بكر في ختام حديثها.
لوم عقلية القضاة الشرعيين
تنصّ المادة 59 من قانون الأحوال الشخصية الأردني رقم 15 لعام 2019، على أن “نفقة كل إنسان في ماله إلا الزوجة فنفقتها على زوجها ولو كانت موسرة. نفقة الزوجة تشمل الطعام والكسوة والسكنى والتطبيب بالقدر المعروف وخدمة الزوجة التي يكون لمثالها خدم. يلزم الزوج بدفع النفقة إلى زوجته إذا امتنع عن الإنفاق عليها أو ثبت تقصيره”.
فيما نصّت المادة 64 على أن “تفرض نفقة الزوجة بحسب حال الزوج يسرًا أو عسرًا وتجوز زيادتها ونقصها تبعًا لحالته، على ألا تقل عن الحد الأدنى بقدر الضرورة من القوت والكسوة والسكن والتطبيب، وتلزم النفقة إما بتراضي الزوجَين على قدر معيّن أو بحكم القاضي، وتسقط نفقة المدة التي سبقت التراضي أو الطلب من القاضي”.
جُلّ النساء اللواتي التقى بهنّ “نون بوست”، بالتنسيق مع “تجمع الأمهات المعيلات بالأردن”، واللواتي اضطررن خوض معركة الطلاق عبر القانون لا الطرق العائلية أو العشائرية، لُمنَ عقلية القضاة الشرعيين وتصديقهم حِيَل الأزواج للتهرب من النفقة، تلك العقلية التي لم تتغير، وهي ذاتها التي تجعل الكثيرات يفضّلن الاستمرار في زيجات عنوانها الظلم والعنف، بدل الدخول في معترك المحاكم التي غالبًا ما تهزَم فيها النساء.
فشمس التي سُلبت منها حضانة أطفالها المستحقة لها وفق القانون، وتسعى لإرجاعهم بالنَّفَس الطويل والصبر، لم تنسَ “برود” القاضي حين أخبرها بأن تترك نفسها من هذه “المتاعب”، وتتساءل: “كيف لم يفكر هذا القاضي في كيف صدّق الرجل بعدم امتلاكه المال لدفع نفقة أطفاله، والآن كيف أقنَعه (ذات الرجل) مرة ثانية بأنه يملكه وقادر على النفقة بشرط حضانته لأولاده؟ إنه مزاج القاضي الذي ترك له القانون الباب مواربًا للحكم وفق مزاجه أو ضميره، وحِيَل تهرب الزوج التي تنجح بنصائح وتخطيط المحامين”.
وتجمع الأمهات العازبات على أن متوسط النفقة التي تحكم بها المحاكم الشرعية لا يتناسب والظروف المعيشية والأوضاع الاقتصادية الحالية، فالنساء والأطفال بشكل خاص يعانون خلال الرحلة الطويلة الممتدة من إقامة الدعوى إلى إثبات دخل الزوج وانتهاء بتحصيل النفقة من جهة، كما يعانون من بخس المبالغ المحكوم بها وعدم تناسبها وكفايتها لتلبية الاحتياجات المعيشية الأساسية من مأكل وملبس وتعليم وصحة من جهة أخرى.
للتهرُّب القانوني أساليب متنوعة
ومن الأساليب القانونية لتهرُّب الأزواج، لجوء كثيرين لتخفيض رواتبهم الشهرية بوثائق رسمية، عبر كتابة شيكات مالية على أنفسهم، تثبت أمام المحكمة أن عليهم التزامات مالية، ما يخفض ما عليهم من حقوق مالية، كما يستغل آخرون غياب التدقيق المالي على ممتلكاتهم الحقيقية، لا سيما أن نظام المحاكم الذي يفرض النفقة بحسب حالة الزوج عسرًا أو يسرًا، يتعامل بوثائق مصدَّقة، فتُلقى هذه المهمة على عاتق الزوجة.
وإذا كان الزوج مقتدرًا ولديه أموال مثبتة، تكون قيمة النفقة مناسبة لأسرته، وحال كان معسرًا، تأخذ الزوجات والأولاد الحد الأدنى منها، ما يدفع الأزواج إلى اتّباع أساليب تحايل لتقليل دخلهم الشهري نكاية بزوجاتهم.
ويصل صراع النفقات إلى التعليم، فبمجرد حصول خلاف بين الزوجَين، ينقل الزوج الأولاد من مدارس خاصة إلى حكومية، أو مدارس أقل جودة في التعليم، ليبرهن للمحكمة على تردّي أوضاعه المالية، ما يجعله يرتكب “خطأ فادحًا بحق أولاده ممّن اعتادوا على نظام تعليمي معيّن” بحسب مختصين، وهذا التصرف اعتبرته المادة 190 في القانون مخالفًا، إذ تنص على أن “الأولاد الذين تجب نفقتهم على أبيهم الموسر أن يلزم بنفقة تعليمهم أيضًا في جميع المراحل التعليمية”.
كما أشارت المادة 191 إلى أن الولي المكلف بالإنفاق على الصغير إذا اختار تعليمه في المدارس الخاصة، لا يملك الرجوع عن ذلك، إلا إذا أصبح غير قادر على نفقات التعليم الخاص، أو وجد مسوّغًا مشروعًا لذلك، كما اعتبر القانون تراجع المقتدِر عن نفقات التعليم الخاص دون مبرر نوعًا من التعسُّف، لذلك ترى المحكمة أنه إذا اقتضت المصلحة منعه من ذلك، فإنما هذا لتلافي الإضرار بالصغير.
عبء الإثبات وتراجع الدعاوى
رغم أن للزوجة والأولاد الحق بمتوسط إنفاق يكفل مستوى معيشي لائق، يمكن أن يؤدي التقاضي أحيانًا إلى “ضياع أصوات النساء”، وقد تكون متابعة القضية في المحاكم “رفاهية” لدى بعضهن، فمنهن من يتعرضن للضغط من قبل الأهل ويسمعن عبارات من قبل “لا يوجد لدينا بنات يذهبن إلى المحاكم”، أو “لا نريد أن نفسد الودّ بين العائلتَين” خاصة في حالات زواج الأقارب، وفي أحيان أخرى قد تخاف المرأة من زوجها وطليقها المعنِّف.
وفي أحدث التقارير، شهدت دعاوى نفقة الزوجات خلال عام 2020 تراجعًا بنسبة 19.8% وبعدد 2090 دعوى مقارنة مع عام 2019، حيث سجّلت المحاكم الشرعية في الأردن 8468 دعوى نفقة مقارنة مع 10 آلاف و558 دعوى نفقة سُجِّلت عام 2019، ولم يطرأ أي تغيير يذكَر على متوسط الحكم بنفقة الزوجات، حيث كان المتوسط عام 2020 بحدود 81.4 دينارًا والمتوسط علم 2019 بحدود 81.7 دينارًا، وذلك وفقًا للتقرير الإحصائي السنوي لعام 2020 الصادر عن دائرة قاضي القضاة.
وأرجعت جمعية التضامن مع حقوق المرأة أسباب ذلك إلى عبء الإثبات الملقى على عاتق الزوجة لإثبات دخل زوجها، ويكون من الاستحالة بمكان الوصول إلى معرفة الدخل الحقيقي إن كان عمل الزوج ضمن القطاع الحر، وبالتالي يصعب الحصول على وثيقة رسميه لإثباته، وتلجأ المحاكم في هذه الحالات إلى إقرار الزوج واعترافه بمقدار دخله، وعادة ما يكون هذا الإقرار بعيدًا كل البُعد عن الدخل الحقيقي للزوج، الذي يسعى جاهدًا إلى التهرب من الإنفاق على أولاده وزوجته في حال نشأ خلاف بينهما ولجأت الزوجة للمحكمة.
ودعت جمعية تضامن، في بيانات سنوية، إلى إعادة النظر بالنفقة التي يحكَم بها للزوجة والأولاد، فمعدل نفقة الزوجة (81 دينارًا عام 2020) لا يكفي الحد الأدنى المنصوص عليه في المادة 64 من قانون الأحوال الشخصية، كون معدل النفقة المحكوم بها يشمل القوت والكسوة والسكن والتطبيب، كما تدعو جمعية تضامن إلى إجراء تعديلات تسهّل عملية إثبات دخل الزوج وبكافة طرق الإثبات دون تحميل الزوجة لوحدها هذا الشرط، فالنفقات المحكوم بها تدخل النساء في دائرة الفقر رغم الملاءة المالية لكثير من أزواجهن.
واحة افتراضية تتجاوز “الفضفضة”
بعيدًا عن هذا كله، تنشط “الأمهات المعيلات العربيات” كواحة افتراضية تَجمع آلاف المعيلات الأردنيات يوميًّا، لالتقاط أنفاسهن من مصاعب الحياة وتربية الأبناء بعد فقدان الشريك نتيجة الانفصال أو الوفاة، وتتخذ من إحدى منصات التواصل الاجتماعي مقرًّا لها، لدعمهن على مختلف الأصعدة النفسية والقانونية والاجتماعية.
يتمّ ذلك من خلال توفير استشارات قانونية مجانية خاصة بإجراءات التقاضي في حالات الطلاق والوصاية على الأطفال وغيرها، كذلك تقدم هذه المنصة النسائية نصائح نفسية وحياتية، وأفكارًا بمشاريع لتوفير فرص عمل تساعد النساء على الاستقلال المادي، بمشاركة من القانونيين، والأخصائيين النفسيين والأسريين، والمختصين بالدعم التقني والفني.
وتقول منسقة التجمع، ريما تيم، إن الأمهات العازبات والمعيلات لأبنائهن قد يشعرن بعدم الانسجام داخل مجتمعاتهن لاختلاف الحياة والهموم، وانطلاقًا من أن النساء يتعلمن القوة من خلال سرد تجاربهن والبوح بمشاكلهن، والتهوين على أنفسهن من تجارب الأخريات والاستفادة منها، تشكّلَ لدينا أهمية وجود حاضنة تجمع تلك الأمهات لتمكينهن وتقديم العون اللازم، مضيفةً أن المجموعة الإلكترونية تتجاوز مفهوم “الفضفضة”، ساعيةً نحو تشكيل منظومة مؤسساتية لدعم النساء المعيلات في الأردن.
وفيما يخص مطالب النساء بحقّ النفقة، توضّح ريما تيم لـ”نون بوست” أن موضوع النفقة “شائك جدًّا، لكن نحاول قدر المستطاع توعية الأم بحقوقها بنفقة التعليم والصحة، ولأنهن يجهلن بالقانون يقعن في الكثير من الأزمات ومن هنا يأتي دورنا في ذلك، فلا نقبل أن تظل المرأة ضحية، حيث ليس بمقدورنا تغيير القرارات والقوانين، لكن من خلال مستشارين وحقوقيين نساعد الأمهات على الحصول على حقوقهن القانونية، خاصة أن أبرز ما يواجه الأمهات هو استغلال المحامين لهنّ”.
وتختتم بالتأكيد على أنه “لا بدَّ أن تعتمد الأمهات المعيلات على أنفسهن ويكملن مشوارهن بأنفسهن، فالحياة لا تقف على موقف أو شخص، ونمدّهن بالأمل بأننا جميعًا سنتجاوز الصعوبات من خلال شعار نردده في كل لقاءاتنا دائمًا: “كل مُرّ سيمرّ””.