ترجمة وتحرير: نون بوست
عندما ينتهي التصعيد العسكري الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في غزة، فإن العودة إلى الوضع “الطبيعي” لا تعني أن الناس باتوا في أمان وإنما خوض جولة جديدة من الألم. فبعد أن يستيقظ الناس من الحرب الوجودية يواجهون حربهم الداخلية ليكافحوا للتعامل مع ما خسروه.
تختلف الخسارة والبصمة التي خلفتها الحرب في قلوب الناس من شخص لآخر. مع ذلك، سيكشف أي فحص دقيق لحياة الفلسطينيين في غزة أن الجميع يعانون.
يقول خليل سلمان، عم رهف سلمان البالغة من العمر 11 سنة، التي تغيرت حياتها إلى الأبد بسبب الحرب الأخيرة: “في الحروب نحن الأهداف، لذلك لا يوجد مكان آمن نذهب إليه – فنحن مكشوفون أمام القوات الجوية الإسرائيلية دون ملاجئ”.
أسفر الهجوم الإسرائيلي الذي استمر ثلاثة أيام على غزة في آب/ أغسطس في إطار “عملية الفجر” عن مقتل 49 شخصًا منهم 17 طفل وإصابة أكثر من 400 آخرين. وفيما يلي قصص بعض الناجين من المجزرة، الذين بعد النجاة من الموت حُكم عليهم الكفاح بأجسامهم المشوهة بعد الحرب. إنها قصص لأناس عاديين جُرفوا في حرب أخرى وخرجوا منها أحياء لكنهم تضرّروا بشدة – جسديًا وعاطفيًا ونفسيًا.
رهف سلمان 11 سنة
تُقيم رهف سلمان في المستشفى الإندونيسي شمال قطاع غزة محاطةً بوالدتها وعمها وقريبات أخريات جِئن لزيارتها. رفعت رهف يدها اليسرى – بعد أن فقدت يدها اليمنى وكلتا ساقيها – تعبيرا عن إشارة النصر مؤكدةً أنها ستواصل تحقيق أحلامها. تقول رهف بإصرار “أنا حزينة لأنني فقدت يدي اليمنى، اليد التي أكتب بها، لكنني أريد أن أواصل دراستي وأحقق أحلامي”. ثم ترددت لوهلة قبل أن تعرب عن قلقها “لكنني لا أستطيع الكتابة بيدي اليسرى”.
كانت هذه المخاوف أبعد ما يكون عن ذهن رهف عندما خرجت لأول مرة من منزلها في مخيم جباليا للاجئين لتدعو أشقاءها لتناول العشاء. في نفس اللحظة، ضربت غارة جوية الشارع الذي كانت تقف فيه في السادس من شهر آب/ أغسطس، ما أسفر عن مقتل 7 أشخاص وإصابة 30 آخرين غالبيتهم من الأطفال.
غيّرت هذه الحادثة حياتها إلى الأبد. أصبحت رهف طريحة الفراش غير قادرة على الذهاب إلى الحمام بنفسها بعد بتر ساقيها ويدها اليمنى ومستقبلها معهما. لقد أثرت عليها الحادثة بالفعل وأُجبرت على التغيب عن العام الدراسي الجديد.
تتذكر قائلة “كان كل شيء أسود، ولم أستطع سوى رؤية الغبار من حولي، وكان بإمكاني سماع صراخ الناس بجواري. شعرت وكأن شيئًا ما أصابني وتركني مرمية على الأرض وغير قادرة على الحركة أو الرؤية. أتذكر الصوت والصراخ، ثم استيقظت في المستشفى”.
في حالة من الذعر، سارع عمها إلى مكان الانفجار ووجدها تنزف، حيث اخترقت شظية جسدها بالكامل بما في ذلك وجهها. حملها إلى المستشفى على أمل إنقاذها، لكن بعد ساعات من العمليات الجراحية لم يتمكن الأطباء من إنقاذ ساقيها ويدها.
كل شخص قتلته إسرائيل في حروب غزة يترك وراءه عددًا أكبر من الناجين الذين يعاني الآلاف منهم في صمت من آلام الفقد أو تغير حياتهم إلى الأبد
قالت رهف، طالبة إبقاء عينيها مغمضتين لأنها لا تستطيع تحمل الضوء – لأنه يذكرها بضوء القنبلة التي غيرت حياتها: “عندما استيقظت في اليوم التالي وجدت عائلتي حولي ووجدت أن جسدي قد تغير. سرت في جسدي نفس الكهرباء التي شعرت بها عندما انفجرت القنبلة”.
تتلقى رهف العلاج داخل الغرفة وتتناوب والدتها وامرأتان على رعايتها، وقد حاولت والدتها منال سلمان (46 سنة) شرح مشاعرها دون دموع لكن دون جدوى. قالت منال وهي جالسة على بعد ثلاثة أمتار من رهف: “أؤمن أن الله سيرحمها ويساعدها في حالتها الجديدة، لكنني لا أستطيع إخفاء الألم الذي في قلبي لرؤية ابنتي الصغيرة الجميلة تتحول إلى هذه الحالة”.
وأضافت قائلة: “لقد راقبتها وهي تكبر، شبرًا شبرًا، وتبعتها في كل خطوة، وأمسكت بهذه اليد الصغيرة آلاف المرات ونحن نمشي ونتحرك مع إخوتها، ويقلقني تذكر كل هذا لأنها قد لا تتمكن من عيش الحياة بشكل طبيعي بعد الآن”.
على الجانب الآخر، استمرت رهف في رفع علامة النصر بيديها مصرة على أن إصابتها لن تثني عزيمتها وأنها بعون الله ستتمكن من إعادة حياتها إلى ما كانت عليه من قبل. لقد بدت متفائلة بأنها ستكون قادرة على استخدام الأطراف الصناعية، بما في ذلك الطرف الاصطناعي لليد اليمنى الذي سيساعدها على الكتابة مرة أخرى؛ حيث قالت للصحفيين المجتمعين في غرفتها بالمستشفى إنها ستسافر إلى تركيا في إطار عملية نقل طبية.
كل شخص قتلته إسرائيل في حروب غزة يترك وراءه عددًا أكبر من الناجين الذين يعاني الآلاف منهم في صمت من آلام الفقد أو تغير حياتهم إلى الأبد بعد مواراة أحبابهم في القبور. يعانى البعض منهم بشكل مباشر، كما في حالة رهف، بينما تكبد آخرون خسائر غير مباشرة وإن لم تكن أقل إيلامًا.
إسرائيل قتلت أمي في يوم زفافي
صبغ راحة اليد بالحناء من تقاليد الزفاف لدى الفلسطينيين، حيث تبقى راحة يد العريس حمراء لأسابيع بعد انتهاء الزفاف.
كان يوم السبت الموافق لـ 6 آب/أغسطس الماضي هو اليوم المتفق عليه منذ أشهر لإقامة حفل زفاف أكرم أبو قايدة (23 سنة) ولكن يده تخضبت في هذا اليوم بدم والدته التي قتلتها غارة جوية إسرائيلية بينما كانت ذاهبة لمقابلة عروسه.
انتظر أكرم وعروسه غادة (20 سنة) ذلك اليوم لشهور ولكن الأسرة قررت إلغاء حفلة الزفاف بسبب الهجوم الإسرائيلي، واكتفت بإحضار العروس ببساطة إلى منزل العريس حيث أقاموا احتفالًا صغيرًا.
استعارت عائلة أكرم سيارة من بعض الأقارب لإحضار العروس ولكن مع وصولهم عند منزلها استهدفتهم غارة جوية إسرائيلية قُتل فيها شخصان؛ والدة أكرم نعمة أبو قايدة وطفل من أقربائه يبلغ من العمر 11 سنة.
قال أكرم: “انتظرت هذا اليوم طويلًا، بداية السعادة وتكوين أسرة وحياة جديدة، كل ذلك دمرته غارة جوية إسرائيلية من أجل لا شيء، لماذا يتم قصف سيارة لمدنيين محاطين بالأطفال، ربما هم -الإسرائيليون- يمكنهم الإجابة بما أنهم يعرفون ما الذي يقصفونه!”. وأضاف: “في ذلك اليوم، سلبت إسرائيل مني سبب سعادتي، أمي الحبيبة والحنونة”. لم يكن أكرم الوحيد الذي فقد أحباءه، فهناك آلاف الفلسطينيين الذين تزداد معاناتهم بعد الحروب الإسرائيلية على غزة.
لا مكان في العالم لعاشقين
كانت عبير حرب (24 سنة) تنتظر لقاء توأم روحها. عندما وجدته أخيرًا ارتبطا وبدأ كلاهما التخطيط للمستقبل. لكن للأسف، قتلته إسرائيل مع والدته في غارة جوية استهدفت منزلهم يوم السبت 6 آب/أغسطس 2022.
عندما قابلت عبير، كانت تقف على أنقاض المبنى حيث قُتل خطيبها إسماعيل دويك (30 سنة). قالت عبير التي كانت ترتدي ملابس سوداء بكل حزن وأسى إن “كل أحلامها تبددت تحت الأنقاض”. وأضافت: “كان حلمنا أن نعيش مع بعضنا البعض ونكوّن أسرة. التقينا يوم الجمعة، قبل يوم واحد من مقتله، كنا نتحدث عن منزلنا المستقبلي، أردنا شراء بعض التحف والأثاث، أخبرني أن كل ما يريده هو العيش معي في منزلنا وتكوين أسرة معًا”.
احتفلا بخطبتهما قبل شهرين وكان من المفترض أن يتزوجا في آب/ أغسطس. قال والد إسماعيل، عبد الحميد، إنه كان يشجع ابنه دائمًا على تكوين أسرة، لكن إسماعيل أخبره أنه ينتظر العثور على الفتاة المناسبة.
عندما التقى بعبير، جاء إلى والدته وأخبرها أنه وجدها. طلب منها أن تذهب إلى منزل الفتاة وتطلب يدها. يقول والده: “كان يرفرف فرحًا في أرجاء المنزل مفعما بالسعادة والقوة والحب”.
يتذكر الأب بعيون جاحظة علما بأنه يعيش الآن في منزل ابنه المستأجر: “غادر المنزل في اليوم الذي قُتل فيه. رأيته حسن الطلة فظننت أنه سيقابل عبير. عندما قُصف المنزل كنت أعرف أن زوجتي هناك. أسرعت لأرى ما حدث، وأدعو أن أجدها على قيد الحياة، لكنني صدمت عندما علمت بمقتل زوجتي وابني”.
تابع قائلا “وجدنا إسماعيل يحتضن والدته بين ذراعيه.. ربما كان يحاول حمايتها، هذا هو ابني الذي أعرفه، سيضحي بنفسه من أجل من يحبهم”. ومن ناحية أخرى، تعيش عبير كابوسا فهي لم تفقد خطيبها الحبيب فحسب، بل فقدت أيضًا عائلته التي كان من المفترض أن تعيش معهم. تقول عبير: “خسارتي لا يمكن قياسها، لا يمكنني إظهارها، لقد فقدت عائلة أشعر بالأمان والسعادة معها”.
تأثرت عبير بشدة بفقدان خطيبها. وبعد أيام من وفاته، شاهدها بعض المصورين مستلقية على قبر إسماعيل، وتضع رأسها على شاهد القبر وتبكي.
لا يعيش والد عبير، عمر حرب (66 سنة)، في غزة وإنما يعمل في السعودية وهو الذي يعول عائلته في غزة. وقبل يومين من مقتل إسماعيل، وصل حرب إلى غزة للاحتفال بزفاف ابنته. ومن حسن حظ عبير أنه موجود الآن لدعمها في حزها.
المصدر: موندويس