في الوقت الذي تتسع فيه خريطة الاحتجاجات في إيران، لتشمل جميع الأقاليم غير الفارسية في الأهواز وسيستان بلوشستان والأذريين الأتراك والأكراد، إلى جانب المدن الكبرى كطهران ومشهد وأصفهان وتبريز، على خلفية مقتل المواطنة الكردية الإيرانية مهسا أميني، أدلى المبعوث الأمريكي الخاص بإيران روبرت ميلي بتصريحات صحفية يوم الجمعة، عبر فيها عن موقف الولايات المتحدة من هذه الاحتجاجات، وطالب إيران باحترام حقوق الإنسان، إلا أن الجانب المهم في هذه التصريحات، كانت إشارة ميلي بأن الولايات المتحدة لا تسعى إلى تغيير النظام في إيران.
وبالتالي فإن هذا يعكس على ما يبدو جوهر الموقف الأمريكي من هذه الاحتجاجات، إذا ما تم مقارنتها بالمواقف الأمريكية من ثورات الربيع العربي، إلى حد مطالبتها أحد الزعماء العرب بالتنحي، فمنذ بداية الاحتجاجات الجارية في إيران، حرصت الولايات المتحدة على اعتماد سياسة انتقائية في التعامل مع مجرياتها، وبالشكل الذي يمنحها الكثير من الأوراق الضاغطة على إيران، فما بين دورها في تحشيد الرأي العام العالمي عبر وسائلها الإعلامية، حرصت الخارجية الأمريكية على مواصلة التصريحات المناهضة لإيران، دون أن يكون هناك أي إجراءات عملية على الأرض.
وفي هذا الصدد، فإنه على الرغم من إعلان وزارة الخزانة الأمريكية الأسبوع الماضي، فرضها عقوبات على أشخاص ذات صله بحادثة أميني، فضلًا عن توفير إمكانية الوصول المجاني للإنترنت في إيران، عبر شبكة ستارلينك، فإن هذا أيضًا لا يعكس جدية المواقف الأمريكية، خصوصًا أن هناك وسائل أكثر تأثيرًا يمكن للإدارة الأمريكية استخدامها، فيما لو كان هناك جدية حقيقية للتخلص من هذا النظام، بدءًا من إعادة تفعيل العمل بقانون ماغنيتسكي، إلى تحويل الملف لمجلس الأمن الدولي، إلا أنه على ما يبدو هناك ضرورات أمريكية تقف خلف ذلك.
ماهية الضرورات الأمريكية؟
مما لا شك فيه أن هناك العديد من الأسباب التي تقف خلف التردد الأمريكي في اتخاذ موقف حاسم من الاحتجاجات الجارية في إيران، فإلى جانب طموح إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران في أقرب فرصة، وعدم خلق مزيد من التوتر معها، فإن حاجة الإدارة الأمريكية إلى تأمين مصادر طاقة بديلة للطاقة الروسية، تلعب دورًا في هذا السياق، والأهم عدم استفزاز النظام الإيراني بشكل يدفعه إلى فتح جبهات جديدة، قد لا تستطيع الولايات المتحدة التعامل معها، ولعل القصف الإيراني المتواصل في الداخل العراقي منذ 7 أيام، يعطي مؤشرًا واضحًا في هذا الصدد.
انشغال الولايات المتحدة بالأزمة الأوكرانية، يجعلها مضطرة للتعامل مع النظام الإيراني، بالإضافة إلى سماحها للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة
إن حرص الولايات المتحدة على الحفاظ على النظام الإيراني الحاليّ، رغم كل السلبيات التي تسجلها نحوه، يجعلها تفكر في مستقبل إيران في مرحلة ما بعد هذه الاحتجاجات، فالحالة الإيرانية شبيهة بحالة يوغوسلافيا السابقة، من حيث التكوين العرقي والديني، خصوصًا أن هناك قوميات غير فارسية، وتحديدًا الأهواز وكردستان ترفع شعار الاستقلال، إلى جانب طموحات قومية أخرى للاندماج مع دول الجوار، مثل سيستان بلوشستان مع باكستان والأذريين مع أذربيجان، وهو ما يثير حفيظة الولايات المتحدة في إمكانية أن تواجه واقعًا جغرافيًا جديدًا ومتشظيًا في الشرق الأوسط، قد تكون غير قادرة على التعامل معه، أو حتى احتوائه.
فضلًا عما تقدم، فإن انشغال الولايات المتحدة بالأزمة الأوكرانية، وتحديدًا بعد خطوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بضم مناطق دونيتسك ولوغانسك (شرقًا) وزابوريجيا وخيرسون (جنوبًا)، فضلًا عن تلويحه المستمر بإمكانية استخدام السلاح النووي، يجعل الإدارة الأمريكية الحاليّة مضطرة للتعامل مع النظام الإيراني، بالإضافة إلى سماحها للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة وتوفير منصة عالمية له للتحدث أمام المجتمع الدولي، في الوقت الذي تقمع فيه الحريات في طهران.
هناك اليوم قناعة أمريكية، وتحديدًا من إدارة بايدن، بأنه لا تزال هناك فرصة لتحول النظام الإيراني الحاليّ من عدو إلى صديق، هذه القناعة نجح اللوبي الإيراني في واشنطن بترسيخها لدى الإدارة الأمريكية، عبر العديد من القنوات والوسائل
من المثير للاهتمام أن نلاحظ أنه بدلًا من التطلع إلى الضغط حقًا على النظام في طهران لوقف العنف، لا تزال هناك مناقشات أمريكية بشأن كيفية إحياء الاتفاق النووي، وهكذا، من الواضح أن طريقة الضغط على النظام هي مكافأتهم بمليارات الدولارات وإعادة تأهيل النظام داخل المؤسسات الدولية، والأكثر من ذلك، هذا الوضع الحاليّ يعكس ردة فعل الولايات المتحدة في يونيو/حزيران 2009، عندما احتج الإيرانيون على انتخاب محمود أحمدي نجاد لولاية ثانية، قمعت قوات الباسيج التابعة للحرس الثوري المحتجين بعنف، لكن ذلك لم يتسبب في ردة فعل أمريكية قوية كما الآن، في الواقع، كان الأمر عكس ذلك تمامًا، إذ تلقى أحمدي نجاد العديد من رسائل التهنئة الأمريكية!
في الواقع، هناك اليوم قناعة أمريكية، وتحديدًا من إدارة بايدن، بأنه لا تزال هناك فرصة لتحول النظام الإيراني الحاليّ من عدو إلى صديق، هذه القناعة نجح اللوبي الإيراني في واشنطن بترسيخها لدى الإدارة الأمريكية، عبر العديد من القنوات والوسائل، إلى جانب نجاح النظام الإيراني في إبقاء خطوط التواصل مع الإدارة الأمريكية دون انقطاع، رغم تعثر المحادثات النووية بالوقت الحاضر، وهو ما يضع بدوره إدارة بايدن في منتصف الطريق، بين أن تدعم الاحتجاجات أو تدعم فرص التوصل لاتفاق نووي، في مقابل ذلك فإن هذه الحيرة الأمريكية ستوفر على النظام الإيراني مزيدًا من الوقت لإنهاء الاحتجاجات الحاليّة بكل الطرق المتاحة.