“ابعث فلوسي للكزاوي، يزيني من ركشة القهاوي، توا الهربة هذا شناوي، هذي ملخص الحكاوي..” بعض كلمات أغنية لفنان راب تونسي يعيش في فرنسا، يحكي فيه عن رحلة الهجرة إلى أوروبا عن طريق تركيا وصربيا الخطير.
تلخص أغنية “TATI G13” التي تحمل اسم “كزاوي” – وهو مغربي يسيطر على أحد طرق تهريب البشر من الحدود الصربية – تفاصيل الرحلة الأخطر ومسارها وما حمل التونسيين على الإقدام عليها والمخاطرة بحياتهم، ما جعلها تحتل المراتب الأولى في قائمة أكثر الأغاني المسموعة في الفترة الأخيرة.
في هذا التقرير لنون بوست ضمن ملف “الحرقة التونسية”، سنعود بالتفصيل لهذه الرحلة التي كلفت العديد من التونسيين حياتهم، وكلفت أهاليهم بيع ما يملكون وأكثر لتأمين تكلفتها الباهظة، فضلًا عن الحديث عن الأسباب التي دفعت التونسيين لخوض غمار هذه الرحلة.
تدرس سنوات ثم لا تجد عملًا
درس صالح ابن السابعة والعشرين (اسم مستعار) ثلاث سنوات في الجامعة التونسية، حصل على إثرها على الإجازة في الصحافة، تمنى أن يعمل في المجال الذي تخصص فيه وحلم منذ صغره أن يتفنن ويبرز فيه مواهبه، وهو المغرم بالصحافة والكتابة.
عقب تخرجه مباشرة، طرق صالح العديد من الأبواب للعمل، توجه نحو التليفزيونات والإذاعات العاملة في البلاد، وكله حماسة لتحقيق حلمه بأن يصبح صحفيًا مشهورًا، لكنه لم يُوفق، فقد كانت كل الأبواب موصودة، رغم أن له قلمًا وحسًا صحفيًا قل نظيره عند حديثي التخرج.
برزت في الأشهر الأخيرة، إعلانات مدفوعة على مواقع التواصل الاجتماعي، للترويج للهجرة غير النظامية عن طريق تركيا وصربيا
عدم حصوله على العمل، دفعه إلى العودة لمسقط رأسه، قرية “الزراوة”، وهي إحدى قرى معتمدية مطماطة التابعة لمحافظة قابس جنوب شرق البلاد، وهي أكبر تجمع سكاني ناطق بالأمازيغية في تونس، إذ يتكلم كل سكانها البالغ عددهم قرابة 5 آلاف اللغة الأمازيغية بطلاقة.
بقي هناك بضعة أشهر، ثم حمل حقائبه وتوجه نحو مدينة المعمورة في محافظة نابل، حيث عمل في مخبزة (فرن)، ثم توجه نحو مدينة باردو في محافظة منوبة شمال البلاد، عمل هناك أيضًا في مخبزة وفي كلتا التجربتين كان الأجر زهيدًا، لا يؤمن له غذائه وسكنه.
اضطر صالح للعودة مجددًا إلى الزراوة ومن ثم إلى قرية رجيم معتوق في الصحراء التونسية على الحدود مع الجزائر، وهناك أيضًا عمل في مخبزة مقابل أجر زهيد، لكنه قرر هذه المرة أن يتحمل صحراء تونس وألا يترك عمله إلا بعد أن يجمع بعض المال لأمر ما في نفسه وفق قوله لـ”نون بوست”.
عمل صالح في مجال غير الذي درس فيه، وعدم إيجاد أي فرصة لتأمين عمل محترم يؤمن له مستلزمات الحياة دفعه للتفكير بجدية في الخروج من تونس مهما كلفه الأمر، لكنه في البداية كان يستبعد الهجرة غير النظامية، فيقول لنون بوست: “كنت أستبعد التفكير في الهجرة غير النظامية خاصة عن طريق البحر”.
يضيف محدثنا “في شهر مايو/أيار وبداية شهر يونيو/حزيران صعدت إلى الواجهة حكاية الهجرة عبر صربيا في ولاية تطاوين المجاورة لهم، في تلك الفترة أيضًا خرج العشرات من قريتي نحو تركيا ثم صربيا للوصول إلى أوروبا، وقد كان أخي الصغير بينهم، وما إن وصل أخي إلى النمسا ودخل مجال الاتحاد الأوروبي حتى استقرت الحكاية في رأسي وقررت خوض المغامرة”.
اتصل صالح بأهله وأخبرهم بقرار رحيله هو الآخر، رحّب الأهل بالفكرة وشجعوه وتشاركوا معه في تكاليف الرحلة، وبالفعل تمكنوا من جمع مبلغ محترم، لكن كان عليهم أن يقترضوا جزءًا منه من بعض الأهل والأصدقاء، وقد تم جمع المبلغ المطلوب في وقت وجيز، لتبدأ بعد ذلك المغامرة نحو الاتحاد الأوروبي.
ترحيب الأهل بهجرة ابنيهما، جاء نتيجة الأزمة الاقتصادية التي وصلت لها تونس، فهذه العائلة وغيرها الكثير، لم يعد باستطاعتهم شراء كيلوغرام سكر بسهولة ولا شراء لتر من الزيت، ينتظرون بالأسابيع علهم يجدون ضالتهم.
لا تريد عائلة أحمد أن يعيش ابنها هذا الوضع في المستقبل، تريد أن تؤمن له حياة كريمة مهما كلفها الأمر، حتى إن اضطرت أن تقترض المال من الأقارب وهذا ما حصل طبعًا، فالسواد الذي تعيشه قرية الزراوة يدفع الجميع للتفكير بالهجرة.
بداية التحضير
توجه صالح نحو مدينة قابس، هناك ذهب إلى إحدى وكالات الأسفار، حيث حجز تذاكر السفر إلى تركيا وصربيا وحجز أماكن الإقامة في كلتا الدولتين، كلفة الحجز كانت 4500 دينار تونسي (ما يعادل في تلك الفترة 1450 دولارًا أمريكيًا).
وبرزت في الأشهر الأخيرة، إعلانات مدفوعة على مواقع التواصل الاجتماعي، للترويج للهجرة غير النظامية عن طريق تركيا وصربيا، تشرف عليها وكالات أسفار أو مجموعات بأسماء مستعارة، خاصة بعد تضاعف الطلب على هذا الخط.
تقدّر بعض الإحصاءات غير الرسمية أن عدد الذين حصلوا على ضمان أبوي في الأشهر التسع من هذه السنة في محافظة تطاوين جنوب البلاد فقط، يناهز 7 آلاف
تؤكد لنا سوسن التي تعمل في إحدى وكالات الأسفار بالعاصمة، تضاعف عدد التونسيين القاصدين تركيا في الأشهر الأخيرة، خاصة من فئة الشباب، “نعلم أن عددًا مهمًا منهم لن يعودوا إلى تونس ومع ذلك هم مضطرون لحجز تذاكر ذهاب وإياب وفق القانون”، حسب كلام محدثتنا.
عدد كبير منهم وفق سوسن، يحجزون تذاكر سفر ذهاب وعودة لصربيا والنزل في بلغراد أيضًا، وفي بعض الحالات جاءت عائلات بأكملها إلى المكان الذي تعمل فيه لحجز التذاكر، يحكون لها قصص معاناتهم ورغبتهم الملحة في الهجرة.
الوصول إلى تركيا
يوم 11 أغسطس/آب توجه صالح نحو تونس العاصمة، عشية اليوم نفسه أخذ الطائرة نحو تركيا، بقي في إسطنبول 3 أيام، فيها قابل العديد من التونسيين الذين ينوون خوض نفس المغامرة، فيهم من جرب أكثر من مرة ولم يحالفه الحظ بعد.
في أيامه الثلاث التي قضاها بإسطنبول، أعجب صالح كثيرًا بالمدينة، حتى تمنى أن يمكث هناك لأكثر وقت ممكن للتمتع بجمال معمارها وتطور بنيتها التحتية وحداثة مواصلاتها العمومية، لكن حلم الوصول نحو أوروبا كان أقوى.
في تلك الفترة، وصل إلى إسطنبول مئات التونسيين أيضًا ممن كانت وجهتهم النهائية فرنسا، منهم سامح (اسم مستعار) القادم من إحدى قرى محافظة تطاوين التي استأثرت بنصيب الأسد في الرحلات الأخيرة من تونس نحو أوروبا عبر صربيا.
يقول بعض العاملين في بلديات محافظة تطاوين السبعة تواصل معهم نون بوست، إن عددًا كبيرًا من الشباب يأتيهم يوميًا صحبة أولياء أمورهم للتوقيع على ضمان أبوي للسفر إلى تركيا، وتفرض تونس على المسافرين أقل من 35 سنة أن يحصلوا على ضمان أبوي للسفر.
عند اجتياز الحدود، تأخذ سيارة أجرة أو قطار إلى بودابست عاصمة المجر ثم براتيسلافا عاصمة سلوفاكيا ثم فيينا في النمسا
تقدر بعض الإحصاءات غير الرسمية أن عدد الذين حصلوا على ضمان أبوي في الأشهر التسع من هذه السنة في محافظة تطاوين جنوب البلاد فقط، يناهز 7 آلاف، وهناك أعداد كبيرة أخرى في باقي محافظات تونس خاصة في الجنوب.
كان لنا حديث في نون بوست مع سامح الذي أخبرنا أنه اختار أن يجرب حظه عبر صربيا علّه يصل إلى فرنسا، خاصة أنه حاول الهجرة بالطرق القانونية ولم يتمكن من ذلك، وسبق أن تقدم سامح البالغ من العمر 30 سنة ويعمل مترجمًا مستقلًا مع إحدى المنظمات الدولية للحصول على تأشيرة سفر إلا أن طلبه رُفض في ثلاث مرات متتالية.
يقول سامح لنون بوست إن الوضع الاقتصادي في البلاد أجبره على التفكير جديًا في الخروج منها، مؤكدًا أن الأجر الذي يتقاضاه لا يكفي للسكن وتوفير مستلزمات العيش الكريم، رغم أن عمله يعتبر محترمًا مقارنة بغيره.
درس محدثنا الذي يبلغ عمره 29 سنة في كلية منوبة، اختصاص لغة إسبانية، في الأثناء تعلم اللغة الفرنسية والإنجليزية وأصبح متمكنًا من هذه اللغات الثلاثة، ما مكنه من العثور على عمل مع إحدى المنظمات الدولية العاملة في حقوق الإنسان، لكنه عمل غير دائم وهو مرتبط بنشاط المنظمة في تونس الذي تراجع كثيرًا في الأشهر الأخيرة.
عدم قدرته على توفير مستلزمات العيش لنفسه، فضلًا عن إحساسه بالضيق لعدم تمكنه من مساعدة أهله وتقديم يد العون لهم، زاد من وجعه، ليس هذا فحسب، يقول سامح إنه عندما يرجع للقرية التي يسكن فيها يشاهد بعض أصدقائه الذين درس معهم في السابق يملكون سيارات فارهة رجعوا بها بعد سفرهم إلى فرنسا، هذه المشاهد أثرت عليه كثيرًا وجعلته يقرر المغامرة.
تزخر محافظة تطاوين التي تعادل مساحتها ربع مساحة البلاد، بمخزون كبير من البترول والغاز، كما تنتشر شركات الطاقة الوطنية والأجنبية في الصحراء التابعة للمحافظة، ووفق أرقام رسمية، تساهم حقول تطاوين بـ40% من إنتاج تونس من النفط، وبـ20% من إنتاج الغاز.
مع ذلك تصنف تطاوين ضمن المناطق المهمشة، حيث عانت من الفقر والتهميش خلال الحقبة التي أعقبت استقلال البلاد وحتى بعد ثورة الكرامة، ما جعل سكانها يدخلون في مواجهة مباشرة مع الأنظمة الحاكمة للمطالبة بحقوقهم.
ودائمًا ما تعرف مدن وقرى المحافظة احتجاجات شعبية للتنديد بما يعدونه مفارقة صارخة، فمنطقتهم تحتوي على ثروات طاقية مهمة لكنها من المناطق المهمشة، حيث تتجاوز نسبة البطالة فيها 30%، وهي من أعلى المعدلات في تونس.
صربيا ودخول الكزاوي على الخط
يوم 15 من نفس الشهر، وصل صالح إلى مدينة بلغراد، عاصمة صربيا، يقول إنه ما إن وطئت قدماه مطار العاصمة الصربية حتى أحس بصدمة حضارية، فقد نزل في مطار سيئ جدًا من حيث الخدمات والتصميم، خاصة أنه كان في إسطنبول.
“بسرعة نسقنا مع المهرّب الذي سنخرج معه، وهو المغربي الكزاوي وتفاهمنا في السوم”، يقول صالح لنون بوست، مضيفًا “كانت فم زوز طرق الأولى “التسليمة” وسومها 3500 أورو إن تم الدفع في صربيا و3800 أورو إن تم الدفع في فرنسا، الحقيقة هي أكثر حرقة مضمونة وليكس”، وتتمثل هذه الطريقة في أخذ السيارة من سوبوتيتسا إلى داخل الحدود المجرية أو النمساوية، دون الاضطرار إلى السير أو الحجز في وسائل نقل جماعية.
وقع سامح ضحية تحايل إحدى المجموعات التي أقنعته بالذهاب معها نحو صربيا
“فم زاده طريقة أخرى وهي “التقاطيع” الحقيقة سومها أقل وقريب 1500 أورو، أما خايبة ومخطرة شوي”، يقول صالح، وتتمثل في عبور الحدود إلى المجر عبر النهر والغابة، ومواصلة الطريق في وسائل النقل دون مساعدة المهربين الذين تنتهي مهمتهم عند الحدود المجرية، ويمكن أن يجتاز المهاجر الحدود الصربية المجرية في المرة الأولى ويمكن أن يتكرر الأمر أكثر من مرة.
عند اجتياز الحدود، تأخذ سيارة أجرة أو قطار إلى بودابست عاصمة المجر ثم براتيسلافا عاصمة سلوفاكيا ثم فيينا في النمسا “رحلة طويلة وصعبة” وفق صالح، وهو ما دفعه لاختيار الطريقة الأولى هو ومن معه من أبناء قريته الذين قدموا معه.
لم يكن المغربي الكزاوي نسبة إلى مدينة كازابلانكا أي الدار البيضاء، المهرب الوحيد الذي يؤمن رحلات الهجرة غير النظامية عبر صربيا، كان هناك عدد كبير منهم، كل مهرب تحت إمرته مجموعة مسلحة ولها خط سير خاص بها.
استغلال كبير
وصل صالح بلغراد وهناك بدأ الاستغلال، “مثلًا عند الذهاب إلى النزل الذي سنقيم فيه، من المفروض التاكسي لا يتجاوز سعره 10 يورو، لكن العديد من أصدقائي دفعوا قرابة 350 يورو للوصول إلى هناك، خاصة أنهم لا يتكلمون اللغة الإنجليزية، أما نحن فقد تكلفت لنا الرحلة 120 يورو بعد مفاوضات عسيرة مع سائق التاكسي”.
عند الحديث عن الاستغلال، نعود إلى سامح الذي اضطر للعودة إلى تونس، فقد نفدت كل نقوده، ذلك أنه وقع ضحية تحايل إحدى المجموعات التي أقنعته بالذهاب معها نحو صربيا، مكنهم من جواز سفره لإتمام بعض الإجراءات، لكنهم تحايلوا عليه.
عرضوا عليه منحهم 3 آلاف دولار مقابل إرجاع جواز سفره إليه، دون أن يؤمنوا له رحلة السفر، يقول سامح إنه لم يتوقع أن يكون ضحيتهم بهذه السهولة، لكنه حديث عهد بالسفر وذهب بمفرده إلى تركيا، وبسؤاله هل قرر العدول عن فكرة الهجرة، أجاب “قطعًا لا، فالفكرة سكنت عقلي وما إن أجمع المال مجددًا حتى أعاود الكرة”.
مكث صالح يومين في بلغراد، “هناك نسقنا مع المهرب، وتوجهنا إلى مدينة سوبوتيكا على الحدود الصربية المجرية، في سوبوتيكا نسّقنا مع نزل تابع للكزاوي، الليلة بـ20 يورو، هناك بقينا يومين أيضًا ومن ثم تم إرسال تاكسي إلينا لنتوجه إلى “النقطة” وهي النقطة الحدودية التي ستنطلق منها الرحلة”.
يضيف محدثنا “هناك وجدنا محلًا صغيرًا للمواد الغذائية مفتوحًا، يتعامل معه الكزاوي، اشترينا ما يلزم وبدأنا الرحلة نحو المخيم الذي يبعد عن تلك النقطة قرابة 3 كيلومترات، الصرب والمنظمات الدولية يظنون أنه مخيم للاجئين السوريين لكن هو في الأصل لجمع المهاجرين غير النظاميين عن طريق الكزاوي”.
الوصول إلى المخيم الصربي
وصل صالح وجماعته للمخيم، يقول محدثنا إنهم وجدوا العشرات في المخيم أكثر من 90% منهم تونسيين، وفيهم العديد من العائلات مع بعض المغاربة والسوريين، وجدوا النساء والأطفال الصغار وذوي الاحتياجات الخاصة أيضًا.
قبل نصب الخيام كان عليهم التوجه نحو قائد المخيم والمنسق هناك، كان المفاجأة كبيرة إذ وجدوا أمامهم شابًا لا يتجاوز عمره 21 سنة يضع مسدّسًا أمامه على الطاولة ويحيط به بعض الحرس الحاملين لأسلحة كلاشنكوف والسيوف، ويتوزع بعض الحرس على محيط المخيم لتأمينه.
يقع المخيم في غابة كثيفة الأشجار بجانب واد يفصل صربيا عن المجر، هناك يقول صالح إنهم عرفوا أن اجتياز الحدود يكون إما عبر سلّم صغير لا يتجاوز طوله 3 أمتار يوضع على الجدار الفاصل وإما عن طريق واد عرضه 200 متر، حيث يتم نفخ زورق (يطلق عليه اسم البَلَم) والذهاب عبره للمجر.
الوصول إلى باريس لا يعني أن المتاعب انتهت وأن الحياة الكريمة بدأت
يكون عبور الحدود غالبًا ليلًا، على الساعة العاشرة أو منتصف الليل، تسمى العملية (الضَّرب)، يقول صالح، بينما أنت نائم إذ تسمع أصوات عالية تنادي “تسليمة” “تقاطيع” “تسليمة” “تقاطيع”، ينهض الجميع، يقفون في الطابور كالأطفال الصغار في انتظار دورهم.
تخرج مع المرشد وفي لغتهم هناك يسمى “رِيبيرِي”، وغالبًا ما يكون المرشد سوريًا، لكن هناك فيهم بعدد أقل تونسيين ومغاربة ودائمًا مسلحين، لم يُعجب صالح بالريبيري الموجودين هناك، فهم لا يقدرون أحدًا لا الصغير ولا الكبير ولا تسمع إلا السبّ وفي بعض الأحيان يعمدون إلى ضرب بعض المهاجرين، “معاملتهم خايبه برشا مع الناس الكل” يقول صالح.
الرحلة نحو المجر
يضيف “غادي بالحق تحس روحك عبد، حتى كان باش ترجّع عليه الريبيري وتضربه، باش يتكتلوا عليك، وزيد أنت في غابة وليل، ما ترى في شيء، كل شيء ظلام قدامك ما تشوف في حد، نبداو شادين في يدين بعضنا ونمشيو، وكان لا قدر الله سيبت يد صاحبك راك تضيع ديركت”.
يقول صالح: “في المرة الأولى التي حاولنا فيها قطع الحدود، عبرنا الوادي عبر الزورق، ثم مشينا مسافة نصف ساعة، لكن للأسف تمكنت قوات الأمن المجرية من القبض علينا”، وما إن تم القبض على صالح وعدد ممن معه حتى أمرهم الأمن المجري بالانبطاح على بطونهم ورؤوسهم على التراب والمطر فوقهم يهطل بكثافة.
“تمرمدنا برشا وقتها، بديت نشهد، نصف ساعة وأنا نشهّد ونقرا في القرآن، قلت بش نموت أنا السلاح فوقك والمطر وأنت ما ترى في شيء ومتعرفش شنو بش يصير، والبرد، الحاصيلو الموت بين عينينا أكثر من نصف ساعة”.
بقي صالح قرابة 17 ساعة، دون ماء ولا أكل فقد نفدت منهم المؤنة
بعد أكثر من نصف ساعة في وضعية انبطاح، قررت قوات الأمن أخذ صالح وباقي الجماعة إلى مكان منبسط قريب من الغابة، لبثوا هناك قرابة الساعتين وبعدها تم الانتقال بهم إلى مركز حدودي قريب من المكان، أين تم تصويرهم ثم إطلاق سراحهم بجانب السياج الحدودي مع صربيا.
استقلّ صالح سيارة تاكسي ورجع إلى النزل، ذلك أنه كان متعبًا جدًا وملابسه مبللة، لكن بعض أصدقائه قرروا الذهاب مرة أخرى للمخيم، نام صالح ليلته في النزل ثم عاد هو الآخر إلى “النقطة” وعاود محاولة اجتياز الحدود وفي هذه المرة قبضت عليه قوات حرس الحدود في الوادي الحدودي.
نجح صالح في اجتياز الحدود في المحاولة الرابعة “مشينا برشا في الغابة وبعد لقينا رواحنا في حقول نتاع عباد الشمس تعاونك باش تتخبى على البوليس والجيش، مشينا بين الساعتين ولا الثلاثة، بعدها وصلنا لنقطة قالونا باش ترتاحوا وترقدوا فيها”.
المعاملة تتغير في النمسا
بقي صالح في تلك النقطة قرابة 17 ساعة، دون ماء ولا أكل فقد نفدت منهم المؤنة، على الساعة الثامنة ليلًا تحركوا مجددًا ومشوا مسافة 3 ساعات إلى أن وصلوا إلى نقطة “التحميل” عند منتصف الليل، جاءت سيارتان يقودهما مهربان من الأرمن ينسق معهم الكزاوي.
كان هناك 25 شخصًا، صعد في السيارة الأولى 13 واحدًا منهم، فيما صعد 7 في السيارة الثانية، وبقي 5 لم يجدوا مكانًا، ومن حسن حظ صالح أنه وجد مكانًا في السيارة إلا وكان عليه أن ينتظر يومًا آخر عله يجد مكانًا في سيارة أخرى.
يقول صالح إنهم وصلوا إلى الحدود المجرية النمساوية عند الساعة الرابعة فجرًا، فالسائق كان يقود السيارة بسرعة جنونية، غير مكترث بشيء، فالمهم عنده أن يصل في الظلام ويعود مباشرة من حيث أتى تحت جنح الظلام، فالليل ساتر.
عند وصولهم إلى النمسا، سلّم كامل عناصر المجموعة أنفسهم إلى الشرطة النمساوية، يصف صالح المعاملة الأمنية بالحسنة، فقد تم استقبالهم بلطف، وهناك تم تقديم الأكل والماء لهم، ثم تم أخذهم إلى مركز الأمن وأخذوا منهم بصماتهم ثم سلموهم ورقة للذهاب إلى مخيم.
وصل صالح إلى مخيم معد للأوكرانيين في وسط العاصمة فيينا، يقول إنه من صنف 5 نجوم، أنساهم بؤس مخيم الكزاوي على الحدود الصربية المجرية، وبعدها تسلمهم الأمن مجددًا للتحقيق معهم في أسباب اختيارهم الهجرة غير النظامية والنظر في طلب اللجوء.
في أثناء التحقيق تم جلب مترجم سوري، قال لصالح: “لا تتعب نفسك هنا، فاللجوء يمنح فقط للقادمين من مناطق النزاع وبلدان المغرب العربي مصنفة مناطق آمنة، كما أن وجهتك فرنسا وليس النمسا، الأفضل لك ألا تضيع وقتك وواصل رحلتك”.
بعد التحقيق تم تسليمهم ورقة للذهاب إلى مخيم يبعد عن فيينا مسافة 20 كيلومترًا، “صحيح هو مخيم نظيف لكن الحق الأول أحسن برشا ومنظم أكثر، هذا حطينه للهنود والأفغان والأفارقة والسوريين والمغاربة، شفت الآلاف غادي”.
بقي صالح 3 أيام هناك، إلى أن نسّق مع أصدقائه في فرنسا لحجز تذاكر سفر من فيينا إلى زيورخ ومن ثم إلى باريس مقصده الأساسي، وهناك التحق بأقاربه وبدأ العمل معهم في مجال الخبز مهنة قرية “الزراوة” الأصلية المتوارثة أبًا عن جد.
“ميلوز” العقبة الأخيرة
لم يكن صالح التونسي الوحيد الذي استقل القطار السريع من زيورخ إلى باريس، فقد كان معه العشرات، صادفه الحظ ووصل إلى فرنسا سالمًا، لكن منير البالغ من العمر 22 سنة فشل في الوصول وتم إنزاله في محطة “ميلوز”، وهي أول محطة في التراب الفرنسي.
تقع مدينة ميلوز في شمال شرق فرنسا على مقربة من الحدود السويسرية والألمانية، وهي أكبر مدينة في منطقة هوي رين وثاني أكبر اقتصاد في منطقة الألزاس بعد ستراسبورغ، وتشتهر بالمتاحف وخاصة حي السيارات المعروف أيضًا باسم “المتحف الوطني للسيارات” ومتحف السكة الحديدية المعروف أيضًا باسم “قطار سيتيه دو”.
مدينة صغيرة وجميلة، لكن لم يكن أمام منير متسع من الوقت للاستمتاع بجمالها، فما إن تم إنزاله من القطار وإعادته إلى الحدود السويسرية الفرنسية، حتى بدأت المتاعب مجددًا، فلم يكن لديه مال كما أنه أضاع هاتفه الجوال.
على الحدود وجد شابًا سوريًا، مكنه من هاتفه للاتصال بعائلته وطمأنتهم عليه، طلب منهم أيضًا أن يحجزوا له رحلة العودة إلى ميلوز عبر تطبيق “بلابلاكار”، فضلًا عن حجز تذكرة السفر من ميلوز إلى باريس.
وصل منير إلى ميلوز وهناك انتظر لساعات حتى جاء القطار الموعود، وما إن جاء حتى صعد إليه، نام محدثنا في القطار، لم يستيقظ إلا عندما وصل إلى المحطة النهائية، لكن الصدمة كانت كبيرة، فقد وجد نفسه في مدينة “ليون” عوضًا عن باريس.
بقي في المحطة بعض الوقت، حتى حالفه الحظ وشاهد أحد أبناء قريته سوق الأحد من محافظة قبلي جنوب تونس، توجه إليه مسرعًا، وأخبره بالقصة الكاملة، ثم ذهب معه إلى منزله وقرر البقاء أيام هناك إلى أن يلتحق بأقربائه في باريس.
الوصول إلى باريس لا يعني أن المتاعب انتهت وأن الحياة الكريمة بدأت، لكن هناك سيعيش منير وصالح المتاعب بعيدًا عن أهلهما وأصدقائهما، وسيأملان أن كل شيء تحسن وأن الوضع سيكون أفضل.