بيغاسوس هو أكثر من مجرد برنامج تجسس، إنه في الواقع سلاح دبلوماسي حقيقي وظفته “إسرائيل” في أفريقيا من أجل الحصول على مؤيدين، فالقارّة التي كانت إلى وقت غير بعيد مهمّشة دبلوماسيًّا، تغري الآن تل أبيب التي خطت خطوة مهمة نحو تحقيق حلم راوّدها منذ أزيد من عقدَين، وهو أن تحصل على صفة عضو مراقب في الاتحاد الأفريقي.
بيغاسوس مقابل الدعم الدبلوماسي في القارة السمراء، هي صفقة كان من الممكن أن تبرمها “إسرائيل” منذ فترة طويلة، بعد أن نجحت في تطوير برنامج التجسس وتجربته على الفلسطنيين، حيث وجد أخيرًا طريقه إلى زعماء أفريقيا، ليتحول إلى ورقة مساومة للحصول على التأييد.
عملة دبلوماسية صهيونية
ترتبط صناعة السلاح السيبراني الإسرائيلي بشكل وثيق بدبلوماسية تل أبيب وخطة التطبيع في الخارج، لذلك تعتبَر برامج التجسس عملة دبلوماسية صهيونية، وهي بالفعل تلعب دورًا في التصدي لحملة المقاطعة العالمية بسبب احتلال فلسطين.
لا يمكن بيع بيغاسوس إلا بموافقة من الحكومة الإسرائيلية، وهو حصري لحكومات الدول والوكالات التابعة لها، وبشكل عام فإن البرنامج له القدرة الكاملة على التجسس على الأفراد، من خلال قراءة الرسائل النصية وتتبُّع المكالمات وجمع كلمات السرّ وتتبُّع موقع الهاتف، وكذا جمع المعلومات التي تخزّنها جميع التطبيقات.
في أواخر عام 2021، كشف تحقيق “فوربيدين ستوري” أو “القصص المحضورة”، أن بيغاسوس تمَّ استخدامه في 11 دولة أفريقية، بما فيها المغرب ومصر وساحل العاج ورواندا وتوغو وكذلك كينيا وغينيا الاستوائية والكاميرون وأوغندا وإثيوبيا، وهي الدول نفسها تقريبًا التي أيّدت منح “إسرائيل” صفة عضو مراقب في الاتحاد الأفريقي، باستثناء مصر التي قدّمت هي و6 دول عربية أفريقية مذكرة شفهية اعتراضية إلى مفوض الاتحاد موسى فكي.
بصفة انفرادية، ودون استشارة الدول الأعضاء، منح موسى فكي “إسرائيل” صفة عضو مراقب في الاتحاد في يوليو/ تموز 2021، لكن فيما بعد قررت دول الاتحاد تعليق هذا القرار خلال القمة التي انعقدت في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في فبراير/ شباط الماضي، إلى حين إصدار توصية في القضية من طرف لجنة تضم 7 رؤساء دول من بينها الجزائر.
كثير من الأصدقاء الأفارقة
مصادر حضرت القمة قالت إن دبلوماسيين إسرائيليين عرضوا دعمًا عسكريًّا واستخباراتيًّا وتكنولوجيا مراقبة لصالح بعض الزعماء الأفارقة، لقاء الحصول على دعم منهم لاعتماد “إسرائيل” كمراقب في الاتحاد.
رغم أن عضوية “إسرائيل” لا تزال معلقة، إلا أنها استطاعت أن تحدث انشقاقًا في الموقف الأفريقي، فمن الناحية الرسمية لم تحصل “إسرائيل” على هذا العدد الكبير من الأصدقاء الأفارقة منذ عقود عديدة، حيث حتى حدود الخمسينيات كانت لدى “إسرائيل” أكثر من 30 سفارة في جميع أنحاء القارة، كما كانت تملك صفة مراقب في منظمة الوحدة الأفريقية، قبل أن تفقدها عام 2002 عندما تحولت المنظمة إلى الاتحاد الأفريقي.
إذ تبذل “إسرائيل” كل جهودها لاختراق أفريقيا، وتأليب موقفها الرافض للعنصرية والاستعمار، لهذا اختارت تل أبيب الدخول من بوابة عضو مراقب، فكان موقف الأنظمة الأفريقية هو الرفض القاطع مرات عديدة، لكن الوضع قد تغير اليوم لصالح “إسرائيل” التي على وشك كسر عزلتها في أفريقيا.
هرولة بعض الدول العربية إلى التطبيع ساهمت في إسقاط الحاجز الأفريقي أمام “إسرائيل”، خاصة أن الجهود العربية داخل منظمة الوحدة الأفريقية نجحت بعد حرب 67 في استصدار قرار بإدانة “إسرائيل” وسياساتها التوسعية، ونتيجة لذلك تقلّصت العلاقات الإسرائيلية الأفريقية إلى 5 دول فقط.
تقيم “إسرائيل” حاليًّا علاقات مع 46 دولة أفريقية، ولديها شراكات على نطاق واسع وتعاون مشترَك في مجالات مختلفة بينها التجارة والمساعدات، بينما المجال الأمني هو الثغرة الكبرى التي تسلّلت عبرها “إسرائيل” إلى القارة.
من المغرب إلى غانا
المغرب هو أكثر دولة اتُّهمت باستخدام بيغاسوس لاستهداف ما لا يقلّ عن 10 آلاف رقم هاتف، بما في ذلك هاتف عمر الراضي، الصحفي الاستقصائي المستقل، الذي غطّى قضايا حقوق الإنسان والحركات الاجتماعية والحق في الأرض، أُدين بـ 6 سنوات سجنًا بتهم الاغتصاب والعمالة لجهات أجنبية.
اتُهمت المغرب باستخدام بيغاسوس على نطاق واسع للتجسس ليس فقط على الشخصيات البارزة في المملكة، بما في ذلك الملك محمد السادس نفسه وهواتف أفراد من الأسرة الملكية، ولكن أيضًا المنشقين وكبار المسؤولين السياسيين والعسكريين والأمنيين من عدة دول، بما في ذلك فرنسا والجزائر.
من الواضح أن المزاعم تمَّ رفضها بقوة من قبل المسؤولين في المغرب ومواطني المملكة، وكذلك من قبل بعض أعضاء المجتمع الدولي، حيث أودعت الرباط عدة شكاوى قضائية ضد وسائل إعلام فرنسية ومنظمتَي “آمنيستي” و”فوربيدن ستوريز” بتهمة التشهير.
في رواندا، وردَ أنه تم التجسس على كارين كانيمبا، ابنة المعارض بول روسيساباجينا، الذي ساهم في إنقاذ المئات من التوتسي في فندقه إبّان أعمال الإبادة العرقية التي اندلعت عام 1994، وهو يعيش حاليًّا في منفاه ببلجيكا.
تقول كارين كانيمبا: “يكلف بيغاسوس الحكومة الرواندية الملايين، فيما هناك الكثير من الأشخاص في رواندا يتضوّرون جوعًا، ويحتاجون إلى الدواء والرعاية، والقليل من المال من أجل البقاء على قيد الحياة”، وتتابع كانيمبا: “لكن الحكومة الرواندية تفضّل التنصُّت على مكالماتي الخاصة”.
تمَّ استخدام البرنامج أيضًا من قبل السلطات الرواندية للتجسس على المسؤولين الكونغوليين، بما في ذلك لامبرت ميندي وألبرت يوما وجان بامانيسا، للكشف عن تحقيقات الاتحاد الدولي للصحفيين، ومشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد.
من جانبها، قالت السلطات الرواندية إن “هذه الاتهامات الكاذبة جزء من حملة متواصلة تهدف إلى إثارة التوترات بين رواندا والدول الأخرى، من خلال نشر معلومات مضللة عن رواندا على المستويَين الوطني والدولي”.
غانا هي الأخرى قادت دورًا مهمًّا للضغط من أجل اعتماد “إسرائيل” مراقبًا في الاتحاد، وفي الجانب الخفي قامت شركة أوغندية في ديسمبر/ كانون الأول 2015 باستيراد بيغاسوس، لتقوم بدورها بإعادة بيعه إلى الهيئة الوطنية الغانية للاتصالات، وبعد مضيّ 6 شهور على إبرام الصفقة وصل موظفون من “إن إس أو” إلى غانا، لتثبيت بيغاسوس وتدريب المسؤولين المحليين على كيفية استخدامه.
تستمر “إسرائيل” في التمدد في أفريقيا، ولعلّ ما يغذّي طموحاتها هذه هو غياب أنظمة ديمقراطية حقيقية في القارّة، فالدولة العبرية التي أعلنت عن قيامها باحتلال فلسطين وقتل وتهجير واعتقال وتعذيب الفلسطييين، هي بالفعل لها مصلحة في استمرار الاستبداد في أفريقيا.