في عصر الاستهلاك، تحدَّد معرفة قيمة الأشخاص من خلال عامل واحد، هو مدى تأثيرهم في عملية إنتاج مادي، وبالتالي مدى قدرتهم على تحقيق أكبر قدر ممكن من الاستهلاك، وضمانات الامتلاك الدائم لكل أشكال القيمة “المادية” التي تنتجها مجتمعات الرأسمالية يومًا وراء الآخر.
في كتاب “قلق السعي إلى المكانة”، يعرّف آلان دي بوتون مفهوم القيمة في حياتنا المعاصرة بأنّه “موقع المرء المهني والقانوني داخل المجتمع، وتشير إلى قيمته وأهميته عند مجتمع الناس المحيطين به”، الأصل اللاتيني للكلمة يعني “الوقوف”، ويدفعنا التعريف اللفظي والدلالي للمكانة إلى تأمل حيثياتها المعاصرة، باعتبارها شيئًا يحدد موقفنا من المجتمع، وبالتالي يحدد موقفنا من ذواتنا في مراحل لاحقة، أي بشكل ما يحدد موقفنا العمومي من تجربة الحياة.
ظهرت المكانة كمفهوم يقيّم الناس عام 1776 في أوروبا الغربية، بالتزامن مع تفحُّش طبقات النبلاء وملّاك الأراضي، وبدأت المكانة تأخذ حيويتها من خلال ما يملكه المرء من أموال.
ولأن كل شيء يُنتِجُ ضده، ظهر ما نعرفه اليوم، حسب تناول بوتون، بـ”قلق المكانة”، وهو مثل انتشار خبيث في دواخل النفس البشرية، قادر على إفساد كثير من حياة الفرد، لأنه يمثّل الخوف من الفشل في مجاراة الأكواد القيمية للمجتمع، وينتج عن ذلك الفشل خزي في النظر إلى الذات.
في هذا المقال، نتساءل حول مكوّنات المكانة، وكذلك مكوّنات سلبها والانفصال الجحيمي عن سياقات العالم المعاصر، وكيف تدفعنا الأكواد الكبرى إلى أن نرتدي أزياء نجاحات لا تعنينا، لكنها تعني التعريفات التي تتسيّد حياتنا الآن.
وجهان لعملة واحدة
في كتاب “نظرية المشاعر الأخلاقية”، يتساءل آدم سميث عن غاية السعي والكدح في العالم، ما الغاية من الجشع والطموح وطلب الثروة والسلطة والتفوق؟ “أن نصبح تحت الأنظار، موضع عناية، وأن نلاحَظ بعين التعاطف والاستحسان، كلها مزايا نستطيع اقتراح أنها مستمدَّة من ظروفنا”.
فكرة أن تتمَّ ملاحظتنا بعين التعاطف والاستحسان، هي إحدى تعريفات “الحب” في حياتنا المعاصرة، يمكننا أن نقسم مفهوم الحب إلى جزئين، الأول هو الحب الجنسي، وهو فعل ينطلق من الغريزة، بينما الحب الآخر هو حب الناس لنا، والذي ينطبق الآن على إجابة آدم سميث عن سؤال الغاية والسعي، وهو أن نُرى بعين التعاطف والاستحسان.
في حالة أن يكون المكوّن الأساسي للحب هو أن نُرى، فإن الأخير يتم تنشيطه من ناحية اقتصادية، لأننا لا نستطيع أن نُرى حاليًّا دون تصاعد شهوة وسُعْر التملُّك والاستهلاك، عندما تمتلك وتكون قادرًا على استهلاك أكثر، تكون وقتها جديرًا بالحب، الذي هو رد فعل لما تمتلكه، وليس لشخصك أنت.
مع انتشار مجتمعات التواصل الاجتماعي، وتحوّل الواقع المركّب والمُعاش في الشارع إلى نمذجة افتراضية على فيسبوك وتويتر وإنستغرام، نرى حاليًّا البحث عن “القيمة” في الحب من غير إظهار التمتع بالامتلاك، والقدرة على الاستهلاك المحموم، بداية من تحديد ماذا نرتدي وكيف نبدو أكثر قبولًا، وكيف نتعامل في موقف معيّن كي نحظى على مزيد من الإعجاب حينما نرويه للآخرين، أصبح السؤال المشكّل للقيمة هو “كيف يرانا الآخرون؟”.
نشأت الغطرسة من النزع، الانسلاخ، والخروج عن إطار الجماعة المفضّلة في المجتمع، لذلك فإن سياق تطورها التاريخي يشير إلى أنها نشاط يستطلب الانتماء، وليس الخروج عنه.
يشرح ويليام جيمس هذه الحالة في كتاب “مبادئ السيكولوجيا”، فيقول: “لا يمكن ابتكار عقاب أشد شيطانية، إن كان شيء كهذا ممكنًا ماديًّا، من أن ينطلق المرء ساعيًا في المجتمع دون أن يلاحظه أحد”.
من خلال البحث عن الملاحظة والظهور قبل القيمة الشخصية أولًا للفعل، تتحول الغاية في الارتقاء والتطور والتعلُّم واكتساب المال، إلى بحث عن قيمة يتم تلقّيها من المجتمع المحيط، لا يهم أن تكون تملُّقًا أحيانًا، لأن ما هو مهم أكثر هو الهروب من جحيم التهميش والانزواء.
يؤدّي النشاط النفعي والمادي الذي يفعّل الحب إلى صفة أخرى، وهي الغطرسة/ التكبُّر، ما نعايشه حاليًّا هو أن صفة التكبُّر تستحيل إلى شيء جذّاب ومرغوب، أن يتحوّل فعل التكبُّر إلى اعتبار الشخص لديه “كاريزما”، أي قادر على لفت الانتباه، كأننا ندور في دائرة مفرغة، تبدأ من الرغبة في لفت الانتباه والظهور أكبر قدر ممكن، وتنتهي بصفات تمثّل حماية لذلك الفعل.
يطالعنا السياق التاريخي للتكبُّر على بُعد آخر، حيث ظهرت صفة الغطرسة (Snobbery) في مطلع القرن التاسع عشر، وكانت تُقال آنذاك للأشخاص الخارجين عن طبقة النبلاء، وجرت العادة أن تكتَب هذه الكلمة بجوار الطلبة الذين لا ينتمون إلى طبقة النبلاء.
السياق التاريخي والسببي لنشوء هذه الكلمة، يدفعنا للتأمل إلى ما وراء أبعادها الظاهرة حاليًّا، حيث لم تنشأ الكلمة من جانب الترفُّع أو التخلي عن شيء ما، مثلما نرى التكبُّر حاليًّا، باعتبار أن الشخص الذي يمارسه “لا يفرق معه شيء أو أحد”، بل نشأت الغطرسة من النزع، الانسلاخ، والخروج عن إطار الجماعة المفضّلة في المجتمع، لذلك فإن سياق تطورها التاريخي يشير إلى أنها نشاط يستطلب الانتماء، وليس الخروج عنه.
القيمة المسلَّعة
في كتاب “نظرية الطبقة المترفة”، هناك رأي حول صعود “القيمة” في المجتمع، وأنها لن تأتي من القدرة المادية فقط وعملية تراكم الثروة، بل ستتجاوز -القيمة- فاعليتها في التحكم، وتصبح قاعدة عامة متّفقًا عليها للتقييم، كي يحظى المرء بقدر حسن السمعة في العالم.
في سياق مماثل موجود في كتاب “ثروة الأمم” لآدم سميث، يرى أن جزءًا كبيرًا من الموارد والسلع هو غير ضروري، لكن ضرورته اكتسبت قدرتها كأداة للتقييم والتقدير، وللنبذ أيضًا.
رغم أن الأفكار الواردة هي لكتب كلاسيكية، أحدها -“ثروة الأمم”- هو قطب مؤسِّس للاقتصاد الرأسمالي، إلا أن العالم الحديث في القرن السابق توجّه بنهم شديد وانقياد تام إلى تحقيق ربط القيمة بالقدرة المادية، وهنا نتذكر الزيارة الشهيرة التي وضعت قطبَي الصراع السياسي في العالم في القرن السابق.
يذكر كتاب “قلق السعي والمكانة” زيارة نائب الرئيس الأمريكي إلى الاتحاد السوفيتي عام 1959، لافتتاح معرض تكنولوجي يضمّ المنجزات الحضرية الجديدة، وفي المعرض الحديث تمَّ عمل نموذج (ماكيت) لمنزل أمريكي لفرد من الطبقة الوسطى، مساحة تكتظّ بالاجهزة الحديثة، مستلزمات الطبخ الممكننة، أجهزة تلفاز في غرف المعيشة والنوم، نُظُم تدفئة مركزية، منزل متكامل بأجهزة حديثة تعمل ذاتيًّا.
سخر الروس من امتلاء المنزل بهذا الكمّ من “التسهيلات” التي لا حاجة لها، منها مثلًا آلة عصر الليمون، التي أشار إليها الرئيس خروتشوف، متسائلًا بسخرية عمّن يكون عاقلًا ويمتلك هذا الجهاز السخيف؟
كانت للزيارة المذكورة أبعاد أكثر من محاولة استخدام التكنولوجيا لتسهيل المشقة على ربّات البيوت، بل بدا الشد والجذب المستتران بين القطبَين محاولة لتبادل الدفاع والهجوم حول الأفكار الكبرى لكل منهما، فمثلًا كان نائب الرئيس الأمريكي يشير في زيارته إلى التباهي الإنتاجي، فيذكر أن الأمريكيين اشتروا 65 مليون تلفاز و143 راديو، بينما المجتمع السوفيتي لا يطمح لأكثر من أجهزة بسيطة وعملية للاكتفاء بالحاجات الأساسية.
بعد انتهاء الحرب الباردة في مطلع التسعينيات وسقوط الاتحاد السوفيتي، كانت الولايات المتحدة قد صدّرت فكرة معرضها التقني إلى العالم، وتحوّل امتلاك كافة الأجهزة وكافة أدوات الراحة الضرورية وغير الضرورية إلى شيء يحدد قيمتك المجتمعية (قل لي ماذا تملك أقول لك من أنت!).
تطوّر المزاج الاستهلاكي والمادي للعالم، حتى تحوّل إلى صورته التي نراها اليوم، بحيث أصبحت القيمة، مثلما ذكرنا أعلاه، مادة للتقدير أو النبذ، ليست هناك مساحة متوسطة للنظر حول الحاجة الشخصية للأشياء، وتقدير التباين بين حاجات كل فرد، طبقًا لكيفية عيشه الحياة.
إن التحول القديم الحاصل في مفهوم القيمة، وتلقّيه من قبلنا كأفراد حاليًّا، يدفعنا إلى التساؤل حول أشياء هامة أيضًا، لكنها أقل رواجًا، ولا ينتج عنها تدويل وربح مادي، مثل عامل التفضيل الشخصي، وسؤال الحاجة حول الشيء الضروري المفروض امتلاكه، هل نحتاجه فعلًا؟
إذًا، كيف نفكر في الأشياء بعيدًا عن الاستجابة العمياء لأكواد الاستهلاك؟
تربية ذاتية
يتم تناول الفلسفة عادةً في إطار انتقائي، باعتبارها نشاطًا منهجيًّا ينحصر في أشخاص متفرّدين، يؤسِّسون لنظريات معقّدة وتناولات فريدة، تنتمي إلى مجتمع الفلاسفة فقط ولا يمكن عكسها وتناولها من قبل أشخاص عاديين.
لكن بشكل ما، يمكن تناول الفلسفة من إحدى صورها الأولية، وهي “فن التأمل”، وبذلك إن إمكانية الاشتباك الفلسفي الواقعي مع الحياة، مكفولة لأي فرد يستطيع إعمال عقله.
ما يمكن للتفكير الفلسفي أن يضيفه في حياتنا هو أن يصبح عنصرًا جديدًا، وسيطًا بين الرأي الداخلي والإملاء الخارجي، لأن التفكير الفلسفي يبدأ أولًا من السياق الفردي والحياتي للفرد، وينطلق من خلاله لقراءة المجموع، وليس العكس، ومن ناحية أخرى يتعرّض التفكير الفلسفي للأشياء من خلال الأسئلة، أي من خلال الشكّ، وليس إجابات كبرى وأكواد تبدو أنها مسلّمًا بها.
مارسَ الحاكم الروماني ماركوس أوريليوس هذه الطريقة في قراءة الواقع، وكان يذكّر نفسه دائمًا بضرورة الإعمال الفردي للعقل كوسيط بين الحدث الخارجي وانطباعه الشخصي، وربما هنا نستعيد السؤال الذي يمكن أن يقلب موازين انطباعاتنا عن مفردات حياتنا، وهو سؤال ماركوس في “التأملات”: “هل يصير الشيء أفضل إذا امتدحناه؟”.
العامل الآخر الذي يمكننا الاعتماد عليه، وهو موجود الآن بشكل كبير، هو التعاطي مع الفن كأداة لنقد الحياة، حيث منذ عدة سنوات أصبح الفن أقل انتقائية من شكله السابق، خاصة في المجتمعات العربية، بعدما فتحت منصّات التواصل الاجتماعي العالم على مصراعَيه، وأصبحت مصادفة إعلان فيلم، أغنية أو معزوفة موسيقية، لوحة لفنان شهير، شيئًا معتادًا ومتواجدًا في حياتنا اليومية، كذلك استوعبت شركات إنتاج المحتوى الفني أثر تكوّن الكتلة الجماهيرية على هذه المنصّات، وأصبح لدينا نتفليكس مثلًا كبديل لشاشة السينما في الخارج.
يذكر كلايف بل في كتاب “الفن”، أن ما يجعلنا نطلق على شيء ما “فنًّا” هو “التربية الجمالية”، أي التعرض الدائم للأشياء التي تنطوي على جمال ما، أن نختبرها، وننتقي شيئًا بدلًا من الآخر، ذلك النشاط التربوي الذاتي هو بالأساس نشاط نقدي، انتقائي، يعمل من خلال التغذية الشعورية ومدى التفاعل مع الأشياء، ربما يدفعنا ذلك الانتقاء المتكرر في يومنا العادي دون أن نقصد إلى التساؤل حول قيمة الأشياء المادية في حياتنا.
السؤال الأخير الذي يمكن أن نتعرّض له هو حقيقة هذه الأدوات المقاوِمة، هل هي مجرّد فرضيات لن تعمل أمام هوجة الواقع المتسيّد؟
في هذا السياق نستعيد مثالَين؛ الأول ذكره كتاب “التاريخ الثقافي للقباحة”، حيث جماعات الوجوه القبيحة التي انتشرت في بريطانيا العصور الوسطى، وقتها كان السود يتم التعامل معهم بوحشية مفرطة تفوق العنصرية اللفظية، وكان ذوو البشرة السمراء يتعرضون للاعتداء جسديًّا في الشوارع.
لذلك بدأت تكتُّلات ذوي البشرة السمراء تقاوم من خلال هذه النوادي، التي تشترط على الأشخاص المشتركين أن يكونوا من ذوي البشرة السمراء، بأنف مفلطح وشفاه غليظة وجبهة عريضة، كي يستطيع كل منبوذ أن يشارك أشخاصًا مثله، ليكسر حاجز النبذ الذي يتعرض له في الشارع يوميًّا، ويحاول الجميع، من خلال المؤازرة، أن يستعيد شعوره الطبيعي والأوّلي تجاه هيئته، وأن ذلك الوجه مجرّد وجه عادي، لكنه وُجد في سياق تاريخي تعيس.
المثال الثاني هو انتشار البوهيمية في القرن العشرين، حيث قامت البوهيمية بشكل أساسي على نبذ أشكال البرجوازية والفوارق الطبقية وتمييز كل طبقة ما بممارسات خاصة، ليظلَّ العالم في نظامه الهرمي، فئة تحكم وعدة فئات يتم سلبها، لم تكن البوهيمية مجرّد موقف اعتراضي ضد أخلاقيات الطبقات العليا، لكنها كانت، مثلما يذكر كتاب “البوهيمية في لندن”، أكثر من موقف محدد، بل هي بمثابة موقف عقلي.
امتّدت البوهيمية إلى عدة توجهات انتمى إليها فنانون وأدباء، شملت الأثرياء والمشردين والفقراء والأغلبية في الدول وكذلك الأقليات، عملت أولًا على نبذ فكرة التفرقة لأجل تصنيف بشري لم يختَره صاحبه، لا حاجة لأكواد كبرى وإملاءات تاريخية مهترئة، هناك الفن، هو المصدر الأول للشعور.
تساءلَ أحد أشهر البوهيميين الأمريكيين في القرن التاسع عشر، هنري ثورو، عن مفهوم الغنى بالنسبة إليه، حيث ترك ثورو العالم وراءه وذهب للعيش في كوخ صغير، بالقرب من بلدة كونكورد، وهناك كتب جملته: “يكون المرء غنيًّا حينما يدرك الأشياء التي يمكنه الاستغناء عنها”.