يحدث أن ترصد السينما ظواهر بعينها، كموازاة لواقع اجتماعي معاش، تدنوا من الفعل ذاته بنمط بصري يميل إلى المكاشفة على المستويَين الداخلي والخارجي، وتتطرّق للإشكالية بمنهجية تكتسب قيمتها -في بعض التجارب- من وعي المشاهد بالحقيقة حتى لو بشكل جوهري، وإسقاطه لتلك الوقائع على الحوادث المؤرَّخة والقابلة للدراسة والاستدعاء، ما يمنح السردية السينمائية ثقلًا يوازي في قيمته ثقل الوقائع المشابهة.
هذا إلى جانب القيمة التي يضيفها المنتج البصري ذاته، لقدرته على تناول الأقصوصة من منظور معيّن يعرض لجوانب ذات خصوصية بصرية، تزيح الفيلم إلى مساحة يمكن أن تقترب من الترفيه والتجاري، بيد أنها لا تنأى عن القيمة الفنية للحدث نفسه، ليس القصة أو التسلسل الدرامي للحبكة، إنما الواقع ذاته يراكم داخله كومة من المشاعر المختلطة، حشدًا من الأحاسيس تلازم نوعًا معيّنًا من الحركات الجمعية تتراوح بين الحماس والغضب والذنب والتضحية والألم وغيرها.
جودة المنتج السينمائي تقع في قدرته على مؤالفة هذه المشاعر، وجذبها للشاشة، من خلال عرض الحدث ذاته في متتالية بصرية، فيثير المشاعر ذاتها، ويهيج الذكريات، وينخر في الماضي والمستقبل، كتحذير ونبوءة، كمرثية استدعاء لصور تاريخية تستجلب معها الكثير من الأسئلة، دون أجوبة واضحة، كل ما هنالك هو الصورة، وموقف الكاميرا -في أغلب الأوقات يكون محايدًا- وضمير المتلقّي.
يتعرّض فيلم “أثينا” لحادث جماعي ضخم، له امتدادات مكانية وحضارية عابرة للثقافات، يكتسب قيمته من جسامة الحدث وإمكانية اشتماله على تفاصيل دقيقة ومهمة، تتيح للمخرج الفرنسي رومان جافراس -ابن المخرج العظيم كوستا جافراس- بناء قصة يقف خلالها على تلك الوقائع الصغيرة، ويبني فوقها دوافع تحفز السردية أو الحدث للانطلاق والتوسع كنموذج أشبه بالحقيقة.
يحمل هذا النوع من الوقائع الجمعية قيمة مستقلة، كفعل وكحركة منفصلة عن الإطار الفني المتناوَل داخل السردية، لا تحتكم لزمان بقدر ما تحتفظ بحالة من الهيجان والثورة التي تبقيها في حيز الخفقان الاجتماعي، والعنف المراكم لطبقات من التسلُّط والخوف والعنصرية.
يخلق رومان ما يشبه الموازاة لاضطرابات عام 2005 في فرنسا، كحدث مؤثر له حضور تاريخي، ما زال يحتفظ بحرارة الصور والذكريات التي امتدت لمدة 3 أشهر من إعلان الطوارئ، وترصد تمظهرات العنف والشغب والانفعال لدى مجموعة من الشباب أو الجاليات ذات الأصول العربية في حي تخيُّلي يُدعى أثينا في فرنسا.
والحق أن رومان يتحرر من المكان والزمان، ولا يصرّح باقتباس أو حتى موازاة حدث تاريخي بعينه، بل يأسر روح الحدث العابرة للزمن، ما يضيف للفيلم بُعدًا عالميًّا، لأن أحداث الشغب توالت داخل حيز التاريخ الفرنسي وخارجه أيضًا، فيستعين بالهيكل الرئيسي والحركة الجمعية والأجواء الكامنة، ويتحرر من الثوابت التاريخية والأسماء والأماكن، ليكتب سيناريو فيلمه بمشاركة إلياس بلقادر والمخرج الفرنسي لادج لي صاحب فيلم “البؤساء” عام 2019، الذي يناقش الفكرة ذاتها تقريبًا لكن على نحو أقل عنفًا وأكثر تحررًا في المكان.
يقوم الفيلم على التداعيات، حدث صغير اعتيادي في مناطق معيّنة داخل المجتمع الفرنسي يفضي إلى مجموعة من التداعيات، من بينها الاضطرابات والشغب والعنف الجمعي غير المنظَّم، فالبداية تقع عندما يتسرّب مقطع فيديو لمقتل صبي في الـ 15 من عمره يدعى إدير على يد الشرطة الفرنسية، ومن فعل القتل الوحشي تتحرر حركة عشوائية جمعية للأقليات الفرنسية المهاجرة يقودها كريم (سامي سليماني)، شقيق المجنيّ عليه، بغرض الانتقام من الجناة المجرمين.
وتبدأ موجة من الاضطرابات العنيفة والشغب ضد السلطات، فيما تستعين الشرطة بشقيقهما الآخر عبدل (دالي بن صلاح) المجنَّد في الجيش الفرنسي لتهدئة الأمور، خصوصًا بعد اختطاف كريم لأحد أفراد الشرطة، جيروم (أنثوني باجون)، ولكن الأحداث تبدأ بالتعقيد أكثر عندما يختلف الشقيقان كريم وعبدل، ليضطر عبدل اللجوء إلى شقيقهم الثالث مختار (واسيني أمبارك)، تاجر مخدرات يقود عصابة من المجرمين داخل دائرة تجارية صغيرة تتداعى بسبب الاحتجاجات والاضطرابات.
ومع مرور الأحداث، يدخل الإخوة الثلاثة في صراع تخلّفه الأيديولوجيات الفكرية المختلفة لكل واحد منهم، والتي تؤثر بالضرورة على رؤيتهم لحادث قتل أخيهم إدير، يرى كريم العنف ضرورة ملحّة، لأن الوقائع ذاتها تتكرر في دائرة مغلقة، كأنهم غير موجودين، أما عبدل يرى أن الهدوء وترك القانون يأخذ مجراه هما الخيار الأفضل، أما مختار فلا يرى سوى تجارته التي تضيع.
يهدد كريم الشرطة بكل ما يملك، يضع حياته على المحك، لا يتحامى بالتكتلات الجمعية الثائرة بقدر ما يتحرك معها، مندفعين بمظلومية ملتبسة ومجهولة بالنسبة إلى الشرطة، أثارتها حادثة موت الصبي وأنمتها المشاعر المتضاربة لمجموعة من الشباب فاقدي الهوية، في عام 2005 عندما حاول المفكّرون تفكيك الحدث ورصد دوافع الانتفاضة والشغب، لم يجدوا شيئًا مُرضيًا يفسّر اتجاهًا واضحًا للجموع المتراكمة، بدا الأمر ملتبسًا، فالمحتجّون لم يقدّموا أي نوع من المطالب، بل انخرطوا في موجات من العنف المبهم.
هذا ما جعل الأمر أشد تعقيدًا بالنسبة إلى المؤسسات الحكومية، فالجمهور لا يمكن استيعابه أو مغازلته بناءً على تيار ديني أو سياسي أو اجتماعي، حتى المساجد أُحرقت، لذا فاضطرابات 2005 كانت مجرد محاولة للفت الانتباه، وتحقيق الذات الاجتماعية، فالمهاجرون والأقليات في أحياء الغيتو الفرنسية لا يعامَلون كمواطنين فرنسيين، وعليه فالشغب الثوري العنيف كان بمثابة تذكير وشعور بالذات الموجودة.
وهكذا الأمر في سردية فيلم “أثينا”، فقضية الإخوة الذين يودّون الثأر لمقتل أخيهم، قضية ذات خصوصية للإخوة فقط، ولكنها على الجانب الآخر تمسّ المجتمع بالكامل من الجاليات المهاجرة، يرهنون وجودهم جميعًا بحياة صديقهم أو جارهم أو حتى شخص لا يعرفونه، لأنهم يرون نسخًا مختلفة من الوقائع ذاتها، وعلى شدّتها لا تؤخذ على محمل الجد، ويعتبرها البعض كقضية ثانوية.
إنها معركة إثبات الذات والهوية أمام مؤسسة شرطية تواصل وظيفتها في محو الشعور بالألفة والانتماء والاندماج في المجتمع، يتلاعب الجموع بشبح مخيف، شبح الثورة والاضطراب، بسلاح ذي فاعلية على المجتمعات الأوروبية التي تبدو منظَّمة من الخارج، حيث يقول جورج سوريل في كتابه “تأملات في العنف”:
“تظهر التجربة أن الطبقة البرجوازية تترك نفسها للنهب بسهولة تامة، شريطة أن يمارَس القليل من الضغط، وأن ينتابها الخوف من الثورة: فالطرف الذي يمكنه التلاعب بشبح الانتفاضة هو الذي يمتلك المستقبل”.
يدلّل سوريل، وهو واحد من مروّجي العنف بشكل مباشر، على أن الطبقة البرجوازية هشّة، ولكن الفيلم ذاته لا يتناول الطبقة البرجوازية، رغم تناوله للطبقة الدنيا أو تحت الوسطى في أحياء الغيتو المتراصّة في أبنية خرسانية، ولكنه على الجانب الآخر يتعاطى مع فكرة التهديد الصريح للنظام، فجموع التكتلات المنتفضة تلوّح في أعينها بتهديد صريح بالعشوائية والنهب والسلب، النظام هو ما يميز المجتمع الأوروبي، حتى لو بدا النظام هشًّا لكنه يعرف داخله أن الانتفاضة العشوائية هي انتفاضة مؤقتة، ستردعها الشرطة بعد فترة من الزمن.
الفكرة الثانية التي نجد قصورًا في عرضها داخل الفيلم، هي فكرة المؤسسة الشرطية ذاتها، فالأحداث كلها تدور داخل حيز الاشتباك بين الشرطة والشباب الثائر، أو في مساحة جوانية تتعاطى مع المتظاهرين داخليًّا، ولكن على الجانب الآخر لم تأخذ المؤسسة الشرطية المساحة الكافية للعرض، واكتفى بالشرطي الذي اُختطف ليوضّح الموقف الكامن للفرد داخل المنظومة ذاتها، كعين مراقبة من الداخل، تشهد على المعاناة الدائرة بين أفراد الأسرة أنفسهم، وبين أفراد الحي أنفسهم.
إنهم أصحاب حق، ولكننا ما زلنا لا نفهم المنطق البوليسي للفرد داخل مؤسسة شرطية، صورة الشرطة ذاتها تختلف مع اختلاف الطبقة الاجتماعية، فلكل طبقة اجتماعية وعي أخلاقي خاص، وهناك فرق كبير بين تجربة الشرطة الحميمية على المستوى الداخلي (بين دائرة المعارف والأثرياء وأصحاب السلطة والمصلحة الاجتماعية) وأفعالهم الخارجية (مع الطبقات الاجتماعية الأدنى والأقليات والجاليات المهاجرة)، هناك هوة سحيقة بين الاتجاهَين، تخلق نمطًا تناقضيًّا يأخذ مكانه بطريقة روتينية داخل وعي الشرطي، حيث يشير سلافوي جيجيك إلى هذا النوع من التضارب في كتابه “العنف: تأملات في وجوهه الستة”:
“ما لا يكف أبدًا عن مفاجأة الوعي الأخلاقي الساذج، هو كون الأشخاص الذين يقترفون ممارسات عنف مخيفة ضد أعدائهم، قادرين على إبداء العواطف الإنسانية الدافئة والاهتمام اللطيف تجاه أعضاء مجموعتهم الخاصة. أليس غريبًا أن يكون الجندي ذاته الذي ذبح مدنيين أبرياء بات مستعدًّا للتضحية بحياته من أجل وحدته؟.. أولئك الذين يحصرون أفق اهتمامهم الأخلاقي متناقضون، بل هم منافقون… متورّطون في تناقض ذرائعي، لأنهم ينتهكون القواعد الأخلاقية الداعمة للجماعة التي يتكلمون لغتها. فحرمان أولئك الذين هم خارج جماعتنا من الحقوق الأخلاقية المتاحة لمن هم داخلها أمر لا يتوافق طبيعيًّا مع أي وجود إنساني. إنه انتهاك لنزوعنا الأخلاقي العفوي، وهو أمر ينطوي على ظلم قاسٍ وإلغاء للذات”.
لا يحاول الفيلم رصد هذا النوع من التناقضات والتحولات بقدر ما يميل إلى تصوير المعركة، يتحرك رومان بالكاميرا داخل أروقة مملوءة بالعنف ومكتظة بالرجال الغاضبين، بمنطق سردي خطّي لا يتجاوز الحيز المكاني، ولكنه في الحقيقة لا يكفي لصناعة فيلم جيد، فالجانب التقني وحده لا يحمل فيلمًا من الناحية الدرامية، لذا من السهل حدوث هبوط في الإيقاع في النصف الثاني من الفيلم، ليس لأن الكاميرا لا تتحرك كفاية داخل الشاشة، بل لأن الأحداث ذاتها انتهت دراميًّا، وأصبح التنبؤ بالنهاية ممكنًا.
خلّف الفراغ الدرامي نوعًا من الملل في تحريك الأحداث من الداخل، فالأفلام من هذه النوعية تحتاج إلى كتابة من نوع خاص، لأنها تلتزم ببيئة معيّنة، وخط زمني قصير جدًّا، لهذا الحدث نفسه يمنح المخرج القدرة على صنع شيء حركي وإيقاعي، خصوصًا مع التطويع الجيد للأدوات، ولكن على الناحية الأخرى يخلق رومان سردية مجوّفة من الداخل، تفتقد للتحفيز الدرامي والتأسيس الأدبي الجيد.
بيد أنه فضّل أن يعتمد على الجانب التقني، ربما لخبرته السابقة في كليبات الأغاني، بخصوصية فنية تعتمد على الحركة والانتقال، إلى جانب الإبهار البصري الذي حضّره رومان في مستهلّ الفيلم، بمشهد يتجاوز الـ 10 دقائق، يبدو -من خلال خدع بصرية في التوليف والتصوير- كلقطة واحدة (One Shot Take)، والحقيقة أنها بداية مميزة لفيلم يعتمد بشكل كبير على الاضطراب والعنف.
إلا أنه يسقط في فخّ الفراغ الدرامي، لافتقاده لخطوط سردية موازية قوية، وإهماله لجوانب أخرى مثل التعاطي مع الشرطة في أكثر من جانب، بالإضافة إلى التعويل بشكل كامل على المعركة والنار على حساب التأسيس الجيد لبعض الشخصيات، ربما يتنبأ الفيلم بحرب أهلية، أو يوجّه إنذارًا للسلطة الفرنسية أن العنف والظلم لا يخلّفان إلا العنف والاضطراب.
يخلّف اسم الفيلم نفسه شعورًا بالملاحم الإغريقية، حيث الأقاصيص الأسطورية للخير المطلق والشر المطلق، للآلهة الغاضبة والبشر الفانين، الاضطراب الأرضي في مواجهة الانتظام السماوي، الكثير من الأشياء يثيرها الاسم، حتى الأحداث ذاتها، الموت كتيمة أساسية في الفيلم والتضحية من أجل أهداف معيّنة يثيران لدينا صورًا أدبية لشكسبير الذي يرى الموت كنهاية محتمة.