تضج وسائل التواصل وصفحات الناشطين بأخبار الاحتجاجات في إيران المناهضة للحكومة، وسط انقسام الصحف العربية بين ناقل للخبر على استحياء ومتبنٍ لخطاب الحكومة الإيرانية الرسمي الذي اتبع نهج إعلام النظام السوري في التعامل مع المظاهرات والاحتجاجات من خلال نظرية “المؤامرة الكونية” المدعومة من أمريكا و”إسرائيل”، وفي المقابل لا يخفى مدى السرور الذي ينتاب المراقب العربي حيال المظاهرات القائمة ومدى رغبته بنجاحها في تحقيق مبتغاها.
وراء كل هذا المشهد سنجد تحالفًا إستراتيجيًا تاريخيًا بين إيران ودول وكيانات عربية ذات توجهات شيعية، يفسر لنا سر متابعة المراقب العربي للمشهد بترقب، لا سيما أن هذا التحالف كان وبالًا عليه منذ قيامه، ولم يخدم إلا الأهداف الطائفية والسياسية لحكومة الملالي في المنطقة وأتباعها من العرب.
وقد يكون السوريون – إلى جانب اليمنيين والعراقيين واللبنانيين – من أشد الناس قلقًا حيال ما يحدث في إيران اليوم، خاصة أن ما يحدث هناك سينعكس على الواقع السياسي والعسكري لبلادهم، وقد يكون نهاية تحالف لم يفتأ يقوم بما يستطيعه من تغيير ديمغرافي وثقافي وسياسي.
في هذا المقال، سنقف عند بداية هذا التحالف بين حكومة الملالي والنظام السوري، والمراحل التي مرّ بها، والدور السلبي الذي مارسته طهران في قمع الثورة السورية، والسيناريوهات المتوقعة حال زوال هذا التحالف بسبب الانتفاضة الإيرانية الحالية.
بداية تحالف طويل الأمد
تعود بداية العلاقات بين الطرفين إلى مرحلة ما قبل سقوط حكم الشاه وقيام الثورة الإسلامية في إيران، فكما يروي عبد الحليم خدّام نائب الرئيس حافظ الأسد في كتابه “التحالف السوري الإيراني والمنطقة” قامت علاقات جيدة مع قيادة الثورة من خلال حزب “تحرير إيران” بواسطة موسى الصدر في لبنان، ثم قامت الثورة ونجحت في إسقاط الشاه وأنشأت حكومتها الإسلامية بقيادة آية الله الخميني.
يسرد خدام موقف النظام السوري من الحدث حينها قائلًا: “استقبلنا نجاح الثورة الإسلامية بسرور كبير وبتفاؤل عميق في وقت كانت ترزح المنطقة تحت ضغط الانقسامات العربية والاعتداءات الإسرائيلية”، ثم يتابع “بادر الرئيس حافظ الأسد بإرسال رسالة تهنئة حارة إلى آية الله الخميني أكد فيها حرص سورية على التعاون الشامل مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كما عبر عن ارتياح الشعب السوري لنجاح الثورة”.
يمكن الحديث عن أسباب إستراتيجية سياسية تقف وراء هذه العلاقات المتينة منذ البدايات، فاتفاق آراء الطرفين في عدة محاور جعل هذا التقارب ممكنًا، بل وضروريًا في بعض الأحيان، فقد كانت سياسة حافظ الأسد اشتراكية متقاربة مع الاتحاد السوفييتي وظاهرة العداء لقادة المعسكر الغربي أمريكا، وكانت إيران – على الأقل في الظاهر – تحمل أفكارًا مشابهةً بما يخص العداوة مع أمريكا وتحالفاتها.
وكان وجود عدو مشترك يتوسط الطرفين جغرافيًا، وهو حكومة صدام حسين، السبب الآخر في التقارب، فقد كان حافظ الأسد في عداوة دائمة مع صدام الحسين على زعامة المنطقة، وبالمقابل كان صدام حسين – وجلّ الحكومات العربية – في خوف من تصدير الثورة حينها إلى الدول العربية، لا سيما أنها لم تظهر بوجهها الطائفي بعد وكانت تخاطب المسلمين جميعهم، ما تسبب في خوض صدام حسين حربه ضد إيران، الحرب التي استمرت ثماني سنوات وكانت سببًا في استمرارية وتقوية العلاقات بين الطرفين الإيراني والسوري عندما حالف حافظ الأسد إيران على حساب العراق وباقي الدول العربية المؤيدة له.
وآخر الأسباب هو تبني الطرفين لخطاب المقاومة والممانعة لاسترجاع فلسطين وحماية أهلها من المغتصب الإسرائيلي.
على أن هذا لا يعني التقارب الودود الصادق دائمًا، فكما هو حال التقاربات السياسية دائمًا كان هناك نوع من الريبة قائمًا بين الطرفين، بالأخص بعد الكشف عن صفقة تسليح إسرائيلية إيرانية عام 1986، كما كان القلق من تصدير الثورة وعودة أحداث الثمانينيات حاضرة في مخيلة حافظ الأسد، لذلك كان دائمًا ما يمنع انتشار العمائم الشيعية في دمشق.
بالإضافة إلى هذا، يمكن الحديث عن تحالف طائفي، وذلك من خلال ما يسميه الباحث السوري عبد الرحمن الحاج في كتابه “البعث الشيعي في سوريا” بـ”تشييع الطائفة العلوية” مجددًا، وذلك بعد إنشاء جميل الأسد – شقيق حافظ – “جمعية المرتضى” التي عملت على التقريب بين المذهب العلوي والمذاهب الشيعية ونشر الثقافة الشيعية في البلاد، هذه الجمعية التي وجدت دعم ملالي إيران بشكل غير رسمي.
ثم بعد “اتفاق الطائف” والمباركة الأمريكية لسيطرة الأسد على القرار اللبناني، أراد الأسد الاستفادة من ذلك وإخراج الطائفة العلوية – التي باتت تسيطر على كل منصب مهم في الدولة – من عزلتها وخلق تماسك لها مع العالم الشيعي الذي أصبح يقوى شيئًا فشيئًا، وقد بدأ قلق تصدير الثورة إلى سوريا يخفت بالنسبة له بعد أن أصبح أقوى سياسيًا، فبدأت وفود الملالي الشيعية تنتشر في أرجاء دمشق، لا سيما منطقة السيدة زينب، وبالمقابل بدأت أهداف إيران الدينية تتحقق بنشر التشيع في البلاد دون حاجة لتصدير الثورة، وزاد على ذلك الحليف الذي يقاتل “إسرائيل” في لبنان باسم إيران الصانعة وسوريا الحليفة والمسيطرة، ويعمل على “حفظ الشيعة” وتحقيق أحد أهم أهداف الثورة وهو نشر المذهب في البلاد ، هو حزب الله.
جاء اجتياح العراق للكويت عام 1990، والتحالف الدولي – الذي اتفقت معه حكومتا دمشق وطهران – لإخراج قوات صدام من الكويت، مكملًا لهذا التقارب، وبطبيعة الحال يمكن الحديث عن جوانب أخرى لهذا التحالف كوحدة الرؤية تجاه قمع الأكراد، وانتقاد التدخل التركي في العراق عام 1995، إلى جانب أسباب اقتصادية وأمنية.
بعد ذلك وفي عهد بشار الأسد، جاء الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000 كنصر للتحالف السوري الإيراني، فاستمرت العلاقات على نفس الوتيرة، وبعد 3 سنوات أيد الطرفان ما سُميّت بـ”الحرب على الإرهاب” التي أدت إلى اجتياح القوات الأمريكية للعراق عام 2003 وتدمير بغداد، وفي أثناء عزلته بعد اتهامه بقتل الحريري ساندت إيران بشار الأسد، ولم يؤثر ذلك على سياستها، ومنذ تسلمه الحكم خلفًا لوالده حتى سنة 2010 زار بشار الأسد طهران أربع مرات، في حين لم يزرها والده إلا مرة واحدة.
على طول هذه المرحلة من تاريخ العلاقات الإيرانية السورية وجدت عائلة الأسد حليفًا إستراتيجيًا لها في المنطقة أكسبها مكانة سياسية، لكنه وتّر علاقاتها مع كثير من الحكومات العربية وخلق حالة غليان شعبي لن تخمد إلا بخروج الثورة عام 2011.
لكن في المقابل ماذا حصلّت إيران من هذا التحالف؟ استطاعت هي أيضًا إيجاد حليف يحمل رؤية مشتركة وأهداف لا تتعارض مع أهدافها، بل ويخدمها ويقدم لها تذاكر العبور إلى مبتغاها في نشر التشيع، كمل فعل في سوريا ولبنان.
الثورة السورية في مواجهة الحليفين
منذ اليوم الأول للثورة لم تتوان إيران عن دعم النظام السوري في حربه على الشعب السوري، فقد كانت الأحداث تزلزل مصالح إيران ووجودها في المنطقة بقدر ما تزلزل كرسي النظام، لذلك كانت دائمًا ما تمده بالمقاتلين والسلاح والمال بأشكال مختلفة، فمثلًا على الصعيد العسكري تم إرسال مقاتلين شيعة من إيران والعراق وأفغانستان ولبنان مع عائلاتهم بدعم إيراني إلى القتال في صف النظام بقيادة قاسم سليماني ضمن “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني، حيث بلغ عدد المقاتلين مائة ألف.
وقامت هذه القوات بالتعاون مع قوات النظام بإخلاء المناطق السكانية بطرق عدّة، أبشعها أسلوب القصف والمجازر وتهجير السكان، كما حدث في القصير بحمص، وكما حدث في داريا بريف دمشق من إخراج السكان بعد حصار دام 4 سنوات بين الأعوام 2012 و2016.
على الصعيد السياسي كان الدعم الإيراني، إلى الجانب الروسي، السبب الرئيسي في بقاء عائلة الأسد إلى اليوم في الحكم، من خلال رفض المبادرات الدولية لإنهاء الحرب وانتقال السلطة كبيان جنيف، لكن في المقابل، أنهكت العقوبات الاقتصاد الإيراني وجعلت مناطق سيطرة حلفائه في العالم العربي أفقر الأماكن في المنطقة والعالم، إلى جانب هذا، بات العالم بأجمعه ينظر لإيران على أنها شريك للنظام في حربه على السوريين.
واليوم يترقب جميع السوريين والعرب المتضررين من سياسة إيران الطائفية الدموية أخبار المظاهرات بأمل انتهاء هذا الكابوس الذي لم يخيم فقط على قلوب العرب السنة في البلدان العربية، بل على قلوب الإيرانيين الشيعة أنفسهم بممارساته التي خنقت الشعب الإيراني ولطخت صورة البلاد عند معظم الناس.
سيناريوهات
وهنا يبقى سؤال: كيف ستنتهي الاحتجاجات الإيرانية المتصاعدة اليوم، وكيف ستنعكس على سوريا ومناطق نفوذ طهران في العالم العربي؟
ربما ليس علينا التفاؤل؛ إذ إن الثورات في الفترة الأخيرة لم يعد لها تأثير كما كان في السابق، فبحسب الباحثة إيريكا تشينويث التي تقول في ورقة بحثية لها: “تشهد الحملات اللاعنفية أدنى معدلات نجاح لها منذ أكثر من قرن”.
وتضيف أن عامي 2020 و2021 “كانا أسوأ أعوام مسجلة لقوة الشعب”، فالفترة الأخيرة شهدت ثورات وحركات تغيير كثيرة لم تنجح في الوصول إلى أهدافها، وانتهت إما بالقمع وإما ببعض التغييرات الظاهرية، وفي إيران، لا يُعتبر خروج المظاهرات ضد الحكومة أمرًا جديدًا، فقد تكررت المظاهرات والاحتجاجات قبل ذلك في سنوات 2009 و2017 و2019، واستطاعت الحكومة حينها قمعها بالعنف وقطع الإنترنت.
لكن في المقابل، يرى محللون أن مظاهرات هذه المرة تختلف عن سابقاتها، فمثلًا يقول الأستاذ المساعد في علم الاجتماع والدراسات الدولية في بوسطن كوليج محمد علي كاديفار، إن هذه المظاهرات تميزت عن سابقاتها بـ”أن المرأة تقود الطريق، وأن الإيرانيين البارزين في جميع أنحاء البلاد بدأوا يتحدثون علانية، وأن العديد من الإيرانيين الذين لا يشاركون عادة في الاحتجاجات وقفوا تضامنًا مع النساء وطلاب الجامعات، وأن هذه الاحتجاجات تجاوزت الانقسامات العرقية”.
ويلاحظ آخرون أن العنصر الفاعل في هذه الاحتجاجات هو الشباب الذين عاشوا في عصر مختلف عن سابقيهم أكثر انفتاحًا على العالم، لذلك طالبوا بإسقاط النظام إثر خروج مظاهراتهم فورًا، وهذا ما يبرر اتهام الحكومة للمتظاهرين بأنهم مدعومون من أمريكا و”إسرائيل”، ويزيد على ذلك فرض أمريكا وعدد من الدول الأوروبية كفرنسا عقوبات على عدد من المسؤولين الإيرانيين، عدا عن بيانات الإدانة الغربية للحكومة الإيرانية في التعامل مع المتظاهرين (الذين وصل عدد قتلاهم إلى ما يقارب المئة)، الأمر الذي توعد الحكومة باتخاذ إجراءات ضده.
في ظل هذه المعطيات جميعها يرى المحللون أن هذه المظاهرات بدأت تدخل مرحلة خطيرة بالنسبة للنظام الإيراني، فكما يقول الصحفي زيد بنيامين تبدأ هذه المظاهرات في تشكيل خطر بالنسبة للحكومة الإيرانية إذا توسعت في أنحاء البلاد، وشملت أطيافًا مختلفةً من الشعب، وانتشرت في المناطق المحافظة كقم وأصفهان، وتؤكد الأخبار الواردة من إيران تحقق جميع هذه الشروط.
في ظل هذه المعطيات يبقى احتمال الحل عن طريق إجراء إصلاحات يطالب بها المتظاهرون من الحكومة الأكثر ورودًا وحضورًا، وإلا فالاحتمال الآخر هو توسع المظاهرات وازدياد ممارسة العنف من الحكومة، ما يدخل البلاد في صراع أكبر، في حين يستبعد احتمال انتهاء المظاهرات دون تحقيق أي مطلب من مطالبها أو سقوط الحكومة على المدى القريب، طالما أنها مستعدة لاستخدام العنف ضد المتظاهرين مهما بلغ حجمهم، كما حدث في مظاهرات 2019 عندما قتلت 1500 شخص، بحسب “رويترز”.
أما بالنسبة للشق الآخر من السؤال، فإن وضع إيران في العالم العربي قائم على النجاحات العسكرية دون النجاحات السياسية والاقتصادية، فالمسؤولون الإيرانيون يقولون إنهم يتحكمون بأربع عواصم عربية (دمشق، بيروت، بغداد، صنعاء) وإنهم أسسوا ستة جيوش إيرانية على الأراضي العربية، عدا عن الميليشيات الصغيرة.
بلغ توسع إيران ذروته في المنطقة عام 2018، إلا أن النجاحات العسكرية ما لم يردفها نجاح سياسي في التمثيل على أرض الواقع وفي الساحات الدولية واقتصاد قوي يكفي حاجة الدولة تبقى نجاحات مؤقتة وعرضة للتغير والانقلاب عند أي منعطف كبير يحدث في الداخل أو الخارج، ويمكن التحدث عن انعكاس المظاهرات على الشأن السوري من خلال الاحتمالات القائمة لمصير المظاهرات: ففي حال حدوث إصلاحات حكومية وهدوء وتيرة المظاهرات فإن هذا لن يشكل انعكاسًا مهمًا في سوريا.
أما في حال توسع وتيرة الاحتجاجات وتحولها لثورة شاملة، فعلى المدى القريب قد يكون الأثر ضئيلًا، فإيران تنشر ميليشياتها ومقاتليها على عدة جبهات في المنطقة، وتملك ما يكفي من المقاتلين لتوزيعهم على الجبهات دون الحاجة إلى الانسحاب الشامل، وذلك كما حدث في الحرب الروسية الأوكرانية وانعكاسها على الوجود العسكري لروسيا في سوريا، إلا أنه لا يجب الاستخفاف بهذا الأثر الضئيل في حال انشغال روسيا بالهزائم العسكرية المتلاحقة في أوكرانيا وعدم وجود من يسد الفراغات الروسية الإيرانية – كما فعلا سابقًا – التي ستتسع مع الوقت، لا سيما أن منطق فصل الملفات بين روسيا والغرب لن يستمر طويلًا في ظل توسع المعركة، ما قد يعني بداية النهاية للوجود الإيراني في سوريا، لا سيما أن الانسحابات الإيرانية الجزئية تتكرر بين الحين والآخر، ما يعني أيضًا فقدان النظام السوري لبطاقات ضمان انتصاره المؤقت بطبيعة الحال وفقدانه أهم حلفائه، وهذا ما سيخلق سيناريوهات عسكرية أو سياسية جديدة، يكون النظام السوري الطرف الأضعف فيها.
وعود على بدء، هل تضع الثورات نهاية التحالفات؟ رغم صعوبة إطلاق جواب موحد عن هذا السؤال، لارتباط الموقف بشكل هذه المصالح وموقف الثورات وحكوماتها من التحالف القديم، لكن استقراءً سريعًا لواقع الثورات، والثورات العربية منها بالأخص، يمكن أن يخبرنا بأن معظم الثورات التي تحدث تنهي التحالفات القديمة – التي قد تكون في أحيان كثيرة أحد أسباب الثورات – لتأتي بتحالفات جديدة وبالتالي مشهدًا جديدًا للصراع الدولي.