تحول الدولار الأمريكي في مصر إلى حصان جامح لا تجدي معه العراقيل التي تضعها الحكومة بين الحين والآخر لإيقافه أو تعطيله على الأقل، فالسرعة التي يسير بها تسبق كل السياسات الموضوعة بخطوات كبيرة، ما يصعب تداركها، الأمر الذي يزيد من حجم الهوة بينه وبين العملة المحلية (الجنيه) وهو ما ينعكس سلبًا على سوق السلع والخدمات التي شهدت ارتفاعات جنونية في وقت قصير.
قفز سعر الدولار في مصر من 15.97جنيه للشراء و16.10 جنيه للبيع وفق بيانات البنك المركزي في 1 يناير/كانون الثاني 2022، إلى 19.61 جنيه للشراء و19.67 جنيه للبيع في تعاملات اليوم 5 أكتوبر/تشرين الأول 2022، أي بما يعادل 25% من قيمته خلال 10 أشهر فقط، وهو المعدل الذي لم يسبق أن شهدته العملة الخضراء من قبل.
ورغم هذا الارتفاع الرسمي داخل البنك المركزي، فإن الوضع مختلف تمامًا في السوق السوداء التي نشطت في الآونة الأخيرة ليتراوح سعر الدولار بها بين 23 – 25 جنيهًا، وسط ندرة للورقة الخضراء في البنوك الرسمية المصرية والصرافات المعتمدة لدى وزارة المالية، ما دفع الباحثين عن العملات الأجنبية للأبواب الخلفية لتوفير احتياجاتهم المرتبطة بحركة الاستيراد والتصدير.
يتوقع الكثيرون استمرار تراجع قيمة الجنيه المصري أمام العملة الأمريكية حتى انتهاء مسار المفاوضات مع الصندوق وحصول مصر على القرض المطلوب لسد العجز الذي تعاني منه الدولة حاليًّا
واستطاعت الحكومة المصرية خلال العامين الماضيين السيطرة على السوق السوداء للعملات الأجنبية بعدما فرضت نظامًا مصرفيًا محكمًا، جعل البنوك والصرافات الخارجية على مسار واحد وفي حدود سعرية متقاربة، بعدما تبنت سياسات نقدية أقرب للتحرير الجزئي المرن للجنيه، غير أن شح العملة الأمريكية مؤخرًا والفجوة الكبيرة بين سعرها الرسمي وسعرها السوقي، أعاد السوق السوداء للساحة مرة أخرى
استمرار التراجع
العملات الأجنبية هي الأخرى شهدت ارتفاعًا ملحوظًا أمام الجنيه المصري، فارتفعت ما بين 2-5 جنيهات خلال هذا العام، لا سيما العملة الأوروبية (اليورو) والبريطانية (الجنيه الإسترليني) بجانب العملات العربية ذات الحضور القوي كالدينار الكويتي والريال السعودي.
المقلق أن هذا التراجع للعملة المصرية لن يكون الأخير، فكل المؤشرات وآراء الخبراء تذهب باتجاه استمرار الانخفاض أمام العملات الأجنبية، مرجعين ذلك إلى سببين: الأول قوة الدفع الأمريكية عبر زيادة معدلات الفائدة بما يسيل لعاب رؤوس الأموال السائلة ودفعها للهرب من الأسواق الناشئة بما ينجم عنه تراجع في حجم العملة الأجنبية ومن ثم زيادة قيمتها أمام الجنيه، والثاني خاص بالرضوخ لشروط صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على التمويل المرتقب.
وتتزامن الضغوط التي تشهدها السوق النقدية في مصر مع استعادة الدولار قوته مرة أخرى بما دفعه نحو الصعود على حساب العملات القوية الأخرى مثل الجنيه الإسترليني واليورو الأوروبي، فيما يتوقع أن تسهم تلك الضغوط في دفع الجنيه إلى خريف مبكر، حسبما أشار الصحفي المتخصص في الاقتصاد عادل صبري، الذي لفت إلى أن تعافي الدولار على حساب الجنيه بدأ حتى قبل الحرب الروسية الأوكرانية، ما يعني أن الارتكان إلى الحرب كـ”شماعة” لتبرير ما يحدث أمر غير موضوعي ويفتقد للدقة.
وعليه يتوقع الكثيرون استمرار تراجع قيمة الجنيه المصري أمام العملة الأمريكية حتى انتهاء مسار المفاوضات مع الصندوق وحصول مصر على القرض المطلوب لسد العجز الذي تعاني منه الدولة حاليًّا وتسديد فاتورة الاقتراض وأقساط الديون وفوائدها، هذا بجانب تمويل المشروعات المتوقفة حاليًّا بسبب عدم وجود العملة الصعبة.
شكوك بشأن السياسة النقدية
تحولت السياسة النقدية المصرية من محل تقدير البعض إلى مثار شك وجدل، وأحيانًا سخرية، ففي الوقت الذي يؤكد فيه الخبراء والمتخصصون في الشأن الاقتصادي ضرورة تبني سياسات محددة وإعادة النظر في الآليات المعمول بها حاليًّا، تصر السلطات المصرية على التمادي في مسارها التقليدي، دون أي اعتبار للمستجدات الأخيرة.
وبينما يطالب المتخصصون بضرورة التعامل مع التطورات الأخيرة في مسار العملة المحلية في مواجهة العملات الأجنبية بأبجديات مغايرة والتعاطي مع المستجدات التي دفعت بقوة نحو استعادة الدولار عافيته على حساب بقية العملات، خرجت الحكومة وعبر أبواقها الإعلامية لتؤكد أن كل شيء تحت السيطرة وأن ما يقال بشأن تفوق الدولار ليس إلا شائعات لاستهداف الاقتصاد المصري في ظل نظرية المؤامرة التي تهيمن على النخبتين، السياسية والإعلامية، في مصر.
وفي الوقت الذي كان الدولار يواصل صعوده عالميًا ومحليًا خرج الإعلامي المقرب من النظام يوسف الحسيني، على القناة الرسمية المصرية (القناة الأولى) ليؤكد أن الورقة الخضراء ستتراجع أمام الجنيه المصري، وبحكم أنه “طالب شاطر في الجامعة ومتخصص في دراسة الاقتصاد” على حد قوله، فإن العملة المحلية ستحقق قفزات كبيرة أمام نظيرتها الأمريكية، بل هو من طالب قبل ذلك بضرورة التخلص من الدولار قبل 15 سبتمبر/أيلول الماضي، حيث سينهار بشكل مفاجئ ويكبد ممتلكيه خسائر فادحة، وفق تصوره.
النغمة ذاتها عزف عليها إعلاميون مقربون من السلطة، على رأسهم أحمد موسى ومن خلال برنامجه المذاع على قناة “صدى البلد” المملوكة لرجل الأعمال وعضو البرلمان محمد أبو العينين، الذي أكد أن الجنيه المصري من أفضل العملات في العالم هذا العام، وأنه سيحقق طفرة كبيرة خلال المرحلة المقبلة، وهو المذيع ذاته الذي استضاف قبل سنوات خبير عسكري أكد أن الدولار سيصل سعره إلى 4 جنيهات قريبًا.
خبراء السياسات النقدية والعملة في مصر يؤكدون أن هناك فجوةً كبيرةً بين سعر الدولار الرسمي في البنوك وقيمته في السوق، منوهين أن سعره السوقي الذي يتعامل به البعض خاصة في التعاملات الجمركية والاستيرادية يتجاوز 22 جنيهًا وهو ما يتسبب في تعميق الأزمة، حيث تتحول الورقة الخضراء إلى “سر عسكري” لا يمكن الكشف عن مكانه ولا تفاصيله.
إصرار الحكومة على سياساتها النقدية دون التعاطي مع المستجدات الأخيرة سيقود حتمًا إلى تأزيم الوضع أكثر وأكثر، وهو ما قد يجد صداه لاحقًا في تحفظ المواطنين في التعامل مع البنوك الرسمية بالدولار، والبحث عن فرق السعر عبر الطرق البديلة
هذه الوضعية الفوضوية من التعامل مع سوق العملات والسياسات النقدية التي تتبناها الحكومة دفعت الخبير الاقتصادي ووزير التضامن الاجتماعي الأسبق جودة عبد الخالق، إلى كتابة مقال تفصيلي لنقد تلك الأجواء التي وصفها بالمسمومة، المقال الذي حمل عنوان: “عفوا.. المصريون ليسوا فئران تجارب اقتصادية”، تطرق فيه إلى تخبط الحكومة المصرية في إدارة اقتصاد البلاد.
وأرجع الخبير الاقتصادي كتابته لهذا المقال إلى ما رأه من “تخبط الحكومة في إدارة اقتصاد البلاد وشئون العباد، وتجرؤ كل من هب ودب على الفتوى فى هذا الشأن الخطير بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. فالشارد والوارد، والشامى والمغربى، وزعيط ومعيط ونطاط الحيط، والجاهل والغافل يفتى فيما لا يعرف”، وأوضح أن “الكل أصبح خبيرًا في الاقتصاد يمارس الإفتاء في شؤونه صباح مساء “لا بد من رفع سعر الفائدة”… “التعويم الكامل والسريع للجنيه هو الإجراء الأفضل”..”السعر الحالي للجنيه أعلى من السعر العادل”..، إلخ. ما هذا الجهل الفاضح؟ وما هذه الحماقة الزائدة؟ لقد أصبح إعلامنا يرتكب سقطات مهنية كبيرة وخطيرة بالترويج لبعض معدومي العلم أو الخبرة، والترويج لهم باعتبارهم خبراء. هذا خبير اقتصادي، وذاك خبير استراتيجي، الثالث محلل اقتصادي …، إلى آخر المستحدثات والبدع. فعلا هُزِلتْ”.
واتهم عبد الخالق الحكومة بتزكية هذا الجو المسموم، سواء بما تقرره من سياسات ثبت فشلها أو بصمتها إزاء تلك الفوضى التي يُحدثها الإعلام التابع للنظام، وهو ما يخلق بيئة طاردة للاستثمار ومعوقة للإنتاج، بما يزيد من تأزم الوضع المأزوم بطبيعة الحال، الذي يحتاج إلى حلول عاجلة بدلًا من صب المزيد من الزيت المشتعل.
عودة السوق السوداء
“إن كانت البنوك لا توفر لي الدولار فلم يعد أمامي إلا البحث عبر طرق بديلة”، هكذا علق (سالم) رجل أعمال مصري (48 عامًا) على أزمة السوق السوداء في بلاده، لافتًا إلى أنه يعاني بداية كل شهر في توفير 10 آلاف دولار يستخدمها في إنهاء أعماله التجارية عبر تبادلات استيرادية وتصديرية مع بعض الدول العربية والإسلامية في الشرق الأوسط.
وكشف رجل الأعمال المصري في حديثه لـ”نون بوست” أنه وقبل 5 أيام تحديدًا ذهب لأكثر من 7 بنوك مصرية، بما فيها بنكان لديه فيهما حسابات خاصة، لكنه فوجئ برفض إعطائه المبلغ المطلوب من الدولارات بسبب عدم توافره بالكامل، منوهًا أن أحد البنوك وفر له 2000 دولار (بالعافية)، وآخر 1500 دولار، فيما اضطر لاستكمال المبلغ المطلوب عبر السوق السوداء، حيث اشترى الدولار بسعر 25 جنيهًا رغم أنه في البنك 19.67 جنيه.
التوجه ذاته أشار إليه “أحمد” الذي يعمل والده بإحدى الدول العربية ويقول بإرسال حوالات شهرية له بالدولار، لافتًا إلى أنه غير مقتنع بالسعر الرسمي الموجود في البنوك، ومن ثم يبحث عن بيع العملة في السوق السوداء لدى أحد تجار الذهب المعروفين لديه، حيث يشتري الدولار بـ22.9 جنيه أي بزيادة قدرها 3 جنيهات عن السعر الرسمي، مضيفًا في حديثه لـ”نون بوست”: ” أنا أولى بفرق السعر ده”.
إصرار الحكومة على سياساتها النقدية دون التعاطي مع المستجدات الأخيرة حتمًا سيقود إلى تأزيم الوضع أكثر وأكثر، وهو ما قد يجد صداه لاحقًا في تحفظ المواطنين في التعامل مع البنوك الرسمية بالدولار، والبحث عن فرق السعر عبر الطرق البديلة، ما يسهم في تنشيط السوق السوداء مرة أخرى، هذا السوق الذي يكبد البلاد خسائر سنوية بالمليارات، فهل تعي الدولة الدرس قبل فوات الأوان؟