نزلت قبل أيام قليلة إلى مسقط رأسي في الجنوب التونسي، قرية بشري ضمن محافظة قبلي الغنية بالتمور الجيدة، خصوصًا صنف دقلة النور، اعتدت في كل عطلة أقضيها هناك رؤية المقاهي ممتلئة، فلا مكان يذهب له الشباب في تلك الربوع للترفيه عن نفسه ونسيان متاعبه إلا المقهى.
لكن هذه المرة كان الأمر مختلفًا قليلًا، فالمقاهي تكاد تكون فارغة، في المقابل لاحظت بعض المجموعات الشبابية الصغيرة المنتشرة في الشوارع، كأنهم في جلسات سرية لا يريدون لأحد أن يعلم فحواها.
بسؤالي أحد الأصدقاء عن السبب، أجاب مباشرة، أن العديد من شباب القرية ويافعيها غادروها نحو إيطاليا ومن ثم إلى فرنسا، ولم يبق إلا من عجز عن توفير المبلغ المطلوب لـ”الحرقة”، أو من فشل في الهجرة وقُبض عليه، لكنه أكد أن الحرقة لم تنته بعد، فالجميع مشروع مهاجر.
يختار أغلب شباب بشري وتونس عمومًا الهجرة غير النظامية عبر المتوسط نحو السواحل الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، تحديدًا سواحل إيطاليا، فهي الأقل ثمنًا رغم خطورتها، والأسرع طريقًا رغم هول ما يرون فيه.
سنحاول في هذا التقرير لنون بوست ضمن ملف “الحرقة التونسية”، التعرف على مسار الرحلة عبر المتوسط، وفهم الأسباب التي تدفع الشباب والعائلات إلى المخاطرة بحياتهم للوصول إلى دول أوروبا التي تشهد هي الأخرى أزمات عديدة.
التحضير للحرقة
كما قلنا في البداية تُعرف محافظة قبلي بالتمور، فأغلب سكانها يمتهنون الزراعة، تحديدًا زراعة النخيل، فمن الصعب جدًا أن تجد عائلة لا تملك واحة نخيل، وهي الشيء الوحيد الذي جعلهم يصبرون على قساوة الحياة في تلك الربوع.
في السنوات الأخيرة قرّر عدد كبير من الشباب، إنشاء واحات جديدة والاستثمار في النخيل، في ظل عدم وجود فرص شغل في المنطقة، لكن ما يُلاحظ في الأشهر الأخيرة تضاعف إعلانات بيع الواحات، فالعديد من الأهالي قرروا البيع.
يقول محمد البالغ من العمر 39 سنة (اسم مستعار) لنون بوست إنه تعب كثيرًا حتى يكبر نخيله، نام ليالي عديدة في العراء، تحمل حرارة شمس الصيف وبرد فجر الشتاء، لكنه الآن قرر أن يتخلى عن مشروعه وعما يربطه بالمنطقة ويبيع الواحة، حتى يؤمن تكاليف “الحرقة”.
أصبحت الحرقة همّ محمد الأول، فهو يستيقظ على الحديث عنها وينام عنها، وكل كلامه وتفكيره فيها، كباقي شباب تونس، لكن من سوء حظه أنه لم يتقدم أحد لشراء واحته، فالعديد من الواحات معروضة للبيع كما أن الكثير من الزراعيين أصبحوا يتجنبون النخيل لتراجع أسعار التمور وانحسار طبقة المياه.
كان أمام محدثنا حلّ وحيد، وهو بيع دراجته النارية واقتراض بعض المال من أقاربه، فهو يُريد جمع 5 آلاف دينار، تكلفة الرحلة، وكان له ذلك، إذ تمكن من جمع المال المطلوب، وينتظر الاتصال به وتحديد ساعة الصفر.
قرّر محمد ترك زوجته وطفله الصغير ورائه، على أمل أن يصل إلى فرنسا ويؤمن لهما مستقبلهما وفق قوله
أما معتز (اسم مستعار) الذي لم يتجاوز عمره 20 سنة فقد قرّر أبوه أن يرسله إلى فرنسا عبر قوارب الحرقة هو وأخاه ظافر (اسم مستعار) البالغ من العمر 16 سنة، بهدف أن يتم إيواؤهما في أحد الملاجئ أو دور الرعاية وتدريسهما ومنحهما أوراق إقامة رسمية بعد ذلك.
تعمد العديد من العائلات التونسية إلى إرسال أبنائها الصغار ممن لم يتجاوزوا 18 عامًا إلى فرنسا أو إيطاليا، وهناك تتكفل الدولة بتدريسهم ورعايتهم ومن ثم منحهم أوراق إقامة في تلك الدولة، وهو ما يؤمن مستقبلهم.
لم يكترث معتز وظافر بمسألة المال، فالوالد ميسور الحال، وقد اختار لهما “حرقة VIP” مريحة لا تعب فيها، فالمهم أن يصلا إلى سواحل إيطاليا دون ضرر ولا تعب، فهو يرى أن الوضع في تونس متأزم ولا مكان لولديه فيه.
في المقابل كان خليل (27 عامًا) أقل حظًا من صالح ومعتز وظافر، فقد حاول كثيرًا تأمين تكلفة الحرقة لكنه لم يستطع وعائلته لا تكاد تجد قوت يومها، فما بالك بتأمين آلاف الدنانير، لكنه لم ييأس ولم يبق مكتوف الأيدي، ونجح في اقتراض جزء كبير من المبلغ على أمل إرجاعه عندما يصل أوروبا ويعمل.
كل شيء يشجع على الحرقة
قرر محمد ترك زوجته وطفله الصغير ورائه، على أمل أن يصل إلى فرنسا ويؤمن لهما مستقبلهما وفق قوله “هاك تشوف بربي، مفماش حاجة تعجب في هالبلاد كان التعب والمزيريا والهمّ، على الأقل نخرج وندبر شوي فلوس نعيّش عيلتي”.
ويضيف بحسرة “كل شيء حابس (متوقف) لا خدمة لا شيء، حتى جماعة فرنسا تعبوا برشا راهم أما ديما يبقوا خير منا، على الأقل يدبروا شوي فلوس ويضمنوا مستقبلهم ومستقبل عايلاتهم مش كيفنا كان خدمنا ناكلوا ما خدمناهم نبقوا بالجوع، كل شيء يشجع على الحرقة راو، مفما شيء يخليك قاعد في تونس، لا خدمة لا قدر لا قيمة.. بالعكس كرهونا في بلادنا، حبينا نخدموا ما خلوناش.. ديما لاحقين الزوالي، مسيبين الكبارات وشادين فينا نحن الفقراء.. ربي يصبرنا ويفرج علينا”.
استثمر محمد كل ماله في واحته الصغيرة، لكن خلال السنتين الأخيرتين عرف قطاع التمور أزمةً كبيرةً، فالتجار الكبار يتلاعبون بالمزارعين والدولة في صمت مطبق لا تتدخل، بل العكس زادت إجراءاتها الاقتصادية المتتالية من حدة الأزمة.
واقع تونس المرّ .
” بلاد ما تحنّش على أولادها ، أولادها ما يحنّوش عليها ” #الحرقة_مرّة pic.twitter.com/ZgUxGWMjvj
— Bom Dom (@BomDom13) October 5, 2022
أحجم العديد من التجار على شراء التمور وتخزينها، مخافة اتهامهم بالاحتكار والتلاعب بالسوق، وهو ما أدى إلى تراجع أسعار دقلة النور وتراجع الطلب عليها، ما أثر كثيرًا على الفلاحين الصغار الذين لا مورد رزق لهم غير النخيل.
يقول محمد إنه استبشر كثيرًا بسيطرة قيس سعيد على كل السلطات ليلة 25 يونيو/حزيران 2021، لكنه الآن ندم عن كل كلمة حسنة قالها في سعيد، فقد أثبت الرئيس فشله، وتسبب في تزايد متاعبهم في الجنوب التونسي.
يذكر أن محدثنا حاصل على الأستاذية في اختصاص العلوم التجريبية، لكن المحسوبية المنتشرة في البلاد حرمته حقه في العمل، لذلك قرر العمل في مجال النخيل لكنه الآن قرر أن يهاجر ويرحل مهما كلفه الأمر.
التوجه نحو قرقنة
قبل سنوات كان الوصول لأحد المهربين صعبًا، فهي مهمة تتطلب وقتًا طويلًا وجهدًا كبيرًا ومالًا أيضًا، لكن في الأشهر الأخيرة تزايد عدد المهربين الذي ينظمون “الحرقة” نحو السواحل الإيطالية لازدياد الطلب عليهم وتراجع المراقبة الأمنية ضدهم.
مساء إحدى ليالي شهر أغسطس/آب الحارة، رن هاتف محمد، اتصال من أحد أبناء قريته الموجودين في صفاقس يُخبره فيه بضرورة التوجه نحو جزيرة قرقنة في الغد، فموعد الحرقة قد تقرر وكل شيء على ما يرام، وعليه ألا يخبر أحدًا بالأمر.
فجر اليوم التالي توجه محمد نحو مدينة قابس ثم صفاقس، لكن هناك بدأت المشاكل، فالدخول إلى الجزيرة صعب، فغالبًا ما يتعرض الشباب التونسي قبل صعودهم على متن “البطّاح” – العبّارة التي تُقل المسافرين من ميناء صفاقس إلى جزيرة قرقنة – إلى حملات تفتيش أمنية ومنع من الولوج إلى الجزيرة، في إطار ضبط الهجرة غير النظامية.
اضطر محمد إلى دفع 700 دينار لتأمين دخوله إلى الجزيرة الفقيرة المهمشة، خلافًا لجزيرة جربة الجنوبية
يشمل المنع في أكثر الأحيان الفئة الشبابية، خاصة القادمين من المناطق الداخلية، ويُسمَح عادة بالعبور لكبار السن والأطفال والمقيمين بالجزيرة، وهو ما خلق شبكات هجرة غير نظامية داخلية تربط أساسًا بين شواطئ صفاقس وجزيرة قرقنة.
تعتبر جزيرة قرقنة، إحدى بوابات العبور الرئيسية إلى السواحل الأوروبية وتشهد شواطئ الجزيرة الواقعة وسط شرق البلاد على بعد كيلومترات من صفاقس نشاطًا مكثفًا لرحلات الهجرة غير النظامية، خاصة في فصل الصيف.
اضطر محمد إلى دفع 700 دينار لتأمين دخوله إلى الجزيرة الفقيرة المهمشة، خلافًا لجزيرة جربة الجنوبية، فالمجموعة في انتظاره وقارب “الحرقة” سينطلق ليلًا، وهو ينتظر هذه الليلة منذ زمن طويل، فهي التي ستغير مجرى حياته وفق اعتقاده.
يقول محمد إنه تعرف على المهرب الذي سيرافقه في رحلة الحرقة إلى سواحل جزيرة لامبادوزا الإيطالية عبر وسيط يعمل في منطقته، حيث تزايد عدد الوسطاء في الأشهر الأخيرة كونها تجارة مربحة لا تعب فيها، فالوسيط يحصل على مبلغ يناهز ألف دينار مقابل اتصال هاتفي مع المهرب للتنسيق معه.
عند منتصف الليل كان محمد في شاطئ قرقنة، التقى هناك بعدد كبير من أبناء منطقته، أخبرهم الحراق أن الرحلة ستبدأ خلال ساعة وعليهم أن يسلموه المبلغ المطلوب وهو 5 آلاف دينار (1550 دولارًا) وأن يصعدوا إلى المركب (الشقف) وينتظروه إلى أن يأتي بالمحرك.
ركب الجميع إلا محمد، فقد رفض تسليم المبلغ وأحس أن في الأمر شكًا وقال للحرّاق إنه سيدفع متى عاد بالمحرك، فالساعة الآن منتصف الليل وتركيب المحرك يتطلب وقتًا، وإن طلعت شمس النهار يصعب حينها “الحرقة” فـ”العيون محلول وقتها”، وفق قول محدثنا.
رفض محمد الصعود وبقي ينتظر مكالمة تخبره بقدوم الحراق وقرب انطلاق الرحلة، رنّ الهاتف على الساعة السابعة صباحًا وطلب منه القدوم فرفض ذلك، فهو يعلم أن الرحلة لن تنجح، ذلك أن إحساسه أخبره ذلك، فهو خبرة في هذا المجال.
يقول محمد إنه جرب الحرقة في أكثر من مرة ولم يفلح للأسف، وتم التاحيل عليه في مرتين، إلا أنه الآن لا يقبل أن يتحايل عليه أحد ويسرق نقوده التي تعب كثيرًا حتى يؤمنها “يزي ما تضربت يا خويا.. حصلت برشا مرات، وتوا معاش فيا”.
يعلم محدثنا أن أمرًا ما سيحدث، لكنه غادر جزيرة قرقنة مكفهر الوجه لا يعلم وجهته، فالطريق أمامه مظلم لشدة حزنه، اتصل به العديد من أصدقائه لكن لم يجب، فهو يشعر بالعار، كيف “حرق” الآخرين وبقي هو.
في المساء، جاءه اتصال من أحد الأصدقاء الذين كان من المبرمج أن يحرق معهم، رد عليه بسرعة وسأله أين وصلتم، لكن صُدم بالجواب “هنا في صفاقس ما عندنا وين مشينا.. حصلنا وسلكتها كان انت يا ولدي”.
يقول صديق محمد إن تشابكًا بالأيدي حصل فوق المركب بعد أن اكتشف مجموعة من الركاب أن المحرك الموجود ضعيف ولا يفي بالحاجة، وقد اتصل أحدهم بالأمن البحري للتدخل وإجبار المركب البالي على العودة خوفًا على حياة الركاب.
“الحرقة” من جربة
لا تقتصر الحرقة على قرقنة، ففي جزيرة جربة توجد العديد من المنافذ أيضًا، وقد حدثنا سليم عن إحداها. لم يتجاوز سليم بعد سن السابعة والعشرين، لكن قسوة الحياة وانعدام فرص التشغيل في محافظة قابس التي يسكن إحدى قراها دفعاه للهجرة غير النظامية.
“أنا عندي مدة من قبل نلوج كيفاش بش نخرج لبرا ومبعد سمعت بواحد صاحبي نعرفو حرق مشيت حكيت معاه وقلي هاو مزال فما خيط آخر”، يبدأ سليم يحكي لنا قصته مع الحرقة ويضيف “أنا ماخممتش ياسر وخذيت رقم السيد وحكيت معاه وتفهمنا الفلوس وكل شيء”.
مرّ الأمر بسهولة، حيث التقى محدثنا مع “المهرب” وسلّمه 5 آلاف دينار، على أن ينتظر منه اتصالًا هاتفيًا يخبره بموعد “الحرقة”، بعد 4 أيام اتصل به ليلًا وأخبره بالقدوم وجلب حقيبته اليدوية إلى جربة، فالرحلة تقرر موعدها.
في الصباح الباكر توجه سليم إلى الجزيرة، هناك توجه إلى إستوديو صغير مخصص لتجميع المجموعة، بقي هناك يومين، في كل ساعة يتم إخبارهم بأمر جديد، مرة يقولون لهم إن الشرطة كثفت المراقبة ومرة أن الشقف أي المركب لم يأت بعد.
لا تعتبر الجزر الطريق الوحيد نحو السواحل الإيطالية، إذ توجد العديد من الشواطئ التي تنطلق منها مراكب الحرقة التونسية
منتصف الليلة الثالثة، جاءهم الأمر بالخروج والتوجه إلى نقطة معينة في شاطئ الجزيرة، في منتصف الطريق اعترضتهم سيارة بها عدد آخر من المهاجرين صعدوا معهم وأكملوا الطريق نحو المكان المحدد.
دقائق معدودة، حتى وصلوا إلى النقطة المتفق عليها بجانب المركب، وتطلب صعودهم وتركيب المحرك نصف ساعة لارتفاع عددهم، فقد فاق العدد 70 شخصًا، لتبدأ بعد ذلك الرحلة، “في اللحظة هذكه توكلنا على ربي ما عندك ما تقول كان قضي الأمر يا توصل يا إنا لله وإنّا إليه راجعون”.
بعد قرابة 6 ساعات من الإبحار، توقف المحرك فجأة، صمت الجميع الكل ينظر إلى “الريّس” (المهرب) وعلامات الخوف سيطرت عليهم، إلى أن قال لهم: “ما تخافوش ماتخافوش مفماش مشكلة جيست المتور (المحرك) تضرب في سطل ماء وهاو بش يخدم”.
تنفس الجميع الصعداء وعادت الابتسامة إليهم وصاح العديد منهم فرحًا، فلوهلة كان شبح الموت في البحر أمامهم، لكن في الحياة بقية، تواصلت الرحلة والبحر يحيط بهم من كل جانب وشمس الصيف فوق رؤوسهم، ما أدى إلى إغماء عدد منهم.
كان سليم من جملة من فقدوا وعيهم، فهو لم يكن معتادًا البحر، وقد نصحه بعض الركاب بشرب ماء البحر حتى تساعده على التأقلم، وكان ذلك بالفعل، ومن شدة تعلقه بلامبادوزا لم يحس محمد بملوحة ماء البحر الأبيض المتوسط.
توقف المحرك مرة أخرى لكن هذه المرة، خطأ من الريس سرعان ما تداركه، “عودنا مشينا لحق، ربي كان معانا والبحر كي الحليب طريق كامل في طريق”، في أثناء الإبحار اعترضهم العديد من الصيادين الذين قدموا لهم الماء والخبز والدلاع.
مرت ساعات حتى نسي “الحراقة” أنهم في عرض البحر، بدأ الغناء والضحك، وفيهم من جلس يتمتع بالمنظر الطبيعي، خاصة مع بدء الشمس في الغروب ومنهم من تكفل بتوثيق الرحلة، حتى يتم نشرها ما إن يصلوا إلى سواحل إيطاليا.
ما إن بدأ الليل يُرخي سدوله، حتى بدأت أضواء لامبادوزا تتراءى لهم، فرح الجميع، فالفرج قادم وهم على موعد قريب مع تحقيق حلم كبير، مرت 3 ساعات ثقيلة، خاصة أنهم عرفوا أن البنزين لم يعد يكفي لإتمام الرحلة، إذ لم يبق لهم إلا 25 لترًا من أصل 350 لترًا حملوها معهم.
رفع الجميع أكفهم نحو السماء، داعين الله أن يحميهم وينجيهم ويحقق حلمهم، وقت قليل حتى وصلت مركبة إيطالية كبيرة (سكادرة)، ركب فيها الجميع مهرولين وأكملت بهم الطريق نحو سواحل الجزيرة الإيطالية لامبادوزا.
جرجيس والمهدية وبنزرت وسواحل أخرى
لا تعتبر الجزر الطريق الوحيد نحو السواحل الإيطالية، إذ توجد العديد من الشواطئ التي تنطلق منها مراكب الحرقة التونسية، ففي الشمال نجد شواطئ محافظة بنزرت وفيها العديد من نقاط الانطلاق، خاصة أن المحافظة فيها أقرب نقطة نحو أوروبا.
نبقى في الشمال، تحديدًا في محافظة نابل ونذكر الهوارية وقليبية، إذ تستقبل هذه القرى الساحلية البسيطة المئات من الشباب سنويًا، قاصدين أوروبا، مستغلين ضعف الانتشار الأمني هناك وصعوبة تعقب الحراقة بين الجبال والأشجار.
يظن جميع الحارقين أن متاعبهم انتهت بوصولهم نحو السواحل الإيطالية، لكن المتاعب تبدأ هناك
أما في الوسط، فنجد سواحل المهدية القريبة من محافظتي سوسة والمنستير السياحيتين، ويختار العديد من التونسيين شواطئ هذه المدينة للحرقة لأن الأنظار لا تسلط عليها بكثرة كما هو الحال في جزيرتي جربة وجرجيس، وهناك عدد قليل من يختار شواطئ المنستير وسوسة للحرقة.
هناك المئات أيضًا يحرقون من سواحل مدينة جرجيس القريبة من جربة والتابعة لمحافظة مدنين جنوب البلاد، وأغلب سكان الجنوب يختارون هذه الشواطئ لارتفاع عدد المهربين هناك وسهولة التعامل معهم على عكس الموجود في سواحل الشمال.
متاعب إيطاليا
يظن جميع الحارقين أن متاعبهم انتهت بوصولهم نحو السواحل الإيطالية، لكن “العذاب الصحيح طلع غادي في إيطاليا”، وفق أشرف الذي وصل لامبادوزا في مركب صيد مع 6 تونسيين فقط، وتعتبر هذه الحرقة VIP مقارنة بالتي سبق أن تحدثنا عنها، لذلك يدفع الحارق من 8 إلى 9 آلاف دينار (من 2460 إلى 2780 دولارًا).
عادة ما يؤمن هذه الحرقة التي برزت مؤخرًا صيادون، يحملون معهم من 6 إلى 8 أشخاص في قارب صيد مجهز، على أساس أنهم في رحلة صيد بحرية، وفي معظم الأوقات يصل الحراقة سواحل إيطاليا دون مشاكل تُذكر، هناك يجدون الشرطة الإيطالية في انتظارهم التي تضعهم في مركز لإيواء المهاجرين غير النظامين.
بالرجوع إلى المتاعب في إيطاليا، يقول أشرف: “باش تاكل شوي خبز لازمك تشد الصف أكثر من 3 ساعات وممكن في الآخر، يوفى الخبز وما توصل لشيء، تبقى جيعان لا ماكله لا شراب وزيد من فوق الذّل والإهانة ولازمك ترضى وتسكت”.
بقي أشرف في المخيم أسبوعًا كاملًا، ينتظر ساعة السماح لهم بالخروج أو نقلهم إلى مكان آخر، خلال تلك المدة تم سؤالهم عن سبب قدومهم وغيرها من الأسئلة المملة المتكررة التي يعرف الإيطاليون أجوبتها أكثر من التونسيين أنفسهم.
بعد أسبوع، تم نقله مع 500 تونسي في مركب كبير من لامبادوزا إلى مدينة سيسيليا الساحلية، يقول أشرف إن ذلك اليوم لن ينساه مدى حياته، “خلونا من وقت ماهزونا، طيشولنا ڨدمة خبز وطرف روز أبيض وخلونا في البرد وعلى الأرض ثنية كاملة”.
يواصل حديثه لنون بوست “خرجنا 10 متع ليل وصلنا 10 متع صباح يمكن ومحبوش يهبطونا كان قريب 9 متع ليل والشمس فوق ريوسنا، مكفناش ليلة كاملة تحت الصرد مبعد نص ليل بش عطونا كيف كيف روز أبيض ما عندوش طعمة، ما كلاه حد رغم الجوع”.
خيّل لأشرف أنه سيتم الإفراج عنهم في تلك الليلة، لكن تم نقلهم مجددًا إلى مركز آخر للاجئين قريب من لامبادوزا، إلا أنه أفضل من الأول وأنظف منه، والجميل أن أغلب المقيمين فيه من تونس وعدد قليل فقط من المغرب ومصر.
تعتبر فئة الشباب أكثر الموجودين في المركز وفق أشرف، لكنه يخبرنا أيضًا أن في المركز تعرف على العديد من العائلات التي قدمت من تونس، وهناك أيضًا بنات وقصّر قرروا خوض غمار المغامرة رغم خطورتها، فالوضع في بلادهم لا يحتمل.
ليس هذا فحسب، إذ تعرف محدثنا على عدد من المهاجرين الحاصلين على شهادات علمية وخريجي الجامعات وبعض الموظفين أيضًا، ما يعني أن ظاهرة الحرقة التونسية أخذت أبعادًا أخرى في السنتين الأخيرتين.
بقي محدثنا هناك أسبوع، خلاله هرب العديد من التونسيين، لكنه قرر البقاء، فأقرب مدينة للمخيم تبعد 15 كيلومترًا وهو لا يملك إلا 5 يورو فقط، أي أن الهرب مشروع فاشل بالنسبة إليه وانتظر إلى حين يتم الإفراج عنه، خاصة أنه يوجد فرضية إمساكه وترحيله إن قرر الهروب.
الرحلة نحو باريس
بعد 7 أيام، بدأت عملية الإخلاء، تسمر أشرف في مكانه لدقائق ينتظر رقمه، وما إن نادوا عليه حتى أخذ حقيبته اليدوية وذهب مسرعًا إلى الحافلة التي أقلتهم نحو مدينة صغيرة اسمها “رڨوزا”، أول أمر قام به عند الوصول إلى المدينة شراء كوب من القهوة بالقطعة المالية التي لديه.
احتسى أشرف قهوته في مهل، بقي يسترجع مسار الرحلة حامدًا الله على سلامته، ثم قرّر المواصلة وعدم التوقف هناك، اتصل بأحد أصدقائه الذي حجز له تذكرة سفر من “رڨوزا” إلى روما على أن ينتقل من هناك إلى العاصمة الفرنسية باريس.
من سوء حظ أشرف أنه لم يدرك موعد الحافلة، فاضطر للنوم في العراء تحت جسر (ڨنطرة)، في الغد صباحًا وصلته حوالة بريدية من صديق آخر بقيمة 50 يورو، وحجز له تذكرة ثانية إلى مدينة تورينو مرورًا بمدينة نابولي.
وصل أشرف إلى نابولي في الليل، نام ليلته في إحدى الحدائق هناك، وفي صباح اليوم التالي كان عليه أن يتصل بأحد المهربين حتى ينقله من المدينة إلى فرنسا، لكنه لم يعرف كيف يحول له النقود ما دفعه إلى المخاطرة والصعود في حافلة من نابولي إلى باريس مباشرة.
حالفه الحظ هذه المرة، إذ وصل العاصمة الفرنسية بسلامة ولم تعترضه أي مشكلة في الطريق، وهو الآن مع بعض أقاربه وأصدقائه في باريس، ينتظر فرص إيجاد عمل يبدأ به مسيرته في أوروبا ويكون أول طريقه لتحقيق حلمه.
عرفت تونس في الأشهر الأخيرة، تصاعد المآسي الإنسانية التي تحصل على أميال من شواطئها الهادئة
على بعد نحو 400 كيلومتر جنوب باريس، تحديدًا في مدينة ليون، يتجول معتز وأخوه ظافر في الشوارع مع عمهما الذي توجه نحو إيطاليا ونقلهما إلى فرنسا على متن سيارته الخاصة على أن يلتحقا بمدرسة للدراسة.
كانت عائلة معتز تأمل في أن يلتحقا بإحدى المدارس الداخلية إما في فرنسا وإما إيطاليا للدراسة، على أن يحصلا على وثائق إقامة عند بلوغ الثامنة عشرة (يبلغ عمر معتز 20 سنة لكن يمكنه البقاء مع أخيه في المدرسة ومرافقته)، لكن تغير البرنامج.
لم يرض الولدان بالبقاء في المدرسة، فقد اختارا الهرب منها بحجة عدم توافر الأكل بالكميات الكافية وافتقادهما لأهلهما، ما اضطر عمهما إلى نقلهما لبيته على أن ينظر ماذا يفعل معهما، خاصة أنهما لا يقدران على العمل لصغر سنهما.
بعد نحو شهر من وصولهما إلى فرنسا، يفكر معتز وظافر بالعودة إلى تونس، إلى العائلة حيث لم يستطيعا التأقلم مع الحياة الجديدة، وندما على مفارقة أمهما وأبيهما وأختهما الصغرى التي تبكي عند كل اتصال هاتفي بهما.
أوجاع كثيرة
ارتفع عدد المهاجرين التونسيين غير النظاميين الذين وصلوا سواحل أوروبا، لكن ارتفعت معهم أيضًا أوجاع عائلات تونسية كثيرة، ففي الوقت الذي نكتب فيه هذا التقرير، سمعنا خبر وفاة 18 مهاجرًا في البحر أغلبهم من مدينة جرجيس جنوب البلاد، بينهم بنات وقصر.
عرفت تونس في الأشهر الأخيرة، تصاعد المآسي الإنسانية التي تحصل على أميال من شواطئها الهادئة، حيث توفي العشرات غرقًا، وتبقى صورة غرق أم تدعى شهيدة وابنها الصغير خلال محاولة هجرة غير نظامية الأكثر ألمًا.
بلغ عدد ضحايا “الحرقة” من السواحل التونسية خلال الأشهر التسع الأولى من هذه السنة 507 ضحايا، فيهم عدد كبير من تونس، وأصبحت حوادث غرق القوارب التي تقل مهاجرين غير نظاميين تتكرر بشكل شبه أسبوعي، حتى أصبحت خبرًا رئيسيًا معتادًا في نشرات الأخبار.
رغم أخبار الموت ومشاهد الغرقى على السواحل، يأبى عدد كبير من شباب تونس أن يعدلوا عن فكرة “الحرقة”، ذلك أن عددًا كبيرًا منهم فقدوا الثقة في الدولة وفقدوا الأمل في التغيير، واقتنعوا كل الاقتناع بضرورة المهجرة في أقرب أجل.