حمى الله المعارضة في تونس من كل سوء، فنحن سننزل معها الشارع ضد الانقلاب بعد صيف مرح ومريح… لكن دون إيمان كبير بجدوى ما تفعل هذه المعارضة الخلوقة المهذبة.
لقد تقدّمَت إلى وزارة داخلية الانقلاب بطلب ترخيص أنيق بالتظاهر والتجمهر، وهو تقليد قانوني سليم تأسّس بالثورة الرومانسية التي كشفت لنا أيضًا وجه المنقلب، وأسمعتنا صوته وقد كان يمرّ في الطريق فلا يراه أحد، لكن لا بأس نحن لا نزايد على المعارضة إذ لم نملك شجاعة الخروج دونها.
هل يكشف الخروج إلى الشارع بعد انقضاء حمارة القيظ خطة محددة تستهدف وجود الانقلاب، أم هو رفع عتب بعد الصمت الصيفي الطويل؟ الندوة الصحفية التي سبقت مظاهرة السبت القادم (8 أكتوبر/ تشرين الأول)، لم تقدم خطابًا جديدًا وكررت شعارات فارغة على نفس الألسن الحاذقة، لذلك سنكتب ملاحظاتنا في انتظار سماع الشعارات/ الخطابات التي ستُرفَع في المظاهرة والوقفة التقليدية أمام المسرح.
المعارضة عندي هي جبهة الخلاص ومن ناصرها
أنا المواطن (الجمهور) الذي تسير المعارضة بمطالبه ضد الانقلاب، وبصفتي هذه أمنح نفسي الحق في تصنيف من يعارض إلى معارضة جادة وأخرى مزيفة أو كاذبة أو منافقة للمواطن (أنا).
عندي، إن الخماسي محتكر الديمقراطية لنفسه هو معارضة مزيفة ومنافقة، لأنه فاقد للرؤية الديمقراطية من وجهتَين، أولاهما أنه سار مع الانقلاب مضحيًا بالدستور والديمقراطية، فلمّا خاب (أو طُرد) تظاهر بالمعارضة، وثانيهما أنه لا يزال يروّج لقدرة خاصة على إسقاط الانقلاب دون العمل مع المعارضة، بزعم أنها مدخولة بالإسلاميين الذين لا حق لهم في الحياة.
بناءً على هذا، أصطفي لسلامة الموقف السياسي والأخلاقي جبهة الإنقاذ ومن معها، كمعارضة وحيدة يمكن السير معها وتبجيل موقفها ونقد تحركاتها عند الاقتضاء، ولا أستسلم لذلك المنطق الأخلاقوي الذي يقول إن التجميع (الكمّ دون النوع) مقدَّم على سلامة الموقف أو مفضَّل على المحاسبة على ما مضى.
وقد كتبت في موضع سابق أن سيّئات الانقلاب أيسر حملًا من نفاق المعارضة التي تدّعي الديمقراطية، وهي تنام على عقل استئصالي، المعارضة الجدّية تنزل الشارع يوم السبت، فبأي برنامج وبأي أفق ستفتح موسمها السياسي؟
جبهة معوقة بقائدها
معارضة الانقلاب الجادة والحكيمة كانت في ائتلاف “مواطنون ضد الانقلاب” الذي سبق الجميع ووضع البوصلة الديمقراطية القائمة على دستور 2014 ضد الانقلاب، وكانت التحركات الأولى ترسم الطريق القويم وإن بعدد محدود من الأشخاص، وكانت هبّة الشارع الأولى خلفهم منذ 18 سبتمبر/ أيلول 2021 عفوية وصادقة وواعدة حتى الوصول إلى إضراب الجوع في يناير/ كانون الثاني 2022.
الحاجة إلى توسيع الجبهة فتحت الباب للتنسيق مع مكونات أخرى معارضة، أهم أسمائها السيد نجيب الشابي، وقد رُحِّب به ففرض شروطه أن يكون الرقم واحد وكان هذا مدخلًا لفشل ذريع في تقديري، لقد جرَّ المعارضة لشخصه ولزعامته فعطّل كل الكفاءات الشابة (والمؤسسة فعلًا) بالجبهة، وذيّلها لخطابه وغيّبها خلف أناقته وموقفه الرجراج، ونظنه عائدًا لوضع المعارضة خلفه مرة أخرى وترسيخ موقعه وموقفه المتحذلق، فما سمعناه من خطاب الإعلان عن العودة السياسية لا يختلف في لفظ واحد عمّا استكانت عليه الجبهة في أول الصيف.
لقد منعت الجبهة نفسها من الترقي السياسي والاقتراب من كفاءات كثيرة ومن جمهور واسع، بتقديم السيد الشابي المستهلَك (المستنفَذ الصلاحية السياسية)، وكانت الحجّة غير المعلنة للأسف هي أن للرجل شبكة علاقات مع السفارات سيوظفها لصالح المعارضة، وأن له دفتر عناوين فعّالًا، وأن له ماضيًا شريفًا.
من كل هذه الامتيازات لم نرَ على الأرض سندًا من أحد، ولم تنفع زعامته التي محّصها الشارع فلم يمنحه في أية انتخابات سابقة تقدّمَ لها ما يكفيه ليكون زعيمًا أو شبه زعيم، لقد أعاقت الجبهة نفسها بتقديم السيد نجيب، لقد حقّرت كفاءاتها وصرفت عنها أنصارها، ولقد تمَّ ذلك بتواطؤ كبير من زعامات النهضة وكان هذا عائقًا ثانيًا.
النهضة تتأنّى في المعارضة
وكان من وجوه التأنّي أن قدّمت الشابي (أو رضيت بزعامته) على جبهة الإنقاذ، فهي في الواقع مالكة الجمهور الكبير الذي يملأ الشارع، وبهذا الجمهور استنصر كثيرون ونزلوا، وجد الشابي ضالته فامتلأ بالزعامة، ووجدت النهضة ضالتها فحرّكت الشارع دون أن تتصدر أو تستسلم.
لكن الانقلاب أيضًا اطمأنَّ وتقدّم فطرح الاستشارة دون وَجَل، ثم طرح الاستفتاء ونشر دستوره وألغى دستور المعارضة، وهو يتجه حثيثًا لانتخابات وبرلمان يستكمل به شكل الدولة المراد منه خارجيًّا، والذي سبق له تحطيمه بلا حياء.
والنهضة في الأثناء تتأنّى، وأظنها تعود متأنّية في خريف العام الثاني للانقلاب، لذلك مظاهرة يوم السبت ستكون أقرب إلى رفع العتب منها إلى بداية الحسم مع الانقلاب على الأرض، ونحن نعاين ضعف التعبئة التي اعتادت النهضة إطلاقها في نزولها الجدّي إلى الشارع.
سيعاد إلينا السؤال الذي يتحدّى به جمهور النهضة المعارضات، جدّيها ومنافقيها، لماذا على النهضة وحدها أن تواجه الانقلاب؟ وترجمة هذا السؤال عمليًّا “اصنعوا لكم جمهورًا وعارضوا وتوقفوا عن استخدام جمهور النهضة”، وجمهور النهضة محق في تحدّيه، وربما هو سبب التأنّي النهضوي في المعارضة، لكل معارضة كلفة بعضها دم، فهل دفعت المعارضة الثمن أو بعضه؟
هنا يُطرَح المشروع السياسي المعارض بجدّية، ولا نرى عودة المعارضة إلى الشارع ستحمل هذا المشروع البديل، ما دامت تقدّم عليها الزعامات المستنفَذة والفاقدة لأية مشروع غير ذواتها، وما دامت تتواكل على جمهور حزب النهضة وتعيد على مسامعه خطابات سمعها. المطلوب في مواجهة انقلاب يستعد للبقاء بناء معارضة جديدة بمشروع جديد، فمن لها؟
المعارضة الجدّية ومشروعها
لا شيء كان يعيب الوجوه السياسية التي التقت في ائتلاف “مواطنون ضد الانقلاب” ليقدم عليها غيرها ويضعها في صف خلفي، لقد كتب الائتلاف الجمل السياسية المناسبة للمرحلة والدالة على الطريق، وهو من رتّب الصفوف الديمقراطية ضد الانقلاب، وجُمَله تقود الشارع الحقيقي والافتراضي منذ سنة ونيف. هل كانت تنقص الائتلاف ثقة في مقدراته؟ نعم، كثيرون لم يؤمنوا بما فعلوا وربما فاجأهم إقبال جمهور واسع متعطّش للديمقراطية عليهم.
نرى أول خطوات المعارضة الجادة هي استعادة الائتلاف لجمله السياسية المؤسِّسة، والبناء عليها لنقد ما حصل منذ إضراب الجوع خاصة، ولنقد عمل المعارضة أيضًا مثل تقديم السيد نجيب ومثل التواكل على جمهور النهضة الذي لا يتجاوز قياداته ومشروعهم الحزبي، ومثل محاولات التوافق مع المعارضة الكاذبة التي انكشفت سفاهتها.
قد يكون جمهور هذا الائتلاف قليلًا لكنه لن يكون جمهورًا مدخولًا أو ممزقًا بين ولاءات كثيرة، سيكون طليعة عمل معارض بجُمَل واضحة وفعّالة، فهذا الائتلاف محتاج إلى نصٍّ سياسي واسع ودقيق أكبر من تخطيط تحرك ميداني أو تفسير موقف من حادثة بل مشروع يحمل روح دستور 2014 ويتجاوزها نحو أفق سياسي ديمقراطي، وقد كتبنا في هذا الموقع بضرورة صياغة هذا النص منذ أول الصيف، فلم يُكتَب النص ولكن لا يزال هناك متّسع من الوقت سيخلقه الانقلاب بعد أن يشكّل برلمانه.
ولنختم ما لا يختم في مقال، إن أول خطوات المعارضة الجادة هي التوقف عن انتظار سقوط الانقلاب من تلقاء نفسه، والترويج لقوى خيرة ستساعد على إسقاطه، ولعلّ هناك قناعة يجب ترسيخها في أول الطريق، إذا قامت انتفاضة الجياع فستسوق أمامها المعارضة قبل الانقلاب مثل سيل عرمرم.